قبل انتشار جائحة "كورونا"، كان قطاع الطاقة المتجددة يشهد نمواً مطرداً سنةً بعد سنة. ومع أن الجائحة قد تؤدي إلى تخفيض نمو هذا القطاع في المستقبل القريب على الأقل، فإن نقاط القوة الكامنة في مصادر الطاقة المتجددة تظل قوية وتعزز جدواها الاقتصادية مقارنة بالوقود الأحفوري على المدى الطويل، خاصة مع بقاء التغيُّر المناخي بنداً أساسياً على جدول الأعمال الدولي.
ويمكن لخطط الانتعاش الاقتصادي بعد أزمة "كورونا" أن تدفع القادة حول العالم إلى تبني خطط تسرّع من التحوّل إلى اعتماد الطاقة المتجددة بهدف خفض انبعاث غازات الدفيئة. وفي هذا السياق، دعا فرانشيسكو لا كاميرا، المدير العام للوكالة الدولية للطاقة المتجددة (أيرينا)، قادة الدول إلى اغتنام الفرصة لوضع برامج انتعاش اقتصادي تسرّع التحوُّل نحو طاقة الرياح والشمس.
تراجع الطلب العالمي
تسببت سياسات الإغلاق والتباعد الاجتماعي التي تهدف إلى وقف انتشار فيروس "كورونا" المستجد في خفض الطلب العالمي على الطاقة بوتيرة غير مسبوقة. ولكن في مقابل هذا الانخفاض العام، زادت حصة الطاقة المتجددة ضمن خليط الطاقة. فمن جهة، أدى هبوط الاستهلاك الى خفض الحاجة إلى دعم من الكهرباء المولَّدة من الوقود الإحفوري خلال ساعات الذروة في البلدان المنتجة لطاقة الشمس والرياح. ومن جهة أخرى، فالتكلفة المتدنية للطاقات المتجددة أعطتها أفضلية على حساب الفحم الحجري والطاقة النووية.
وعزّز الانخفاض الكبير في الطلب على الكهرباء ووقود النقل من أثر حرب الأسعار بين الدول المنتجة، فتراجع ثمن برميل النفط إلى أدنى مستوى تاريخي له، وجعل شركات الوقود الأحفوري، خاصة في الولايات المتحدة، تكافح من أجل إيجاد مكان لتخزين المنتج.
وفيما يشير المنطق التقليدي إلى أن انخفاض سعر النفط يُعدّ نبأً سيئاً للطاقة المتجددة، توجد أسباب كثيرة للاعتقاد بأن هذا الأمر سيسرّع من الاعتماد على الطاقة النظيفة خلال السنوات القليلة المقبلة. فمع انخفاض أسعار النفط إلى أقل من 30 دولاراً للبرميل، ستجد الشركات صعوبة في تقديم عوائد على مشاريع النفط والغاز أعلى مما تقدمه مزارع إنتاج الكهرباء من الشمس والرياح.
غير أن التداعيات الاقتصادية العالمية أثّرت على نمو مصادر الطاقة المتجددة موقتاً. فتدابير الحجر المنزلي أوقفت الإنتاج في مصانع الألواح الشمسية وتوربينات الرياح لفترات طويلة. وأدى التأخر في سلاسل الشحن إلى تفاقم مشكلة الإمداد، وإيقاف عمليات البناء في مجمعات الشمس والرياح الكبيرة. كما أجبرت سياسات التباعد الاجتماعي شركات الطاقة الشمسية المنزلية على تأجيل تركيب الألواح على الأسطح.
وكانت "مؤسسة أبحاث تمويل الطاقة الجديدة" التابعة لشركة "بلومبرغ" خفضت توقعاتها لتركيبات 2020 بنسبة 12 في المائة للرياح و8 في المائة للطاقة الشمسية، مقارنةً بتوقعاتها قبل تفشي الوباء. وتستدعي هذه المراجعة إعادة النظر في تقديرات الوكالة الدولية للطاقة، التي توقعت في الخريف الماضي أن ينمو إمداد الطاقة المتجددة في العالم بنسبة 50 في المائة خلال السنوات الخمس القادمة، أي توليد طاقة متجددة إضافية تعادل كامل القدرة الحالية للولايات المتحدة على إنتاج الكهرباء.
السؤال الكبير حالياً: ماذا سيحصل عندما ترفع الدول قيودها وتلغي سياسات الإغلاق والتباعد الاجتماعي؟ في ظل قلة السيولة المالية وتراجع الطلب على الطاقة بفعل الأزمة الاقتصادية العالمية، من المرجح أن تواجه مشاريع طاقة الرياح والطاقة الشمسية الجديدة، كغيرها من المشاريع، صعوبات في الحصول على التمويل.
