بعد انقضاء ثلاث سنوات على إعلان الموصل منطقةً محررةً من التنظيمات الإرهابية، لا تزال المدينة تعاني إلى الآن من مشاكل متعددة تحول دون عودة بعض أبنائها النازحين واستقرار العائدين منهم. فوفق المنظمة الدولية للهجرة، لم يعد نحو 150 ألف نازح من الموصل إلى ديارهم، في مقابل أكثر من مليون بقليل عادوا. لكن ظروفاً صعبة للغاية تواجه العائدين، مما يزيد من مخاطر نزوحهم مجدداً لاعتبارات اجتماعية واقتصادية. وقد أجرى برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب)، عبر الإدارة المختصة بمعالجة الآثار البيئية للنزاعات، مجموعة من التقييمات في مناطق متعددة من العراق، بينها الموصل، وتقدم بتوصيات تشمل معالجة الأنقاض بأساليب سليمة بيئياً.
خلال الفترة الماضية، نجحت الأمم المتحدة في إعادة بناء ألفي منزل ومحطة لمعالجة المياه ومحطات توليد للطاقة وتشغيل عدد من المستشفيات وتأهيل 150 مدرسة ومركز شرطة. ولكن هذه الجهود بقيت غير كافية لعودة الحياة الطبيعية إلى المدينة، التي كان يقطنها نحو مليوني شخص، خاصةً في المدينة القديمة التي تقع على الجانب الأيمن من نهر دجلة، حيث مازالت أكوام كبيرة من الأنقاض تغطي الكثير منها. لكن الطرقات أصبحت سالكة، وأعيد افتتاح الأسواق، وعاد إليها الكثير من السكان.
وتحول البيروقراطية وسوء الإدارة والتشاحن السياسي، بالإضافة إلى الترتيبات التي وُضعت لتجنب الفساد، دون إنجاز عملية إعادة الإعمار بالسرعة المطلوبة، بعد أن تعهدت جهات مانحة بتقديم 30 مليار دولار لتحقيق ذلك في مؤتمر عُقد في الكويت مطلع عام 2018. ومن أبرز الأسباب التي تُعيق إعادة الإعمار التناحر على الصلاحيات بين السلطات البلدية والمحافظات والحكومة المركزية، مما منع وجود قرار منسَّق وموحَّد، وجعل من الصعب التوصل إلى اتفاق حول خيارات في مواضيع مثل إدارة الأنقاض، ووضع خطة لتحديد مواقع التخلص منها وسبل معالجتها وتدويرها.
ومع الانخفاض الكبير في سعر برميل النفط، وانكماش الاقتصاد الوطني بنسبة 10 في المائة، إلى جانب الأزمة العالمية الناتجة عن تفشي فيروس كورونا المستجد، تبدو نهضة الحواضر العراقية التي طالتها الحرب من تحت الأنقاض أبعد بكثير مما كان متوقعاً.
دمار واسع ومخاطر بيئية
إلى جانب كونها حجر عثرة أمام إعادة الأعمار وعودة النازحين، الذين يقدر عددهم في العراق بحوالي 1,4 مليون نسمة حسب تقديرات المنظمة الدولية للهجرة )حزيران 2020(، تحتوي أنقاض الأبنية المتضررة بالأعمال الحربية على مجموعة من المخلّفات والمواد التي تلحق ضرراً بالإنسان والنبات والحيوان والبيئة المحيطة.
وأهم مخاطر الأنقاض هي العبوات الناسفة، أو "مصائد المغفّلين" كما تُعرف في العراق، والألغام والذخائر غير المنفجرة، وبعض مواد البناء الخطرة كالأسبستوس. كما من المحتمل أن تحتوي الأنقاض على النفايات الخطرة كالزيوت والمواد الكيميائية في المناطق الصناعية، والنفايات الطبية ضمن المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية المدمَّرة.
وعدا عن التكاليف المرتفعة لإزالة الأنقاض، وما يكتنف ذلك من تجاذبات سياسية واجتماعية وسوء في الإدارة، تعتبر هذه العملية معقدة نسبياً لأن 70 في المائة من العبوات الناسفة والمخلّفات الحربية غير المنفجرة لا تزال تحت الأنقاض، وفقاً لتقديرات "دائرة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام في العراق".
ويخلُص مسح الأضرار الصادر عن الجهاز المركزي العراقي للإحصاء في سنة 2018 إلى تضرر 63 مدينة و1556 قرية نتيجة الأعمال الإرهابية التي شهدتها البلاد منذ منتصف 2014. وتبلغ القيمة التقديرية لإجمالي أضرار المباني السكنية للقطاع الخاص في المحافظات التي شملها المسح نحو 16 مليار دولار.
وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن عدد المباني السكنية التي طالها الضرر يزيد عن 147 ألف مبنى بمساحة طابقية إجمالية تتجاوز 73 مليون متر مربع. وتعدّ المباني السكنية في محافظة نينوى الأكثر تضرراً من حيث المساحة الطابقية بنسبة 45 في المائة، تليها محافظتا الأنبار وصلاح الدين بنسبة 19 في المائة لكل منهما، ثم محافظتا كركوك وديالى بنسبة 7.5 في المائة لكل منهما، فيما تعرضت المباني السكنية في محافظتي بابل وبغداد لضرر بنسب أدنى.
وبالاعتماد على تقييم الأضرار من تحليل صور الأقمار الإصطناعية والتقييمات الميدانية التي أجرتها مؤسسات تابعة للأمم المتحدة، تُقدّر كمية الأنقاض الناتجة عن الحرب في مدينة الموصل مركز محافظة نينوى بأكثر من 11 مليون طن.
وتصل نسبة التدمير في مدينة الرمادي مركز محافظة الأنبار إلى 80 في المائة، وتبلغ كمية الأنقاض الناتجة عن الحرب في المدينة نحو 7 ملايين طن. كما طال التدمير الواسع مدناً عدة في المحافظة مثل القائم وهيت وحديثة. وفي محافظة كركوك دُمّرت أكثر من 135 قرية، حيث تقدّر السلطات المحلية الأنقاض الناتجة من ذلك بحوالي 6 ملايين طن.
برتو: خطة تجمع البيئة والإقتصاد
ويقول حسن برتو، المسؤول في برنامج الأمم المتحدة للبيئة، الذي يتولى من سنوات مهمات للبرنامج في العراق: "إستناداً الى الإحصائيات الرسمية للضرر الذي طال المباني السكنية، يمكن أن نقدّر كمية الأنقاض الناتجة عن ذلك بشكل متحفظ بحوالي 55 مليون طن تقريباً. وإذا زدنا الضرر الذي لحق بالمباني الحكومية، فستكون الكمية الإجمالية أعلى إلى حد كبير". ويضيف أنه "من المهم ان يعتمد ملف ضخم بحجم موضوع الأنقاض في الأماكن المتضررة على رؤية وخطة موحدة لإنجاز اهداف اقتصادية واجتماعية وبيئية محددة، وان لا يجري التخلص من الأنقاض بطرق عشوائية مشتتة، لأن هذا ينقل المشكلة من مكان إلى آخر، بل يعقّدها مستقبلاً".
وخلال السنوات الثلاث الماضية التي شهدت انحساراً في الأعمال الحربية، قامت السلطات المحلية برفع الأنقاض من الشوارع الرئيسية في مناطق عراقية عدة بدعم من مرفق تمويل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لتحقيق الاستقرار الفوري. ولكن المشكلة تكمن في أنه لم تُخصَّص أماكن للتخلص من هذه الأنقاض بطريقة سليمة، أو أنها لم تكن مطابقة للمواصفات اللازمة، ناهيك عن الحاجة الى إدارة تلك المواقع. فكانت النتيجة رمي الأنقاض بطرق عشوائية. ولا تزال هناك كميات كبيرة من الأنقاض بحاجة إلى الترحيل، بالإضافة إلى عدد كبير من المباني المتضررة التي يجب هدمها ورفع مخلفاتها. فكميات الأنقاض التي ستنتج من إزالة المباني المتضررة تضاعف كثيراً كمية الأنقاض التي تم رفعها من الطرق حتى الآن. وخير صورة على ذلك الكمية الهائلة من الأنقاض التي تمتد لعدة كيلومترات على مشارف مدينة الموصل، من طريق بغداد على طرف نهر دجلة.
ويؤخذ على عمليات رفع الأنقاض إنجازها على نحو غير مخطط يؤدي إلى مخاطر صحية وبيئية كبيرة، وعواقب اقتصادية مرهقة في المستقبل. ومن المتوقع أن تضطر السلطات المحلية لإزالة الأنقاض التي جرى التخلص منها عشوائياً في أكثر من مكان، مما سيرتّب تكاليف مالية إضافية، فيما تعاني هذه السلطات أصلاً من مصاعب مالية.
البحث عن حلول لمشكلة الأنقاض
توصلت دراسة ميدانية أعدّها باحثون عراقيون من جامعتي الأنبار والمستنصرية إلى أن تدوير الأنقاض في مدينة الرمادي من خلال سحقها واستخدامها في طبقات الأساس وما تحت الأساس لإنشاء الطرقات في محافظة الأنبار هو أمر مجدٍ من الناحية الفنية، حيث تتميز الأنقاض المعاد تدويرها بالجودة العالية ومطابقتها للمعايير الهندسية.
