سنة 1554، أرسل سفير النمسا في القسطنطينية أوجيه غيسلين مجموعة من بصيلات التوليب التركية إلى صديقه عالم النباتات الفلمنكي شارل دوليكلوز، الذي قام بإكثارها لتتأقلم مع الأجواء الباردة في "البلدان المنخفضة". وبفضل تجاربه وأبحاثه، تطورت زراعة التوليب في هولندا لتصبح مع الوقت أضخم منتج في العالم للأزهار البصلية. وكان دوليكلوز ولد في أنتويرب، المدينة البلجيكية حالياً، وعمل لسنوات في فيينا، قبل أن يصبح أستاذاً في جامعة لايدن الهولندية، حيث طوَّر معظم أبحاثه النباتية.
وفيما تواجه هولندا حالياً تفشي وباء "كورونا" المستجد بتطبيق سياسات التباعد الاجتماعي، استمر مزارعو الأزهار والنباتات في الإنتاج، ولم توضع قيود على أوقات عمل متاجر بيع الزهور والنباتات ولوازم الحدائق، مع تطبيق تدابير حازمة بشأن المسافة بين الزبائن وتعقيم عربات التسوق بعد كل استعمال. ولم يكن الهدف من هذا محصوراً في تشجيع الإنتاج والحركة الاقتصادية، بل أيضاً الإبقاء على منفذ للناس للتمتع بالأزهار والعمل في حدائق منازلهم، تخفيفاً من وطأة الحجر المنزلي معظم الوقت.
غير أن إغلاق الأسواق الخارجية وإلغاء رحلات الطيران وإقفال محلات بيع الزهور في معظم الدول أصابت صناعة الزهور الهولندية بضربة قاتلة، حيث انخفض التصدير إلى الصفر تقريباً. فحصة السوق المحلي ضئيلة مقارنة بالكمية المنتجة، إذ تُصدِّر هولندا معظم إنتاجها إلى الخارج، وهي تسيطر على أكثر من نصف سوق الأزهار و80 في المائة من سوق الأبصال في العالم. ولأنه من غير الممكن تأجيل نمو الأزهار أو تخزينها، يعمد المنتجون منذ أسابيع إلى إتلاف ملايين الشتول الموسمية والأزهار يومياً، وذلك بعد توزيع كميات كبيرة منها مجاناً على المستشفيات وبيوت العناية بكبار السن وأعضاء المهن الطبية والرعاية الصحية، تقديراً لجهودهم في معالجة مرضى الوباء. كما تزدهر في هذه الفترة خدمة توصيل الأزهار إلى المنازل، كهدايا يستعيض بها الأقارب والأصدقاء عن الزيارات.
لكنها ليست المرة الأولى التي يواجه فيها قطاع صناعة الأزهار في هولندا تحديات مصيرية ويتكبّد خسائر جسيمة. فمغامرة البلاد مع التوليب ونباتات الزينة تأثرت أكثر من مرة، سلباً أو إيجاباً، بالكائنات الدقيقة، مثل "الفيروس الكاسر للتوليب" و"بكتيريا اليرسينيا" الطاعونية.
الطاعون يضرب في القرن السابع عشر
كانت أزهار التوليب مختلفةً عن أية زهرة أخرى معروفة في أوروبا في بداية القرن السابع عشر، ولم يكن هناك ما يماثلها في جمال أوراقها المشبعة بالألوان. وتميّز ظهور التوليب كرمز للنبالة والمكانة العالية في ذلك الوقت، مع حصول هولندا على استقلالها النسبي عن إسبانيا، مما سمح بزيادة ثرواتها وبدء عصرها الذهبي بفضل التجارة مع جزر الهند الشرقية، حيث يمكن لرحلة واحدة أن تحقق أرباحاً تصل إلى 400 في المائة.
كان التوليب منتجاً فاخراً مرغوباً في هولندا، فجرى تصنيفه إلى أنواع كثيرة حسب لون أزهاره، وكانت تطلق عليه المسمّيات التي تبدأ مثلاً بلقب "الأميرال" أو "جنرال الجنرالات"، وتنتهي بإسم المُزارع الذي يقوم بإكثاره. وعُرف أندر الأصناف باسم "توليب بيزاردن"، وهو ذو بتلات حمراء أو بنية أو أرجوانية موشّاة بخطوط صفراء أو بيضاء. ألوانه الشبيهة باللهب جعلت هذا التوليب مطلوباً للغاية، ومن المعروف الآن أن تصبّغه نتج عن إصابة بصيلات التوليب بأحد أنواع فيروسات التبرقش النباتي، الذي يعرف باسم "الفيروس الكاسر للتوليب"، وهو من انواع الفيروسات غير المؤذية.
