676 ألف عربي يموتون سنوياً قبل الأوان لأسباب بيئية
جائحة "كورونا" كشفت ضعف أنظمة الرعاية الصحية
يُطلق المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) اليوم تقريره السنوي الثالث عشر في سلسلة "وضع البيئة العربية"، وذلك في مؤتمر دولي افتراضي تستضيفه الجامعة الأميركية في بيروت. ويشارك في المؤتمر خبراء وباحثون من بلدان عدّة، يرتبطون إلكترونياً عن طريق غرفة مركزية للتحكم. هنا أبرز ما جاء في فصول التقرير السبعة عن الصحة والبيئة من نتائج وتوصيات:
الصحة والبيئة تتكاملان، وفقاً لمعادلة تقوم على استحالة وجود مجتمع إنساني يتمتع بصحة سليمة إذا كانت البيئة الطبيعية ملوثة، في مقابل استحالة الوصول إلى بيئة سليمة في مجتمع تتدهور فيه صحة الإنسان. إن معدل الوفيات المنسوبة إلى العوامل البيئية آخذٌ في الارتفاع، وهو يقدّر حالياً بنحو 23 في المائة من مجموع الوفيات في المنطقة العربية. يسلِّط تقرير المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) عن الصحة والبيئة في البلدان العربية الضوء على المخاطر الصحية البيئية الرئيسية التي تواجهها المنطقة، مع التشديد على التوصيات والدروس التي يمكن تعلّمها من الأزمات البيئية والصحية، السابقة والحالية، بما في ذلك جائحة كورونا (كوفيد-19).
تواجه المنطقة العربية مجموعة من العوامل الخطرة المؤثرة على الصحة، بينها ممارسات التنمية غير المستدامة، وحالات الطوارئ الإنسانية الناجمة عن النازحين واللاجئين، والتوسّع الحضري السريع، وتضاؤل الموارد الطبيعية، وتدهور الأراضي. وقد أدّت عوامل الخطر هذه إلى العديد من العواقب الملحوظة، كتلوث الهواء وإدارة مياه الصرف الصحي والنفايات الصلبة على نحو غير ملائم، وأخيراً وباء كورونا المستجد. يُعدّ تلوث الهواء من أكثر المشكلات البيئية شيوعاً في البلدان العربية، وتتزايد الوفيات الناتجة من سوء نوعية الهواء بشكل ملحوظ. كما ان العصرنة والنمو السكّاني يولّدان أيضاً المزيد من النفايات، التي تُعالج بعد ذلك بطريقة سيئة، الأمر الذي يزيد المخاطر الصحية تفاقماً. إلى ذلك، كشفت جائحة كورونا المستمرة منذ نهاية 2019 ضعف أنظمة الرعاية الصحية في المنطقة العربية، والقدرة المحدودة في معظم البلدان على التعامل مع الأزمات الصحية الطارئة. كما أظهرت الجائحة أنه لا يمكن الحفاظ على صحة الناس فقط باستهداف المجموعات التي يمكنها تحمّل تكاليف خدمات الرعاية الصحية. فالهدف الثالث من أهداف التنمية المستدامة هو وجوب توفير "الصحة للجميع"، لا للقادرين فحسب.
تشكّل المواد الخطرة والسامة تحدياً صحياً كبيراً في المنطقة العربية، نتيجة الإدارة غير الملائمة وتدابير السلامة المتساهلة، إلى جانب الافتقار إلى القوانين الصارمة. وفي إطار الحوادث الطارئة، لا يزال ينبغي معرفة الأثر النهائي للعواقب الصحية لانفجار صيف 2020 في مرفأ بيروت، بفعل تخزين نيترات الأمونيوم على نحو غير آمن. ومن المتوقع أن يكون للإنفجار تأثير طويل الأمد، خصوصاً من حيث زيادة أمراض الجهاز التنفسي وأنواع معينة من السرطان. كما أن الاستخدام غير المنضبط للذخائر في الحروب والصراعات المتتالية في المنطقة العربية انعكس على صحة الملايين، إلى جانب تعطيل الخدمات الصحية وانتشار الأمراض في المخيمات التي تؤوي ملايين النازحين واللاجئين.
