جائحة فيروس كورونا، التي انطلقت من مدينة ووهان الصينية، دليل جديد لما للصين من أثر ضخم على العالم، أكان للأحسن أم للأسوأ. فعدد سكان ووهان نفسها يتجاوز الملايين العشرة، أي أكثر من مجموع سكان بلدان عدّة. ومع اقتراب عدد سكَّان الصين من مليار ونصف المليار، فهي تؤوي نحو عشرين في المائة من سكّان العالم. ولكن كما تأخذ المصائب في الصين أبعاداً كبرى تتناسب مع حجمها، تأخذ المبادرات الإيجابية أبعاداً كبرى أيضاً، تؤثر في العالم كله.
شبكات النقل الحديثة، برّاً وبحراً وجوّاً، سرّعت في انتشار العدوى وتوسيع رقعتها، داخل الصين وخارجها. كما ساهم في انتشار الفيروس التقدّم الاقتصادي والصناعي والثقافي للصين، بحيث ينتقل منها وإليها مئات الآلاف يوميّاً، للتجارة أو السياحة أو التبادل الثقافي. وقد تبيّن أن مدينة ووهان كانت تستضيف في جامعاتها بضع مئات من الطلاب العرب. وحين تم اكتشاف الفيروس، كان هناك عشرات الآلاف من الصينيين، بعضهم جاء من مدينة ووهان نفسها، يزورون دولاً أخرى، للعمل أو السياحة. ومن الحالات التي لن تفارق الذاكرة سريعاً آلاف الناس الذين خضعوا لحجْر صحّي قسري على سفن سياحيّة، لمجرّد وجود شخص صيني واحد مُصاب بين الركّاب، وما لبث المرض أن انتقل إلى عشرات المحتجزين، في حالة تصلح مشهداً في أفلام الرعب.
كثير من الفيروسات القاتلة التي ظهرت في السنوات الأخيرة ذات أصل حيواني، من جنون البقر إلى سارس وإنفلونزا الطيور والخنازير. ومعظمها يعود إلى التدخّل غير المنضبط في الأنظمة الطبيعية، عن طريق استعمال مضادات حيوية وهورمونات لتسريع نموّ الحيوانات وزيادة الإنتاج. لكن هذا يتسبب مع الوقت بمشاكل تنتقل من الحيوان إلى الإنسان، في طليعتها نقص المناعة وظهور أمراض جديدة.
ليس كورونا الفيروس الأول الذي ينتشر في العالم، لكن انطلاقه من الصين تسبّب بحالة من الهلع. ففي بلد المليار والنصف، نحن نتحدث بمقاييس مختلفة عن المعتاد. وقد بلغ عدد الذين ماتوا بسبب كورونا خلال الأشهر الثلاثة الأولى أضعاف الذين قضوا بفيروس "سارس" بين 2002 و2003، وكانت الصين مركزه أيضاً. ولكن حين نتحدث عن الأعداد والنسب، علينا أن نأخذ في الاعتبار عدد سكان الصين.
يقودنا الحديث عن النسبية التي يفرضها حجم الصين في انتشار الأوبئة إلى انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون. فمع تطوّرها الاقتصادي والصناعي خلال فترة قياسية، احتلت الصين منذ سنوات المركز الأول في العالم من حيث انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون المسببة للاحتباس الحراري. فهي سبقت الولايات المتحدة بأشواط، وحلت مكانها في هذا الموقع غير المرغوب. انبعاثات الصين السنوية تبلغ اليوم 28 في المائة من المجموع العالمي، مقارنة مع نحو 14 في المائة للولايات المتحدة. لكن هذه الأرقام تخفي وقائع شديدة الأهمية، إذ إن الصين – قياساً إلى حصة الفرد - تحتل المرتبة 38 من حيث حجم الانبعاثات. جميع الدول الصناعية تفوق الصين بأضعاف في حصة الفرد من الانبعاثات الكربونية، ما عدا حالات قليلة مثل الدانمارك والسويد.
