متحف نباتي حي ومنتزه طبيعي لا مثيل له، نمت أشجاره من غرسات وبذور جيء بها من أقطار العالم منذ تأسيس الجامعة الأميركية في بيروت عام 1866. هذه الواحة الخضراء تمتد من ساحل البحر المتوسط الى هضاب رأس بيروت وسط صحراء من الإسمنت والأسفلت. وقد تم مؤخراً إعلان حرم الجامعة حديقة نباتية (botanical garden).
هنا مقتطفات من مقال موسع عن حرم الجامعة الأميركية نشر في عدد كانون الأول (ديسمبر) 2005 من مجلة «البيئة والتنمية»
راغدة حداد
حدثتني صديقتي، وعيناها على ابنها الذي كان يتسلق شجرة البانيان العملاقة قرب مبنى الأسِّمبلي في الجامعة الأميركية في بيروت، قالت: «كم تسلقت هذه الشجرة حين كنت أدرس هنا. وتسلقها أبي الذي درس إدارة الأعمال في الخمسينات. وتسلقها جدي الذي تخرج من هنا طبيباً في ثلاثينات القرن الماضي».
تلك الشجرة العتيقة، التي يحاول جميع طلاب الجامعة تسلق جذورها الهوائية، أو يتمنون ذلك، زرعت قرابة العام 1880، وهي مـن تيــن البنغال (Ficus bengalensis) الذي لا يشبه تيــن لبنان ولا يحمل ثمره. وتنتصب قربها تينة المعابد الهندية (F. religiosa). ومـن التينيات الغريبة الأخـرى شجرة ضخمة هوائية الجذور (F. retusa) خارج المدخل الطبي، وتينة اوستراليا (F. rubiginosa) قرب مبنى وست هول، وشجرة مطاط (F. elastica) قرب مبنى كلية إدارة الأعمال جيء بها من مالايا حيث تعيش في غابات كثيفة.
الجامعة الأميركية غابة محمية لا مثيل لها في الشرق الأوسط، بل في العالم. وكما وصفها الدكتور شارل أبو شعر، الذي تخرج في كلية الصيدلة عام 1936 وعلَّم فيها حتى قبيل وفاته، «انها حديقة نباتية من الأعشاب والشجيرات والأشجار، نباتاتها اجتمعت من مختلف أرجاء العالم، تماماً مثل الناس فيها». وهو ألف كتاباً وثَّق فيه أشجار الجامعة وضمت لائحته 172 نوعاً تنتمي إلى 56 عائلة.
كأنك في حديقة عطور
ماذا يمكن أن تلقى في جولة داخل الجامعة؟ تنتشر أشجار دائمة الخضرة تضفي على الحرم رونقاً دائماً. فهناك أرزة لبنان، وهناك الصنوبر المحلي الذي تؤكل نواته، وصنوبر حلب أو حَبّ قريش ذو الأكواز الرفيعة، وصنوبر الكناري البحري الذي يتميز بكبر شجرته وأكوازه، وأنواع صنوبرية أخرى نادراً ما تشاهد في أي مكان خارج بلدانها الأصلية.
وتزهر أشجار حاملة تباشير الربيع، ومنها «شجرة يوضاس» (redbud) بأزاهيرها البنفسجية الفاتحة، والدفلى المتوسطية وهي شجرة سامة يستخرج منها عقار للقلب وتحمل أزهاراً بيضاء أو حمراء أو زهرية. ويزهو عنب الثعلب ذو الأزهار الذكرية الزاهية الألوان، والياسمين الناصع البياض، والوستيريا الصينية المتسلقة التي تزهر قبل أن تورق. وفي الماضي القريب كانت نبتة مخلب القط الأرجنتينية تلتفّ على الأشجار والأبنية، خصوصاً مبنى كولدج هول، وتتفتح زهرات صفراء براقة كبيرة.
وفي موسم الميلاد تلفت الأنظار وريقات حمراء في زهرات شجرة البوانسيتيا قرب مبنى الأسمبلي، وكذلك شجرة توت الميلاد. وتتفتح في الخريف والربيع أزهار الصبر (ألوفيرا) البرتقالية، وتنضح الأوراق السميكة لهذه النبتة عندما تقطع عصارة مرة تستعمل في الطب كمسهِّل وشاف للحروق.