تشير التقديرات إلى أن أكثر من 676 ألف مواطن عربي سوف يفقدون حياتهم قبل الأوان سنة 2020 نتيجة التعرض للمخاطر البيئية التقليدية. وسيرتفع هذا الرقم مع ظهور مزيد من عوامل الخطر البيئية وتأثيراتها، بما فيها الجوع وسوء التغذية. لذا تستدعي التحديات التي تواجهها المنطقة العربية تحولاً كبيراً في طريقة إدارة أولويات الصحة البيئية.
على الدول العربية أن تعمل بمزيد من الجدية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، والتعاون في ما بينها للاتفاق على سياسات بيئية قوية مشتركة، كما يجب تصميم استراتيجيات أكثر فاعلية للحدّ من تغيُّر المناخ والتكيُّف، تُركّز على الصحة إجمالاً، وبصورة عامة، تحسين تقويمات المخاطر الصحية وجمع البيانات لتزويد صانعي السياسات العرب الأدوات الصحيحة لمواجهة التحديات البيئية والصحية المحيطة.
المياه
يُعدّ الافتقار إلى خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية الآمنة أحد المخاطر البيئية الرئيسية التي تواجه السكان العرب. وقد سلّطت جائحة كورونا الضوء على أهمية خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة في المنطقة. والأكيد أن توفير إمدادات المياه السليمة الكافية، والصرف الصحي المناسب ومرافق غسل اليدين، إلى جانب زيادة الوعي، أمور ضرورية للحدّ من انتشار أي عدوى، بما في ذلك فيروس كورونا المستجد. لكن البيانات الأخيرة تنطوي على أرقام مقلقة، إذ يفتقر نحو 50 مليون عربي إلى خدمات مياه الشرب الأساسية، كما ان 74 مليون شخص في المنطقة لا يحصلون على خدمات الصرف الصحي الأساسية. وتشير التقديرات إلى أن خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة السيئة هذه هي السبب في 40 ألف وفاة مبكرة سنوياً، كان في الإمكان تجنّبها.
هناك تسع دول فقط من أصل 22 دولة عربية تسير على الطريق الصحيح لتحقيق الهدف السادس من أهداف التنمية المستدامة من حيث المياه النظيفة والصرف الصحي. وتواجه المنطقة عدداً كبيراً من العوائق التي تمنع التقدم نحو تحقيق هذا الهدف، بما في ذلك الصراعات وعدم الاستقرار، التي أثّرت على أنظمة إدارة المياه. لذا يتعيّن على الحكومات تطوير وتنفيذ برامج متكاملة للمياه والصرف الصحي، والتزام التمويل والتنفيذ سريعاً.
الهواء
أدّى النمو الاجتماعي والديموغرافي والاقتصادي في العالم العربي إلى زيادة الطلب على الطاقة والسيارات في السنوات الأخيرة. وقد ساهم ذلك، إلى عوامل أخرى، في زيادة تلوث الهواء إلى معدلات باتت تشكّل خطراً كبيراً على السكان. وغالباً ما تتجاوز المستويات المسجّلة لتلوث الهواء ما بين خمسة و10 أضعاف الحدود التي وضعتها منظمة الصحة العالمية. وتعدّ مدن عربية عدة من المدن الـ20 الأكثر تلوثاً في العالم. وفي كثير من البلدان في المنطقة العربية سُجّل ارتفاع كبير في عدد الوفيات التي تُعزى إلى تلوث الهواء الداخلي والخارجي. كذلك، فإن العبء الإجمالي للمرض الناجم عن تلوث الهواء آخذ في الازدياد، مع ارتفاع معدل انتشار أمراض القلب والرئة، والإصابة بالسرطان، والمزيد من حالات الربو. وقد أشاع ظهور فيروس كورونا وانتشاره إحساساً إضافياً بالضرورة الملحّة لتحسين نوعية الهواء، إذ أظهرت الدراسات أدلّة على العلاقة بين تلوث الهواء وزيادة الحالات وحدّتها.
