يدعو الهدف الثالث للتنمية المستدامة إلى ضمان تمتع جميع الناس بالصحة والرفاه في جميع الأعمار. فهل العالم العربي جاهز لتحقيق هذا الهدف؟
في أيلول (سبتمبر) 2015، أقرت الأمم المتحدة 17 هدفاً عالمياً للتنمية المستدامة من أجل القضاء على الفقر وتعزيز الرخاء وحماية البيئة بحلول سنة 2030. ويدعو الهدف الثالث، أو الهدف 3 (SDG3)، البلدان إلى «ضمان تمتع الجميع بأنماط عيش صحية وبالرفاه في جميع الأعمار».
وتعكس المقاصد المحددة لهذا الهدف توسعاً ملحوظاً في الأجندة الصحية السابقة للأهداف الإنمائية للألفية (MDGs). ففي حين حددت أهداف الألفية المعايير الإرشادية لصحة الأم والطفل ولعدد من الأمراض السارية مثل الإيدز والملاريا، تبنّى الهدف 3 الجديد توجهاً أكثر شمولية يدعو إلى الاهتمام بجميع الأمراض السارية وغير السارية (بما في ذلك أمراض الصحة النفسية)، والوفيات والإصابات الناجمة عن حوادث الطرق، وإساءة استعمال المواد (تعاطي المخدرات وتناول الكحول على نحو يضر بالصحة)، والمخاطر البيئية، بالإضافة إلى صحة الأم والطفل. وهو يدعو إلى ضمان حصول الجميع على خدمات رعاية الصحة الجنسية والإنجابية، وإلى تحقيق التغطية الصحية الشاملة من أجل ضمان تطبيق مبدأ الإنصاف.
ويقترح هذا الهدف الجديد أربع «وسائل تنفيذ» تتعلق بمكافحة التبغ، ودعم البحث والتطوير في مجال اللقاحات والأدوية، وزيادة التمويل وتطوير وتدريب القوة العاملة في قطاع الصحة، وتعزيز القدرات في مجال الإنذار المبكر وإدارة المخاطر الصحية الوطنية والعالمية.
على رغم أن الصحة ترتبط بشكل واضح بهدف واحد من أهداف التنمية المستدامة الـ17 التي أقرتها الأمم المتحدة، هو الهدف 3، فإن تحقيق مقاصد هذا الهدف يعتمد بقوة على تحقيق الأهداف الأخرى التي تتعلق بالعوامل الاجتماعية والبيئية والسياسية التي تؤثر على الصحة. بكلام آخر، التقدم نحو تحقيق أي هدف من أهداف التنمية المستدامة يحسِّن الصحة والرفاهية بشكل مباشر أو غير مباشر ويساهم في تحقيق الهدف 3. إضافة إلى ذلك، ومع توقيع الغالبية العظمى من المجتمع الدولي على اتفاق باريس حول تغير المناخ في مؤتمر الأطراف (COP 21) وعلى أهداف التنمية المستدامة بفارق أسابيع، أظهر قادة العالم رغبة في تحقيق أهداف إنمائية شاملة النطاق مع الأخذ بعين الاعتبار التكيف مع نتائج تغير المناخ وتخفيف مسبباته وتأثيراته.
الأداء العربي
هل العالم العربي جاهز لتحقيق مقاصد الهدف 3؟
أثبتت التجارب السابقة، كما الأحداث الحالية، أن التحديات التي تحول دون تحقيق هذه المقاصد كثيرة ومتشعبة. فقد حققت البلدان العربية إنجازاً متبايناً في ما يتعلق بالأهداف الإنمائية للألفية الستة المرتبطة بالصحة، مع تحقيق النجاح الأكبر في مجال صحة الأم والطفل. وكان أداء البلدان العربية المنخفضة الدخل هو الأسوأ، مع تفاوتات كبيرة ضمن البلد الواحد، خصوصاً بين سكان الأرياف وسكان المدن وبين المناطق الأكـثر فقراً والمناطق الأكثر ثراء. ويرجح أن تستمر هذه التباينات مع الأجندة الجديدة لأهداف التنمية المستدامة،كما أن نقص البيانات الموثوقة قد يعيق عملية مراقبة التقدم نحو تحقيق هذه المقاصد. والواقع أن تقييم الأداء الحالي لمقاصد الهدف 3 المقترحة يبيّن مدى التفاوت وعدم المساواة بين مختلف بلدان العالم العربي.
ويشكل النزاع في المنطقة العربية عقبة كبيرة في طريق التقدم نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة. فأكثر من 10 دول من أصل 22 دولة عربية ترزح إما تحت الاحتلال وإما تحت وطأة الحروب أو النزاعات. وتؤوي المنطقة عشرات ملايين اللاجئين أو المهجَّرين. ويفتقر كثير من مواطني الدول العربية إلى حقوق أساسية، كالمشاركة السياسية وحرية التعبير وحتى حرية التنقل من مكان الى آخر. وتعاني معظم الدول العربية أو تجاور دولاً تعاني من عدم الاستقرار أكثر من أي دول أخرى في العالم. ورغم ذلك، نجد أن صيغة أهداف التنمية المستدامة تفترض بشكل واضح ان أهداف وتحديات التنمية الوطنية غالباً ما تكون محصورة ضمن حدود البلد الواحد.