يبقى حرم الجامعة مزهراً على مدار السنة بتفتح زهرات شجرة هنا وشجرة هناك. ومن الأشجار الكبيرة المزهرة الجكرندة البرازيلية بأزهارها الزرقاء الكبيرة التي زرعها دانيال بلس في أواخر القرن التاسع عشر. وقـد أحضرت التيبوانا مـن بوليفيا، وشجرة المرجان(Erythrina caffra) من جنوب أفريقيا، والليبيك (البيزيا) من آسيا الاستوائية. ومن أوستراليا الاوكاليبتوس أو الكينا، وشجرة ذيل الحصان الصنوبرية، و«شجرة القارورة» أو البراكيكيتون العملاقة ذات الجذع الأخضر الأملس والتي تكون إما ذكراً وإما أنثى خلف مبنى الكيمياء في الحرم السفلي.
ومن المزهرات أيضاً الأكاسيا (السنط) ذات الأزهار الصفراء أو البرتقالية البراقة، والدومبيا والبوانسيانا الملكية (زهرة الطاووس) من مدغشقر، والبومباكس والكاسيا والبوهينيا ذات الأزهار البيضاء والأرجوانية من الهند، والجرسيّة الصفراء من أميركا الوسطى، وصبّار سوفورا الأميركي.
ولعل أقدم الأشجار التي تحمل بزوراً هي السيكاس، المتوسطة شكلاً بين السرخس والنخل، مقابل مبنى الأسمبلي ومبنى بوست. وشجرة الخروب قرب متحف الجامعة انبثقت من جذع كبير خلفته عاصفة قصمت الشجرة العتيقة. وتستقبلك خارج المدخل الطبي شجرة الصندوق الأوسترالية (Pittosporum undulatum) التي تتفتح أزهارها العطرة في الربيع. أما قريبتها اليابانية فتنتشر على أسيجة الحرم الجامعي.
تتجول في الجامعة كأنك في حديقة عطور. ومن الحرم الأعلى المحاذي لشارع بلسّ في رأس بيروت، نزولاً إلى الحرم الأسفل عند شاطئ البحر، تتسلق البوغنفيلية البرازيلية الجدران والأسيجة بوريقاتها القرمزية أو الحمراء أو الزهرية التي تختبئ داخلها أزهار ملونة. وتتألق صريمة الجدي (honeysuckle) الرحيقية القرمزية الأزهار من رأس الرجاء الصالح، ومواطنتها العشبة الرصاصية ذات الأزهار الزرقاء اللازوردية قرب الملعب الأخضر. ولا يفارقك الشذا صعوداً الى المدخل الرئيسي حيث أشجار الفتنة المكسيكية تعطر الأجواء بأزهارها الصفراء، وصولاً الى الآس العنبي الليلكي الأوراق قرب مبنى نايسلي.
ومن الأشجار المميزة الزيتون، واللبلاب الانكليزي، وعريشة فيرجينيا القوية، والميسة الكبيرة قرب مبنى الأسمبلي التي تطرح أوراقها في الشتاء، وشجرة فلفل كاليفورنيا، والفستق الحلبي، والايلنطس الهندية أو «شجرة السماء»، وشوك النار بثماره البرتقالية الجميلة، ونبتة الخروع التي تنمو إلى حجم شجرة في مناخ لبنان.
وعلى جذوع كثير من الأشجار لوحات نحاسية تحمل اسم الشجرة بالانكليزية، واسمها العلمي باللاتينية، واسم بلدها الأصلي الذي أحضرت منه.
تاريخ أشجار عتيقة
قال لي الدكتور شارل أبوشعر حين زرته في تشرين الأول (أكتوبر) 2005: «أرأيتِ هذه العصا؟ وليم وست أعطاني إياها. نزعها من شجرة قيقب في الثلاثينات ليستعملها كعكاز. كان يجول في الأرياف باحثاً عن نباتات لبنان. وقد عاد مرة من فلسطين حاملاً قصفة من الصبر المرّ (Aloe vera) غرسها في قبعته، اذ لم يكن معه وعاء. تجدينها الآن شجرة قوية في الوادي تحت ماركواند هاوس».