ومن أجل إدارة جودة الهواء على نحو صحيح في المنطقة، يتعيّن تحسين تقويمات المخاطر الصحية بناءً على دراسات رصد الهواء والنمذجة. فإدارة المخاطر ستزوّد صانعي السياسات العرب الأدوات الصحيحة للسيطرة على التهديدات الصحية، وتخصيص الموارد، وترتيب البدائل العلاجية، مما يؤدي في النهاية إلى الحدّ من تأثير تلوث الهواء على الصحة العامة.
النفايات
يتزايد توليد النفايات الصلبة في المنطقة العربية بمعدّل يُنذر بالخطر، نظراً إلى النمو السكاني والتغيُّرات في أنماط الاستهلاك والإنتاج. ويجري التخلص من 53 في المائة من كل النفايات برميها عشوائياً. ويؤدي هذا إلى تلوث خطير للهواء والتربة والمياه، بما له من آثار كبيرة على صحة السكان. فقد وجدت الدراسات انتشاراً كبيراً لاضطرابات الجهاز التنفسي، مثل ضيق التنفس والتهاب الحلق والسعال، إلى جانب ارتفاع درجة الحرارة والتهابات العين والتهابات الجهاز الهضمي، من مجموعة مشاكل صحية تُعزى إلى حد كبير إلى الإدارة غير السليمة للنفايات. كما ان قطاع الرعاية الصحية نفسه يعدّ مساهماً رئيسياً آخر في تدفّق النفايات الخطرة، التي لا توجد قوانين تحكم التعامل معها في دول عدة. وزادت جائحة كورونا استعمال العناصر ذات الإستخدام الواحد، مثل الأقنعة والقفازات وعبوات تعقيم اليدين، التي ينتهي جزء كبير منها في البحار وعلى الشواطئ.
ويُعدّ اعتماد نهج دائري لإدارة النفايات، يقوم على الحدّ من الإستهلاك وإعادة الاستخدام والتدوير، أمراً بالغ الأهمية لإضعاف التأثير الضار للنفايات على صحة الإنسان والطبيعة، مما يستدعي تعديل أنماط الاستهلاك.
البيئة البحرية
يؤثِّر التصريف المباشر لمياه الصرف الصحي غير المعالجة في المناطق الساحلية، والتنقيب عن النفط واستخراجه في البحر، والمواد البلاستيكية الدقيقة، على صحة السكان العرب. وتُنتج الدول العربية حالياً نحو 12 مليار متر مكعب من مياه الصرف الصحي سنوياً، يُعالج أقل من 60 في المائة منها، ويعاد استعمال نصف كمية المياه المعالجة فقط. أما الكمية المتبقية، من مياه مبتذلة أو معالجة جزئياً، فتصرف في البحار ومجاري الأنهار. وتؤدي مياه الصرف الصحي إلى انتشار مسببات الأمراض بين البشر.
كما يؤدي استهلاك المأكولات البحرية الملوثة بسموم الطحالب الى عدد كبير من متلازمات التسمم بالمأكولات البحرية. ويمكن بعض السموم الناتجة من العوالق النباتية البحرية أن تكون قاتلة للغاية. ويؤدي تراكم الجسيمات البلاستيكية الدقيقة في السلسلة الغذائية، من طريق الأسماك والمحار، إلى عواقب على صحة الإنسان. ويُذكر أن البحر المتوسط يُعتبر من أكثر المناطق تضرراً في العالم من حيث التلوث بالمواد البلاستيكية الدقيقة. والحل في خطة إنقاذ تقوم على الحد من تلويث البحار من جميع المصادر.
تغيُّر المناخ
يشكِّل تغيُّر المناخ خطراً صحياً عالمياً، تشمل آثاره المباشرة، التي تظهر من ارتفاع درجات الحرارة والظواهر الجوية المتطرفة وارتفاع مستوى سطح البحر، أمراض القلب والأوعية الدموية وأمراض الجهاز التنفسي وضربات الشمس. ومن أبرز الآثار غير المباشرة انتشار الأمراض المنقولة من طريق المياه والأغذية والحيوانات والحشرات، وانعدام الأمن المائي والغذائي، والنزوح والهجرة القسرية، والتأثيرات على الصحة العقلية والمهنية. كما يؤثر تغيُّر المناخ أيضاً على نحو غير مباشر على الصحة بإعاقة التنمية المستدامة وتفاقم الفقر. وتفيد المعلومات المتاحة أن تغيُّر المناخ فرض بالفعل عبئاً صحياً في المنطقة العربية، مما أدى إلى زيادة الوفيات ونسبة انتشار الأمراض من الأمراض المعدية وغير المعدية. ومن المتوقع أن تؤدي زيادة الحرارة درجة مئوية واحدة إلى زيادة معدل الوفيات بنسبة 3 في المائة.