في جميع أنحاء العالم، تأجلت المزادات الخاصة بعروض بناء مشاريع الطاقة المتجددة. كما أن أكثر من 40 في المائة من مشاريع طاقة الرياح والطاقة الشمسية التي كانت ستوضع في الخدمة خلال الفترة بين أبريل (نيسان) وحتى نهاية السنة تعاني من التأخير. ومن المتوقع أن يجبر التباطؤ الاقتصادي أصحاب المنازل والشركات الصغيرة على تجنب شراء سلع باهظة الثمن مثل الألواح الشمسية، مما يجعل تركيبات الطاقة الشمسية المنزلية هي الأكثر تضرراً في قطاع الطاقة المتجددة. لكن الوضع سيكون مختلفاً في حال قررت الحكومات توجيه برامج الدعم إلى هذا النوع من المشاريع.
الملاذ الآمن
تبقى المكاسب التي حققتها الطاقة المتجددة خلال العقد الماضي مصدر ثقة في تعافي هذا القطاع على نحو أسرع من غيره. وبفضل تطور التقنيات وانخفاض الأسعار والأبحاث المستمرة على تخزين الكهرباء، تفرض طاقة الرياح والطاقة الشمسية نفسها حول العالم كمصدر نظيف ومنخفض الكلفة تزداد جدواه يوماً بعد يوم.
سوف يعود الطلب على النفط وترتفع أسعاره مرةً أخرى، وستكون هناك حاجة إلى مشاريع جديدة تفي بمتطلبات إنتاج طاقة نظيفة. لكن الانهيار الكبير الثاني لأسعار النفط الذي حصل في أقل من 6 سنوات يسلّط الضوء على تقلّب الأسواق وقيمة الاستقرار الذي توفره الطاقة المتجددة. وربما نرى شركات النفط الكبرى والحكومات تضاعف جهودها لتنويع استثماراتها في الطاقة، خاصةً مع تقديرات بأن العالم سيكون عرضةً للأوبئة أكثر فأكثر.
ما زال استقرار قطاع الطاقة المتجددة يمثّل مصدر جذب للمستثمرين. ولذلك فإن الباحثين عن ملاذ آمن في سوق مضطربة يفضلون الاستمرار في التحول إلى الطاقة المتجددة. وفيما تواجه محطات الطاقة العاملة على الفحم ومحطات الطاقة النووية الحالية ضغوطاً مختلفة قد تسرّع من تقاعدها المبكر في كثير من الدول، فإن تراجع أسعار النفط والغاز سيدفع المنتجين إلى خفض المعروض مما سيعزز من تنافسية مصادر الطاقة المتجددة.
لكن هل تكفي نقاط القوة التي يحظى بها قطاع الطاقة المتجددة، ومرونته التي ظهرت خلال الأزمة، في تعزيز مكاسبه من أموال التحفيز التي تخطط الدول لضخّها من أجل تحقيق الإنعاش الاقتصادي بعد انحسار الوباء؟ ما حصل في الولايات المتحدة كان عكس ذلك، إذ منحت إدارة الرئيس ترامب تسهيلات شملت تعليق تطبيق قواعد الهواء والماء النظيفين وتخفيف القيود على الزئبق والانبعاثات السامة، مما يُعتبر إنقاذاً لصناعة الوقود االتقليدي من المبالغ الضخمة التي كان عليها إنفاقها لخفض التلوث.
على المدى القصير، يمكن أن تنقل جائحة "كورونا" مشكلة تغيُّر المناخ إلى مراكز متأخرة على قائمة أولويات أصحاب القرار. وإذا كان من المفهوم أن تركّز الحكومات الآن على الاستجابة الفورية لأزمة الصحة وضياع فرص العمل، فإن خطط الإنعاش في معظم الدول بدأت دمج العمل المناخي في بنودها. وفي حين تحتل أوروبا مركزاً متقدماً في هذا المجال، فإن الاتجاه في الولايات المتحدة سيعتمد إلى حد كبير على نتائج الانتخابات الرئاسية في الخريف المقبل.
يرتبط اهتمام البلدان بتطبيق خطط التحفيز الأخضر مع مواقفها المسبقة تجاه تغيُّر المناخ قبل حصول الأزمة الحالية. وهذا يعني أن دولاً مثل الصين ومعظم الدول الأوروبية ستلحظ تعزيز حصة الطاقة المتجددة في إجراءات الانتعاش الاقتصادي. ويرى مناصرو التحفيز الأخضر أن العمل المناخي مناسب تماماً لخلق فرص عمل جديدة، حيث سيساعد أيضاً في معالجة التفاوت الاقتصادي والاجتماعي والعرقي الكبير الذي كشفه الفيروس، خاصةً في الولايات المتحدة.
إن التحول إلى طاقة أنظف يعني تحقيق مكاسب صحية لاحظها الكثيرون عندما تسببت عمليات الإغلاق في تحسين جودة الهواء. ولعل النقطة المضيئة الوحيدة في هذه الأزمة هي تقديمها صورة مستقبلية مشرقة عن الوضع الذي سيؤول إليه العالم عند تراجع الانبعاثات والملوثات.