دوّن الدكتور وليم وست، الذي كان أستاذاً للكيمياء، أن شجرة السنديان الكبيرة قرب المرصد القديم كانت هناك قبل تأسيس الجامعة، وهي أعتق الأشجار الموجودة في حرم الجامعة. وقد كرس وست سنوات طويلة لهندسة المنظر الطبيعي للجامعة. وغرس بيده نخلات واشنطن المروحية في صف على «المرج البيضوي» قبالة مبنى فيسك، مستشرفاً أنها «ستعلو بجذوعها الشبيهة بالأعمدة لتوحي بميدان روماني». كما زرع سروات من أريزونا عام 1923، وما زالت إحدى شجراته خلف مبنى المرصد. ومن مجموعاته الخاصة أشجار الدفلى في المدرَّج شمال ماركواند هاوس (بيت رئيس الجامعة). وقد أحضر ثمار بلوط من نوع Ilex زرعها غرب مكتبة يافث وجنوب غرب مبنى بلس. كما زرع في أنحاء متفرقة بلوطات من السنديانة العتيقة قرب المرصد، «وهذه ربما تخدم أهل القرن الحادي والعشرين مثلما خدمت أمهاتها أهل القرن العشرين»، كما جاء في مدوَّناته.
وكتب وست عام 1965 في رسالة إلى رئيس الجامعة آنذاك نورمان برنز: «جميع أشجار السرو في حديقة ماركواند هاوس تعود الى أيام آل دودج (رئيس الجامعة خلال الفترة 1923 ـ 1948). أما السروات العشر في المثلث شرق المنزل فقد زرعها دانيال بلس، وماتت إحداها في الأربعينات فغرست أخرى مكانها. لا بد أن تلك الأشجار زرعت قرابة عام 1880. وشجرة البانيان قرب الكنيسة تعود إلى الفترة ذاتها، كانت كبيرة حين كنت صبياً صغيراً، ولطالما تسلقتها».
أضاف وست في رسالته: «الصنوبرات المقابلة لمبنى بوست، وتلك الأبعد قليلاً على المنحدر، زرعها دانيال بلس أيضاً. وأذكر جيداً، وأنا صبي، أنه كان ممنوعاً علي أن أركض في تلك البقعة خوفاً من أن أدوس تلك الغرسات وأكسرها! أما شجرة الأوكاليبتوس العملاقة شرق الكنيسة، فقد زرعها هنري غلوكلر الذي أحضرها معه من القدس في علبة بسكويت معدنية عام 1911. وفي وقت ما قبل الحرب العالمية الأولى، أحضر جورج ستيوارت أمين صندوق الكلية السورية الإنجيلية (اسم الجامعة آنذاك) بذور أشجار متوطنة في كاليفورنيا وأوستراليا، ولعل سروات مونتراي تعود إلى تلك الحقبة... وكذلك أشجار الغريفيلية».
وكان وست يأمر باقتلاع أشجار بعدد تلك التي يزرعها لينمو غيرها براحة، «ولو لم أفعل لاستحالت رؤية البحر من أنحاء كثيرة في حرم الجامعة».
حرم عالمي
تضمّن المخطط التوجيهي الحالي لتطوير حرم الجامعة خطة لتعزيز بيئة شرق ـ متوسطية في الحرم الأوسط، وهو الجزء الأكثر انحداراً في الجامعة وبمثابة حزام أخضر فريد يفصل بين الحرمين الأعلى والأسفل. وتلحظ الخطة إبدال بعض النباتات الموجودة بأخرى أكثر ملاءمة للبيئة المحلية. لكن هناك دعاة كثيرين لإبقاء الحياة النباتية «العالمية» على حالها في هذا الحرم الذي يربطه الناس بصرياً بالجامعة.
لقد اختفت أشجار كثيرة كانت هناك، ومنها شجرة «شعر الفتاة» الصينية، وشجرة البن الأفريقي، وشجرة التمر الهندي. بعض الأشجار العتيقة، والتي ضربتها صواعق أو شظايا خلال أحداث لبنان، تحتاج إلى عمليات «جراحية»خاصة أو إلى تهوئة للجذور ومعالجة لتملح التربة. ولكن الجامعة ما زالت تجمع نحو 150 نوعاً من الأشجار، وقد تم اعلانها حديقة نباتية (botanical garden).
في صحراء الاسمنت التي أطبقت على العاصمة اللبنانية، تبقى الجامعة الأميركية متحفاً نباتياً حياً لا مثيل له، وآخر غابة حقيقية في بيروت.