لم يحظ تأثير تغيُّر المناخ على صحة السكان العرب بالاهتمام الكافي حتى الآن. وتفتقر المنطقة إلى حدٍ كبير إلى خطط التكيُّف الوطنية التي تتناول الاستجابات التشريعية والعملية، بناءً على المخاطر الصحية المتوقعة لموجات الحر والظواهر الجوية الشديدة وتلوث الهواء والأمراض المعدية. ومن المهم للمنطقة أن تكتسب فهماً أفضل للعوامل المختلفة التي تؤثر على نتائج تغيُّر المناخ على الصحة، من أجل تصميم استراتيجيات فعالة للتخفيف والتكيُّف.
خلاصة وتوصيات
لم يعد في الإمكان إنكار تأثير المخاطر البيئية على صحة الإنسان. وعند النظر إلى المنطقة العربية على وجه التحديد، نجد ان الافتقار إلى المياه المأمونة، وزيادة توليد النفايات وسوء طرق التخلص منها، وتغيُّر المناخ، وتلوث البيئة البحرية، كلّها عوامل ذات تأثير سلبي ملحوظ على صحة السكان. بالإضافة إلى ذلك، أظهرت جائحة كورونا أن تحقيق هدف "الصحة للجميع" ضرورة، ليس فقط للوصول إلى خدمات الرعاية الصحية والصرف الصحي، ولكن أيضاً للتعجيل في الخطوات نحو مراعاة أكبر للمخاطر البيئية على صحة الإنسان، والتي يمكن تجنّبها إلى حدٍ كبير. في إطار التعاون الإقليمي، يتعيّن على وزارات الصحة والبيئة في المنطقة العربية تأكيد أهمية الترابط بين الصحة البشرية العامة والبيئة الطبيعية.
في ما يخص توفير خدمات المياه الصالحة للشرب، على الدول العربية تطوير وتنفيذ برامج المياه والصرف الصحي التي تشمل المراقبة الشاملة لكمية إمدادات المياه ونوعيتها. وفي ما يتعلق بتلوث الهواء، يجب تحديث معايير جودة الهواء لتتوافق مع المعايير الدولية المرتبطة بالصحة. ومن الضروري وجود شبكة من محطات المراقبة العاملة في جميع الدول العربية لمراقبة جودة الهواء. ومع أخذ تأثيرات تغيُّر المناخ الخاصة بالمنطقة في الاعتبار، يجب تطوير استراتيجيات فعالة ومصممة خصيصاً للحدّ من مسببات تغيُّر المناخ والتكيُّف معه، تكون لها آثار مباشرة وواضحة على صحة السكان العرب. ويجب تطوير التشريعات الخاصة بإدارة النفايات، بدءاً من تخفيف كميتها، في موازاة إطار شامل للرصد وتقويم تأثير النفايات على صحة الإنسان. كذلك يجب توجيه مزيد من الاهتمام إلى حالة البيئة البحرية في المنطقة ومخاطرها المحتملة على صحة الإنسان. فالرصد المنتظم لمستويات المعادن الثقيلة في أنواع الأسماك، على سبيل المثال، ضروري لمنع المخاطر الصحية ولضمان شروط السلامة الغذائية.
لطالما كان الترابط بين البيئة الطبيعية وصحة الإنسان مصدر قلق جدي، لكن خطر تفشّي الأوبئة يضعه اليوم في مركز الصدارة. الآن، أكثر من أي وقت مضى، بات واضحاً أن البيئة الطبيعية الصحية هي شرط أساسي لصحة البشر.