صدر مؤخراً تقرير مهم بعنوان "الوقاية من الجائحة المقبلة"، يَعرض للأمراض الحيوانيّة المصدر ويخلُص إلى توصيات لكسر حلقة انتقالها إلى الانسان. كثير من وسائل الإعلام نسبت التقرير إلى "إدارة البيئة في الأمم المتحدة"، وهو جهاز لا وجود له، ليتبيّن بعد التدقيق أنه صدر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب). فلماذا يسقط اسم "يونيب"، وهو البرنامج العريق المولج بقيادة العمل البيئي على المستوى الدولي؟
هذا كان من تداعيات التغيير الانقلابي الذي فرضه المدير التنفيذي السابق لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، النرويجي إيريك سولهايم، خلال ولايته القصيرة بين 2016 و2018. فمن دون الرجوع إلى الجمعية العمومية، قرّر سولهايم إسقاط صفة "برنامج" وتغيير الاسم إلى "الأمم المتحدة للبيئة". وقد مُنع الموظفون من استعمال الاسم المختصر "يونيب" كتابيّاً أو شفهيّاً.
انطلق سولهايم من نيّات حسنة، أبرزها تبسيط الأمور على الناس العاديين، الذين غالباً لا يفهمون ماذا تعني الجمل الغامضة والتعابير المختصرة التي تعجّ بها التقارير الدولية. وهو أسرّ إليّ في لقاء فور تعيينه أنه حين بدأ حياته في العمل العام كان يطلب من جدّته قراءة مسوّدات خطبه وتقاريره، ليعدّل كل ما لا تستطيع فهمه. تحمّستُ لتوجُّه سولهايم، إذ كنت أعلم من التجربة أن أبرز ما يعوق وصول رسائل المنظمات الدولية إلى الناس، على جميع المستويات، غموضها واستخدامها نوعاً من التعابير لا يفهمها المسؤولون الحكوميون ولا الجمهور، فكيف لهم أن يحوّلوها إلى سياسات وطنية قابلة للتطبيق؟ وقد كان في ذهن سولهايم وعدٌ بتحويل اجتماعات "يونيب" من "حوار طرشان" بين "خبراء" يعيشون في عالم افتراضي ومسؤولين يبحثون عن حلول، إلى حوار يستخدم لغة موحّدة ويوصل إلى نتائج عمليّة. كما كان سولهايم يحلم بإيصال قضايا البيئة إلى الجمهور عن طريق الاتصال المباشر، ليكون الناس جزءاً أساسياً في التغيير.
لكنّ التطبيق لم ينسجم مع الطموح. فإيصال رسالة البيئة إلى الناس مباشرة لم يكن بحاجة إلى السفر خارج المركز الرئيسي للبرنامج في نيروبي لفترة 529 يوماً من أصل 668 يوماً، هي مجموع المدة التي أمضاها سولهايم في وظيفته. وإذا كان هذا هو السبب المعلن لخروج سولهايم القسري، فلا شكّ أن الضرر الأكبر الذي سبّبه هو تبديل اسم هذه الوكالة الدولية العريقة بقرار فردي. وكأن الدعوة إلى تبسيط لغة الأمم المتحدة انحصرت في حذف كلمة "برنامج" من الاسم ومنع استعمال مختصر "يونيب". هكذا تم تدمير ممنهج لعلامة تجارية تم بناؤها خلال نصف قرن. ورغم تحذيرات متكررة من أن "الأمم المتحدة للبيئة" تعبير فارغ من أي معنى، خاصة في بعض اللغات مثل العربية، جرى فرض التغيير بواسطة فريق من المصفِّقين تحلًّق حول المدير الجديد. وللإمعان في الأذى، تم هدر ملايين الدولارات لتبديل الاسم وإلغاء الشعار في جميع المطبوعات ووسائل التواصل الاجتماعي، وعوقب كلُّ من تجرَّأ على استخدام عبارة "برنامج" أو مختصر "يونيب". ولم يفهم الناس هل "الأمم المتحدة للبيئة" تعني مبادرةً أو مكتباً أو برنامجاً أو منظمة أو مشروعاً. وكشف هذا قصوراً كبيراً في الحوكمة داخل الأمم المتحدة، إذ كيف يمكن لمدير وكالة تابعة للأمانة العامة في نيويورك تمرير تغيير اسمها بلا موافقة الأمانة العامة والدول الأعضاء.