وتبدو النظم الإيكولوجية الداعمة لصحة الإنسان في المنطقة العربية هشة جداً، خصوصاً اذا أخذنا في الإعتبار العوامل المسببة لتغير المناخ. ويعاني 12 بلداً عربياً من ندرة حادة في المياه، ومن المتوقع أن يزداد هذا العدد خلال العقود المقبلة. كما ينتشر التصحر في كثير من البلدان العربية حيث تعتمد معيشة أعداد كبيرة من السكان على الأراضي الزراعية. بالإضافة الى ذلك، يشكل تلوث الهواء، الداخلي والخارجي على حد سواء، مصدر قلق حقيقي في المدن العربية الكبرى. إن الخسارة المأسوية السريعة للنظم الإيكولوجية الداعمة للحياة لا تعيق إحراز تقدم في تحقيق التنمية المستدامة فحسب،بل تهدد حتى وجود المجتمعات والبلدان.
مقاربات جديدة
تتيح أهداف التنمية المستدامة فرصة سانحة للعالم العربي، خصوصاً عنصر الصحة أي الهدف 3 الذي قد يمثل هدفاً إقليمياً موحِّداً من أجل تشجيع الرفاه والبقاء في المنطقة العربية.
لكن تحقيق مقاصد هذا الهدف ضمن هذه التحديات الضخمة يتطلب مقاربات جديدة تعوّل على التعاون الإقليمي والتجارب والخبرات السابقة. المطلوب إطار عملي للشراكة بين الدول العربية يروج للتشارك في الموارد والخبرات، كما يشجع التضامن من أجل تحقيق الهدف 3 وأهداف التنمية المستدامة كافة، ومن أجل التغلب على التحديات المتشابكة والمتشعبة التي تتعلق بهذه الأهداف.
في ما يلي نقترح أربع توصيات لتحقيق هذا الهدف:
أولاً، على كل بلد عربي أن يتبنى مقاصد مختلفة للهدف 3، بناء على أدائه السابق وواقعه الحالي وأدائه المتوقع في المدى القريب. تُجمع المعلومات وفق الجنس والعمر والعرق والجنسية حسب الحالة. ويجب تشكيل مجموعات عمل وطنية وإقليمية تعمل على مؤشرات صحية محددة، من أجل تعزيز التعاون والدعم عبر البلدان العربية المختلفة لتحقيق الأهداف المشتركة.
ثانياً، على البلدان العربية، خصوصاً ذات الدخل المنخفض والمتوسط، أن تركز على تحسين نظم الصحة العامة لتحقيق مقاصد الهدف 3. فلا يمكن تحقيق أي من هذه المقاصد الصحية من دون نظام صحي موثوق وأداء متقدم في الصحة العامة يشمل نظم رصد ومراقبة لقياس التقدم المحرز. وتتطابق هذه المقاصد مع ما وصفه المكتب الإقليمي لشرق المتوسط في منظمة الصحة العالمية بوظائف الصحة العامة في المنطقة.
ثالثاً، على العاملين في المجال الصحي أن يتبنوا مقاربة أفقية شمولية للقضايا الصحية، بدلاً من المقاربة العمودية لكل مرض على حدة. ويقتضي الارتباط الواضح بين الهدف 3 وأهداف التنمية المستدامة الأخرى أن يطور العاملون في المجال الصحي وأصحاب القرار السياسي استراتيجيات شاملة وأطراً تعزز التعاون بين مختلف الوكالات وعبر القطاعات كافة.
رابعاً، على العاملين في المجال الصحي أن يدركوا تلاقي الهدف 13 (SDG13) وأهداف مؤتمر تغير المناخ COP21 في دعم الهدف 3 الخاص بالصحة. إن تحقيق مقاصد الهدف 13 حول تغير المناخ سيسهل بشكل كبير العمل لتحقيق مقاصد الهدف 3.
في الختام، ومع الأخذ بعين الاعتبار الأداء السابق والتحديات السياسية والاقتصادية الحالية، يمثل السعي لتحقيق مقاصد الهدف 3 فرصة لإيجاد هدف جامع لجميع البلدان العربية كي تتعاون على بناء نظم صحية مرنة، وتخفيض الوفيات والإصابات الناجمة عن أمراض وظروف متعددة، وتحسين صحة ورفاه الناس، خصوصاً في البلدان الأكثر فقراً. ان للهدف 3 إمكانية كبيرة ليكون بمثابة جسر إلى السلام والشراكة والمساواة بين البلدان العربية.
د. إيمان نويهض أستاذ وعميد كلية العلوم الصحية في الجامعة الأميركية في بيروت. د. ريما حبيب أستاذة ورئيسة دائرة صحة البيئة في الكلية. سوزان الخشن مدرسة باحثة في الكلية. شلبي سورديك طالبة ماستر في دائرة صحة البيئة في الكلية.