ينمو التوليب من البصيلات بعد زراعتها في التربة مباشرة، كما يمكن إكثاره بالبراعم والبذور، إلا أن ذلك يستغرق 10 سنوات للحصول على بصيلة مزهرة. عندما تنبت البصيلة ساقاً وأزهاراً، تختفي وتتشكل مكانها بصيلة مطابقة لها، كما تنتج العديد من البراعم. وتستغرق زراعة أصناف أكثر جاذبية من "توليب بيزاردن" سنوات طويلة، لأن فيروس التبرقش لا ينتقل لبصيلة جديدة أخرى إلا من خلال البراعم، وهذا يعلل ندرتها وارتفاع ثمنها.
تتفتح أزهار التوليب في نصف الكرة الشمالي خلال شهري أبريل ومايو (نيسان وأيار) لمدة أسبوع تقريباً. وخلال مرحلة الخمول بين يونيو وسبتمبر (حزيران وأيلول) يمكن اقتلاع البصيلات ونقلها، مما يسمح بعمليات الشراء الفعلية في السوق الفورية. وفي الفترة المتبقية من العام، يوقّع تجّار التوليب عقوداً آجلة أمام كاتب العدل لشراء الزهور في نهاية الموسم. هذه الترتيبات التي اتبعها الهولنديون سمحت بإنشاء سوق لبصيلات التوليب يستفيد من أساليب التمويل المتنوعة التي عرفتها البلاد.
مع نمو شعبية الأزهار، دفع المزارعون المحترفون أسعاراً متزايدة للبصيلات التي تحمل الفيروس المعدِّل للألوان، وارتفعت الأسعار بشكل مطرد بحلول سنة 1634، خاصةً مع طلب الفرنسيين للأزهار ودخول مضاربين إلى السوق. وفي سنة 1636 أصبحت بصيلات التوليب رابع منتج رئيسي تصدّره هولندا، بعد المشروبات الكحولية وأسماك الرنجة والأجبان. وبلغ الهوس بالتوليب ذروته خلال شتاء 1636-1637 عندما كانت الأيدي تتداول عقود بعض البصيلات عشرات المرات في اليوم الواحد.
في فبراير (شباط) 1637، انهارت أسعار عقود بصيلات التوليب بشكل مفاجئ وتوقفت تجارة الزهور. وبدأ الانهيار في مدينة هارلم، عندما امتنع المشترون عن حضور مزاد اعتيادي لبصيلات التوليب. لكن غياب المشترين لم يكن ناتجاً عن فقدان الاهتمام بالتوليب، بل بسبب مخاوف من انتشار الطاعون النزفي، المعروف أيضاً باسم طاعون الغدد اللمفاوية، وهو مرض حيواني المنشأ ينتشر أساساً بين القوارض الصغيرة والبراغيث التي تحملها، وينتقل إلى الإنسان. وهو الأكثر فتكاً بالبشر بين ثلاثة أنواع من الالتهابات الطاعونية التي تسببها بكتيريا "اليرسينيا"، حيث يؤدي بغياب العلاج إلى موت ثلثي المرضى خلال أربعة أيام من الإصابة به.
وعبر تاريخه الطويل، حصد وباء الطاعون أرواح عشرات الملايين من البشر، لا سيما خلال منتصف القرن الرابع عشر، عندما تسبب في موت ما بين 25 و75 مليون إنسان في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، حيث أُطلق عليه اسم "الموت الأسود". وفي هولندا، أدّت جائحات الطاعون خلال القرن السابع عشر إلى وفاة أكثر من 10 في المائة من سكان أمستردام.
غياب المشترين عن مزاد التوليب في مدينة هارلم خوفاً من الطاعون، الذي انتشر لاحقاً في المدينة، كان عاملاً مؤثراً في تفجير فقاعة الهوس بالتوليب. وعلى الرغم من أن الأثر اقتصر على عددٍ محدودٍ من المضاربين الأثرياء، ولم يؤثر على مجمل الاقتصاد الهولندي في تلك الفترة، إلا أن صدمة التوليب غيّرت مفهوم "القيمة" لدى الناس. وكان من غير المتصور أن شيئاً بسيطاً مثل الزهرة يمكن أن يحقق عائداً يفوق كد إنسان في العمل على مدار عام كامل.
وفيما تبدو المرويات التاريخية عن الهوس بالتوليب أقرب للدرس الأخلاقي من التأريخ الفعلي للحقائق، فإن التغيُّرات الاجتماعية والثقافية الناتجة عن تحولات توزيع الثروة كانت حقيقية، ولا تختلف كثيراً عن المخاوف المعاصرة التي تستوجب على الدوام تذكير المستثمرين بالابتعاد عن المضاربات غير العقلانية.