فور خروج سولهايم، بدأ البرنامج يستعيد اسمه الأصلي، كاملاً ومختصراً. لكن الضرر يحتاج إلى وقت طويل لتصحيحه، إذ ما تزال وسائل الإعلام تشير إلى هذه المنظمة، التي طبعت العمل البيئي الدولي، على أنها مجرّد دائرة للبيئة في سكرتارية الأمم المتحدة. هل تتصورون تبديل "برنامج الأمم المتحدة الانمائي" إلى "الأمم المتحدة للإنماء"، أو "منظمة الأغذية والزراعة" إلى "الأمم المتحدة للأغذية والزراعة"، أو "منظمة الأمم المتحدة للطفولة" إلى "الأمم المتحدة للطفولة"؟
ولمن لا يعرف تركيبة الوكالات الدولية، فهي قانونياً نوعان: "الوكالات المتخصصة"، وهي 17 منظمة دولية مستقلة تحكمها الدول الأعضاء وترتبط باتفاقات تعاون مع الأمم المتحدة، ومن بينها منظمة الصحة العالمية ومنظمة العمل الدولية وصندوق النقد الدولي. أما البرامج، مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة، وعددها 14، فهي وكالات لها مجالسها الحاكمة من ممثّلي الدول، لكنها تخضع لسلطة الأمانة العامة للأمم المتحدة، التي يعيِّن أمينها العام رؤساءها. وإذا كان إسقاط صفة "برنامج" من إسم "يونيب" يهدف إلى الالتفاف على الفشل في تحويل الوكالة رسمياً إلى منظمة مستقلة، فقد أدى إلى نتائج عكسية.
الدور الطبيعي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة هو قيادة العمل البيئي الدولي. وقد تحوَّل من سكرتارية متواضعة تضمّ عشرات الموظفين عند تأسيسه عام 1972، إلى منظمة متشعّبة المهام اليوم، تضم نحو ألف موظف وتشرف على مئات البرامج والمبادرات وتنسّق عمل العديد من المعاهدات والاتفاقيات البيئية الدولية. وبعد إقرار جدول أعمال 2030، أصبحت المهمة الرئيسية لـ "يونيب" إدارة تنفيذ المحتوى البيئي في أهداف التنمية المستدامة الـ17.
بدلاً من إضاعة الوقت والجهد في عملية تبديل الاسم، كان من الأجدى التركيز على تحقيق مهمة "يونيب" وتعزيز مكانتها كركيزة للسياسات البيئية في منظومة الأمم المتحدة. ومن أبرز المهمات تنسيق التعاون مع الهيئات الدولية المتنوعة، من خلال برامج تقود كلاً منها الهيئةُ المختصة في الموضوع، لتجنّب التكرار وتضارب الصلاحيات. فالأمن الغذائي مع منظمة الأغذية والزراعة، والصحة مع منظمة الصحة العالمية، والتربية البيئية مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة.
وفي أولويات "يونيب" أيضاً تحليل جميع المعاهدات والاتفاقيات البيئية الدولية، للمقارنة بين الأهداف التي وُضعت لها وماذا تحقّق منها بالفعل، من أجل سدّ الثغرات والتنسيق وتحسين الأداء. أما تقرير "توقعات البيئة العالمية" الذي تصدره "يونيب" دورياً، فإلى جانب تعزيز محتواه العلمي يجب أن يكون أداة مفيدة لتغيير السياسات البيئية على المستوى الوطني.
الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون قال إن مقياس النجاح الحقيقي للمنظمة يجب أن يكون ما تحققه فعلاً لا ما تَعِد به. هذا يتطلب إجراء تقييم دوري للأداء، تتولّاه هيئة خارجية مستقلة متخصصة. وفي حين تعتمد الصناديق الدولية هذا الإجراء، عبر إخضاع أعمالها لمراجعة دورية يقوم بها استشاري خارجي، فهذا لم يحصل في برنامج الأمم المتحدة للبيئة، ولا حتى في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الأكبر حجماً وموازنةً.
المبالغ التي صُرفت على تغيير اسم "يونيب" كانت كافية لتغطية تكاليف واحدة من أفضل الشركات الاستشارية العالمية، لإجراء مراجعة شاملة لعمل البرنامج وأدائه. قد تكون هذه أكثر المهمات إلحاحاً لإدارة "يونيب" الجديدة.