حتى لو توقفت جميع النزاعات والحروب فوراً، لن تستطيع المنطقة العربية الوفاء بموعد تحقيق أهداف التنمية المستدامة باستخدام الطرق التقليدية. فقد أدت الأحداث المأسوية التي شهدتها بلدان عربية كثيرة خلال السنوات الماضية إلى حصر طموحها في العودة إلى الوضع الذي كان سائداً عام 2010، ناهيك عن تحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول سنة 2030.
هناك أكثر من 10 بلدان عربية من أصل 22 هي إما تحت الاحتلال وإما تعاني من حروب أو نزاعات، فيما عشرات ملايين الأشخاص هم لاجئون أو نازحون داخلياً، ويفتقر كثيرون إلى الحاجات والحقوق الأساسية على مستويات مختلفة. والبلدان العربية التي لا تعيش نزاعات داخلية تجاور بلداناً تعاني من عدم استقرار كبير، مما يقوض المزايا المرتقبة للتعاون الإقليمي والدور الحاسم الذي يمكن أن يؤديه في تعزيز تنفيذ أهداف التنمية الوطنية.
تقرير المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) حول "التنمية المستدامة في مناخ عربي متغير" يوصي بمقاربة بديلة، قائمة على دمج مبادئ التنمية المستدامة ضمن جهود إعادة الإعمار المرتقبة. وهو يدعو منظمات الإغاثة المحلية والإقليمية والدولية إلى عدم حصر جهودها في توفير ضروريات السلامة والحاجات الأساسية للمتضررين، بل الى استغلال خطط الإغاثة لتمرير مقاربات جديدة للتنمية، متجذرة في مرحلة انتقالية نحو الاقتصاد الأخضر. هكذا يتم العمل على تعزيز أهداف التنمية المستدامة جنباً إلى جنب مع الإغاثة والمساعدات الطارئة.
لا تنحصر تحديات تحقيق أهداف التنمية في البلدان التي تمزقها النزاعات المسلحة، إذ إن جميع بلدان المنطقة تشهد تغيرات اقتصادية غير مسبوقة. وهذا سيحتم عليها انتهاج مسارات بديلة في التنمية، تتطلب تغييرات بنيوية في مفاهيم الإنتاج والعمالة، وتحديد أهداف واقعية للنمو، تتوخى تأمين حاجات الناس ورفع مستوى حياتهم، بدلاً من تضخيم الأرقام.
تقرير "أفد" حول التوقعات والتحديات لتحقيق أهداف التنمية المستدامة يبني على التقارير الثمانية السابقة عن حالة البيئة العربية، التي أنتجها المنتدى منذ العام 2008. لقد عالجت تقارير "أفد" السنوية حتى الآن قضايا بيئية رئيسية في المنطقة العربية، بما في ذلك المياه والأمن الغذائي والطاقة والاقتصاد الأخضر والبصمة البيئية والاستهلاك المستدام وتغير المناخ. التقرير الجديد يلقي الضوء على خيارات السياسات المتوافرة للبلدان العربية، في ضوء التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الجديدة، كي تتمكن من تحقيق أهداف التنمية المستدامة، كما وضعها المجتمع العالمي، بحلول سنة 2030.
أصبحت تقارير "أفد" السنوية مصدراً رئيسياً للمعلومات ومحركاً أساسياً لاصلاحات في السياسات البيئية والإنمائية في البلدان العربية. وقد بيّنت التقارير الأهمية المحورية للعلاقة التلازمية بين الطاقة والمياه والغذاء، خصوصاً مع تنامي تأثير تغير المناخ، وركزت تكراراً على أهمية تعزيز الحصول على الطاقة والمياه والغذاء بكفاءة أفضل وبشكل عادل، كما على خفض النفايات.
يخلص التقرير الحالي إلى مجموعة من الرسائل، المصممة لجهات لها دور أساسي في تنفيذ أهداف التنمية المستدامة في المنطقة العربية. أول هذه الرسائل وجوب وقف التعامل مع البلدان العربية كقطعة واحدة متراصة، إذ لكل بلد حاجات وأولويات وسياقات اقتصادية وسياسية واجتماعية مميزة يجب الاعتراف بها عند تطوير خطط تنفيذية. ثانياً، مواجهة مجموعة من التحديات الرئيسية المشتركة، في طليعتها تأمين مشاركة فعالة من القطاعات غير الحكومية، وخلق فرص عمل وبناء قدرات مؤسسية وأخرى تتعلق بالسياسات العامة. ثالثاً، حشد موارد مالية كافية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، عن طريق الشراكات بين صناديق التمويل الوطنية والإقليمية والدولية وتوفير الظروف الملائمة لاستثمارات القطاع الخاص. رابعاً، تبنّي مقاربة واقعية للتنمية المستدامة تكون عابرة للقطاعات، ما يستلزم دمج اعتبارات تغير المناخ في تنفيذ أهداف التنمية المستدامة، خصوصاً على أساس العلاقة التلازمية بين المياه والطاقة والغذاء. خامساً، إشراك المجتمع المدني، وخاصة مجموعات الشباب والنساء في مناطق النزاع، ليلعب دوراً قيادياً في دمج تنفيذ أهداف التنمية المستدامة والعمل من أجل الحد من تغير المناخ في عملية إعادة الإعمار.
لا تحتمل البلدان العربية انتظار الانتهاء من إعادة الإعمار لبدء العمل على تحقيق أهداف التنمية المستدامة. تقرير "أفد" يسلط الضوء على حاجة ملحة للاستثمار في تنمية يكون محورها الناس، تعزز دمج حقوق الإنسان، بما في ذلك الحق في التنمية، ومبادئ المشاركة الشعبية الحقيقية والمساءلة والشفافية وعدم التمييز، في أجندة التنمية. وهذا بالتحديد ما يمكننا استخلاصه من أحداث السنوات الخمس الماضية في البلدان العربية.
كل هذه التوصيات ستبقى مجرّد أحلام يقظة ما لم تبذل البلدان العربية التي تعاني من نزاعات مسلحة جهوداً استثنائية لبناء السلام واستعادة الاستقرار السياسي. لكن الحفاظ على الاستقرار في المدى الطويل لن يكون ممكناً إذا لم تعمّ فوائد التنمية المستدامة الجميع.
|