"كورونا" تهدد مزارعي الأزهار بالإفلاس
صحيح أن هولندا تصدِّر مئات الأنواع من الأزهار، لكن التوليب يبقى أشهرها. ومنذ بدء دخوله البلد قبل نحو 500 عاماً، تحوّل التوليب من زهرة للنخبة فقط إلى زهرة في متناول عامة الناس. كما أدى ظهور أصناف هجينة، نتيجة لتطوير التجارب على التوليب، إلى اختفاء العديد من الأصناف القديمة، وأصبحت الزهرة الممتلئة والمتشبعة بالألوان مقصد كل المزارعين.
وفي العقد الثاني من القرن العشرين اتفق مجموعة من المزارعين في مدينة "ألزمير" الهولندية على تنظيم سوق مزاد دائم لتجارة الأزهار وتصديرها. ومع الوقت تحولت البلدة الصغيرة القريبة من أمستردام، التي يقارب عدد سكانها حالياً 30 ألف نسمة، إلى عاصمة الأزهار العالمية. وهي توفّر فرص عمل لأكثر من 2600 شخص، وتستحوذ على معظم سوق تصدير الأزهار من هولندا، الذي تتجاوز مبيعاته 7 مليارات دولار سنوياً.
وفيما كانت "ألزمير" تتوقع هذه السنة تسويق 12 مليار زهرة ونبتة زينة، عدا عن الأبصال، انتشر وباء" كورونا" ليتسبب في تجميد تجارة الأزهار في عز موسمها، ليس فقط في مزادات هولندا بل في جميع أنحاء العالم. ببساطة، لا يمكن الطلب من الأزهار أن تتوقف عن النمو حتى تزول غمامة الوباء، كما لا يمكن تخزينها إلى أمد غير معروف. لذا كان خيار المزارعين إتلافها أو تركها تذوي في الحقول والبيوت البلاستيكية، التي تنتجها على مدار السنة وليس في الربيع فقط.
هولندا، التي يمثل قطاع الأزهار 5 في المائة من ناتجها المحلي، قد تصاب بخسارة قاسية تصل إلى 80 في المائة من إجمالي إنتاجها هذه السنة. لكن الضرر الذي سيطال مزارعي الأزهار في البلدان النامية مثل كينيا وأثيوبيا وكوستاريكا والهند ربما يكون أشد وطأة. وتبيع هذه الدول معظم صادراتها من الأزهار الموجهة إلى أوروبا عبر سوق المزاد في "ألزمير".
وتبلغ قيمة صادرات الأزهار من كينيا أكثر من مليار دولار، مما يجعلها ثالث أكبر مصدر للعملة الأجنبية. ويشغّل هذا القطاع نحو200 ألف شخص بمن فيهم العمال الموسميون، ويعتمد على تصدير 70 في المائة من إنتاجه إلى أوروبا، حيث يباع بمعظمه عبر مزادات هولندا. ومع توقف الطلب على الأزهار تحت ضغط سياسات التباعد الاجتماعي وتقييد الرحلات الجوية وحركة البضائع عبر الحدود، لم يكن لدى مزارعي كينيا من خيار سوى مشاهدة أزهارهم تذبل على أغصانها.
وتتواصل جمعيات مزارع الأزهار في هولندا مع الحكومة أملاً في الحصول على تعويضات لهذا القطاع، الذي يمثّل مصدر معيشة لنحو 150 ألف شخص في البلاد. ولم تقتصر الأضرار على تجارة الأزهار، بل طالت أيضاً سياحة الأزهار، إذ أُغلقت حدائق "كوكينهوف" ، وهي معرض الزهور السنوي الأشهر في العالم، التي كانت تتحضر لاستقبال أكثر من 1.5 مليون زائر لمشاهدة تفتُّح 7 ملايين زهرة خلال الربيع، واقتصرت إمكانية المشاهدة على "زيارات افتراضية" عبر الإنترنت. كما ألغي موكب أزهار الخزامى والنرجس والتوليب، الذي يجتذب مليون شخص من جميع أنحاء العالم.
عبر رحلة مستمرة منذ 500 عام، تمكنت هولندا من جعل الأزهار صناعة ضخمة تقود بها تجارة نباتات الزينة في العالم. وكأي صناعة، تأثرت الأزهار بفترات الركود الاقتصادي وازدهرت عندما توفرت الأموال في أيدي الناس. لكن اللاعب الرئيسي في صعودها وتراجعها كان في أغلب الأحيان كائناً غير مرئي، يهدد حياة الملايين أو يجلب الثروة لهم.