ارتفاع الانبعاثات في الصين لا يأتي فقط من المصانع، التي تزوّد العالم بالنسبة الكبرى من مختلف المواد والمنتجات، بل أيضاً من ارتفاع مستوى المعيشة لدى الصينيين. فإيصال الكهرباء الحديثة إلى الجميع، وتحديث شبكات النقل، وانتشار الأنماط الاستهلاكية بسبب وفرة المداخيل، وتملُّك السيارات الخاصة، من المظاهر التي أدت إلى ارتفاع إجمالي الانبعاثات. ومع هذا، ما تزال نسبة امتلاك السيارات في الصين ضئيلة جدّاً مقارنةً مع دول صناعية أخرى. ففي حين يمتلك كل 6 أفراد صينيين سيارة واحدة، تفوق النسبة في الولايات المتحدة هذا الرقم بستة أضعاف، إذ يوازي عدد السيارات عدد السكان تقريباً، أي سيارة واحدة لكل فرد. فهل نمنع الصينيين من حق التنقّل للحدّ من الانبعاثات؟ وهل يطالب الأميركيون الصين بعدم إيصال إمدادات الكهرباء الحديثة إلى المناطق الريفية لخفض استخدام الفحم الحجري في محطات التوليد؟
لا يمكن مقاربة ما يحدث في الصين، سواءٌ في مجال الأوبئة والصحة أو انبعاثات الكربون، إلا في إطار الكتلة السكانية للبلد. ولا يلومنّ أحد الصين على عدد سكّانها، إذ إنها تعتمد منذ عقود برامج قاسية للحدّ من التضخم السكاني، منها عدم السماح، لفترة طويلة، بأكثر من ولد واحد لكل عائلة. وبمعدل نموّ سكّاني سنوي لا يتجاوز النصف في المائة، تقل نسبة الزيادة السكانية في الصين عن معظم بلدان العالم، بما فيها الولايات المتحدة. وتصل نسبة الزيادة السكانية في بعض البلدان إلى 4 في المائة.
لا شك أن العدد الضخم لسكان الصين، رغم كلّ التدابير للحدّ من الزيادة، يدعو إلى القلق. لكن الصين، لحسن الحظ، بدأت تطبيق برامج جدّية للحدّ من البصمة البيئية لسكانها. فمع استمرار اعتمادها الكبير على الفحم الحجري لإنتاج الطاقة الكهربائية، تتقدم الصين بخطى متسارعة لتوسيع الاعتماد على الطاقة المتجددة. ففي حين تنتج اليوم 59 في المائة من كهربائها من الفحم، تعهّدت بتحقيق نسبة 20 في المائة من الطاقات المتجددة بحلول سنة 2030. وهي أوقفت تصاريح إنشاء عدد من محطات الكهرباء العاملة بالفحم، وبعضها كان في طور البناء. وفي العام الماضي، استقطبت الصين نصف الاستثمارات في مشاريع الطاقة المتجددة على مستوى العالم. كما أنها تقود، منذ سنوات، صناعة الخلايا الضوئية لإنتاج الكهرباء الشمسية، إلى الحدّ الذي دفع بعض البلدان، مثل الولايات المتحدة وفرنسا، إلى وضع قيود حمائية على واردات الألواح الشمسية من الصين، بحجّة عدم إغراق الأسواق المحلية.
وقد أعلنت الصين عن برامج لإنتاج السيارات الكهربائية على نطاق واسع للاستخدام المحلي، إلى جانب تخصيص ميزانيات ضخمة للأبحاث بهدف تطوير تقنيات رخيصة لإنتاج الهيدروجين واستخدامه في محركات السيّارات. وكما أدّى التطوّر الصناعي وحجم السوق الصيني إلى خفض أسعار ألواح الكهرباء الشمسية على نحو دراماتيكي خلال سنوات قليلة، فمن المتوقَّع أن يتكرّر الأمر مع سيارات الكهرباء والهيدروجين، عبر تحويلها إلى سلع شعبيّة رخيصة.
على الصين الموازنة بين الاندفاعة إلى تحقيق معدّلات مرتفعة من النموّ، وعدم الاخلال بعناصر الطبيعة، خاصة في عمليات إنتاج الغذاء النباتي والحيواني. وفي المقابل، يجدر بالذين يتخوفون من الكتلة السكانية الضخمة للصين كمصدر لانتشار الأوبئة أن يروا فيها أيضاً مختبراً ضخماً لتطوير تكنولوجيات صديقة للبيئة، ووضع هذه التكنولوجيات موضع التنفيذ، انطلاقاً من مليار ونصف المليار من البشر.