ووجدت الدراسة، التي نشرت في دورية "آي أو بي" البريطانية في مطلع 2020، أن كلفة سحق المتر المكعب من الأنقاض تقلّ بنحو 25 في المائة من كلفة شراء المتر المكعب من المواد (الحصى والرمل) المستخرجة في المقالع، وذلك من دون الأخذ بعين الاعتبار تكاليف النقل التي تميل لصالح الأنقاض، وذلك لقربها من أماكن الحاجة إليها. وتوصي الدراسة بتدوير مخلّفات الأنقاض من أجل صون الموارد الطبيعية في محافظة الأنبار وحماية مدينة الرمادي من التلوث.
ولإعادة إعمار مدينة الموصل يتم استخراج الرمال والحصى من قاع نهر دجلة وروافده، كنهر الزاب الكبير والخازر، لاستخدامها كمواد بناء، مما يلحق دماراً كبيراً بالنظام البيئي للنهر، في ضوء الضغط الذي يتعرض له من مجموعة السدود المقامة في أعلى دجلة وعواقب تغيُّر المناخ العالمي. علماً أن التشريعات الوطنية تحظر تجريف الرمال والحصى من أحواض الأنهار.
ويقول حسن برتو إنه "إذا أخذنا في الاعتبار أن أعادة بناء المباني السكنية المتضررة يتطلب على الأقل 55 مليون طن من مواد المقالع، فبالإمكان أن نتصور مدى الضرر البيئي الذي سينتج عن ذلك. وهنا تكمن أهمية إعادة تدوير الأنقاض لتخفيف تلك العواقب البيئية والاجتماعية. ويكمن التحدي في أنه ليس لدى المهندسين العراقيين بشكل عام القناعة أو الثقة الكافية بإمكانية إعادة تدوير الأنقاض، وذلك لقلة الخبرة والتجربة في هذا المجال. لذا لا بد من وضع معايير وطنية لاستخدام الأنقاض المعاد تدويرها".
ضعف إدارة الأنقاض الناتجة عن الأعمال الحربية، في بلد يعاني أصلاً من مشاكل في إدارة مخلّفات الهدم والبناء في الأحوال الطبيعية، دفع برنامج الأمم المتحدة للبيئة، بالتعاون مع وزارة الصحة والبيئة العراقية، إلى إصدار "مبادئ توجيهية للإدارة البيئية لمواقع إعادة تدوير الأنقاض" في شهر يونيو (حزيران) 2020. وإلى جانب ورش العمل حول تدوير الأنقاض التي عقدت في مدن الموصل وكركوك والرمادي، أطلق برنامج الأمم المتحدة للبيئة والمنظمة الدولية للهجرة، بدعم من الحكومتين اليابانية والألمانية، مشاريع رائدة في مدينة الموصل ومحافظة كركوك، تقوم على تدوير الأنقاض وتحويلها إلى مواد يمكن استخدامها بسهولة في فرش الطرقات وتطبيقات بسيطة مماثلة. ويدعو حسن برتو الحكومة العراقية والجهات المانحة إلى "تعميم ممارسة إعادة تدوير الأنقاض في الأماكن المتضررة، مع العمل لأن يتمدد هذا التوجه مستقبلاً الى المخلفات الناجمة عن أعمال البناء والهدم الاعتيادية. وهذا يدعم العراق في تطبيق نهج الاقتصاد الدائري الذي يعزز الإدارة المستدامة للموارد الطبيعية".
ويقول حسن نصيف، مدير ناحية الملتقى في كركوك، التي دُمرت قراها البالغ عددها 36 قرية: "إن تكسير وطحن الأنقاض هو حل بسيط ومباشر، ويمنح بصيصاً من الأمل في التعامل مع التحديات الجسيمة، ومن بينها خلق الوظائف للشباب النازحين".
إن حل مشكلة الأنقاض في العراق من جميع جوانبها لا ينطوي على تسهيل العودة الآمنة للسكان فحسب، وإنما يشمل أيضاً توفير فرص كسب العيش من خلال العمل في إعادة تدوير الأنقاض واستخدامها على نحو مستدام، صوناً لموارد الطبيعة وترشيداً للنفقات.
كلام الصور
الصورة 1: أحد المقالع التي تنتشر على نهر الزاب الكبير في ناحية الكلك والكوير (يونيب)
الصورة 2: كسّارة متنقلة تطحن الطوب الخرساني (بلوك) والحجر في مدينة الموصل (يونيب)
الصورة 3: تُعدّ المخلّفات الحربية من أهم المشاكل التي تعيق أعمال رفع الأنقاض (يونيب)
الصور 4 و5 و6: الأنقاض التي ستنتج من إزالة المباني المتضررة تضاعف كمية الأنقاض التي تم رفعها من الطرق حتى الآن (يونيب)
الصورة 7: ترميم المعالم التاريخية المتضررة في مدن كالموصل يتطلب الحفاظ على الأنقاض ذات القيمة التراثية (يونيب)