يتسبب التدهور البيئي كل سنة بأكثر من 420 ألف وفاة مبكرة وبخسارة «24 مليون سنة عجز» في المنطقة العربية، وذلك نتيجة أمراض القلب والتهابات الجهاز التنفسي والإسهال والسرطان وغيرها من الحالات المرضية، الناجمة عن مخاطر بيئية تشمل تلوث الهواء ونقص المياه الآمنة وخدمات الصرف الصحي والتعرض للنفايات والمواد الكيميائية الضارة
لو أدركنا كم من الأمراض والعلل يمكن الوقاية منها عن طريق إدارة المخاطر البيئية، لاندفعنا أكثر في دعم التدابير الصحية الوقائية من خلال السياسات والاستراتيجيات والتدخلات والتقنيات والمعارف المتاحة. هذا صحيح عموماً في ما يتعلق باستدامة التنمية في معظم بلدان العالم، لكنه أكثر أهمية في البلدان العربية حيث مخاطرنا البيئية أعلى ومعدلات التنمية أبطأ.
ترسم التنمية المستدامة سيناريوهات مشرقة حول المنافع المتبادلة وتقدم فوائد شبه فورية من خلال التصدي لقضايا الصحة والمناخ والبيئة بشكل متكامل. كما توفر أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة (SDGs) بمقاربتها الشمولية فرصاً ملموسة لتخفيض العبء المرضي الناجم عن عوامل الخطر البيئية، وتساهم في «ضمان حياة صحية ورفاهية للجميع في كل الأعمار». لذلك فإن صنّاع السياسة في قطاع الرعاية الصحية والعاملين في الحقل الصحي مدعوون إلى التسلح بالأدلة التي تبرز الاحتياجات وتثبت ما يمكن تحقيقه على أرض الواقع من أجل تعزيز التنمية المستدامة وبناء المجتمعات الصحية المعافاة.
قدرت منظمة الصحة العالمية سنة 2016 العبء المرضي العالمي الناتج من مخاطر بيئية بنحو 19 في المئة، وأن التدهور البيئي يتسبب بأكثر من 420 ألف وفاة مبكرة سنوياً في المنطقة العربية، ما يمثل 20 في المئة من عدد الوفيات الكلي. وإذا احتسبنا الوفيات والعجز كليهما، العرب يخسرون سنوياً نحو 24 مليون سنة عمر مصححة باحتساب مدد العجز (Disability Adjusted Life Years - DALYs) نتيجة التدهور البيئي. وللأسف، فإن هذا الرقم يكون أعلى بشكل ملحوظ عندما يتعلق الأمر بالأطفال دون سن الخمس سنوات، حيث يرتفع إلى 26 في المئة من مجموع الوفيات المسجلة. وتختلف البلدان العربية كثيراً من حيث ظروفها الاجتماعية الاقتصادية والديموغرافية والبيئية والصحية، وتبعاً لذلك تتفاوت نتيجة هذا العبء المرضي البيئي.
شهد العقد الأخير تحولاً من انتشار الأمراض السارية والطفيلية والغذائية إلى انتشار الأمراض غير السارية والإصابات، ليس فقط من حيث مدى تأثير المخاطر البيئية، ولكن أيضاً من حيث العبء الإجمالي. ويرجع هذا التحول أساساً إلى انخفاض المخاطر البيئية التي تطلق شرارة تفشي الأمراض السارية. على سبيل المثال، ازدادت نسبة الناس الذين تصلهم المياه الآمنة وخدمات الصرف الصحي المحسنة، وانخفضت نسبة الأسر التي تستخدم الوقود الصلب للطهي. وفي ما يخص العبء المـرضي الإجمالي بشكل عام، فقـد ازدادت الأمراض غير السارية، عالمياً كما هي الحال في معظم البلدان العربية.
وعلى غرار بقية مناطق العالم، تشمل الأمراض الرئيسية الأكثر ارتباطاً بالبيئة في البلدان العربية أمراض القلب والشرايين والأوعية الدموية، وأمراض الإسهال، والتهابات الجهاز التنفسي السفلي، وأمراض السرطان، والإصابات غير المتعمدة. أما المخاطر البيئية الرئيسية التي تسبب هذه المجموعات من الأمراض فهي تشمل تلوث الهواء الخارجي والداخلي، ونقص توفير المياه الآمنة وخدمات الصرف الصحي والنظافة الشخصية، والتعرض المتزايد للنفايات والمواد الكيميائية الضارة، ومخاطر حوادث السير.
إن التعرض للمخاطر البيئية هو من المحددات الرئيسية للصحة العمومية عبر دورة حياة الإنسان. وتُظهر ضخامة العبء المرضي الناجم عن هذه المخاطر المتعددة أنه لا يمكن التصدي لهذه المخاطر وما ينتج عنها من تداعيات صحية كل على حدة.
ضروري هنا اعتماد وتنفيذ «منهجية إيكولوجية صحية متكاملة» تعترف بالعلاقات المعقدة بين العوامل البيولوجية والسلوكية والبيئية والاجتماعية والتنموية.
من الواضح أن تخفيض العبء المرضي الناجم عن المخاطر البيئية ممكن تماماً من خلال تدخلات وتدابير منخفضة الكلفة. لكن لكي تكون هذه التدابير أكثر فعالية واستدامة، فيجب تصميمها وتنفيذها على نحو بيئي ـ صحي شمولي متكامل.
تقدم حماية البيئة منصة وقائية قوية لحماية الصحة العامة وصحة المجتمعات والأفراد. ويمكن اتخاذ العديد من التدابير الاستباقية والفورية لتخفيض العبء المرضي الناجم عن المخاطر البيئية. من الأمثلة على ذلك تخزين المياه المنزلية بشكل أكثر سلامة، والترويج لتدابير نظافة شخصية أفضل، واستعمال وقود أنظف وطاقة أكثر أماناً، واستخدام وإدارة المواد السامة في المنزل وفي مكان العمل بحرص أكبر، واعتماد أساليب مأمونة للصحة والسلامة المهنية في أماكن العمل. وبناء عليه، فإن الإجراءات والتدابير التي تتخذها قطاعات إنتاجية وخدمية مثل الطاقة والنقل والبلديات والزراعة والصناعة، بالتعاون مع قطاع الصحة، هي حيوية وهامة في التصدي لأسباب اعتلال الصحة العامة ذات المسببات البيئية. فالإجراءات لا تأتي من قطاع الصحة العمومية وحده، بل من جميع القطاعات الأخرى التي تؤثر في المحددات البيئية للصحة. ومن شأن العمل الجماعي المنسق والمتآزر لوضع سياسات صحية وبيئية وتنموية أن يعزز تحقيق تقدم جذري في صحة الانسان ورفاهه وجودة حياته، من خلال إرساء منافع اجتماعية واقتصادية مشتركة ومتنوعة.
يتوقع بحلول سنة 2050 أن يعيش 68 في المئة (نحو 646 مليون نسمة) من سكان العالم العربي في مناطق حضرية تتميز غالباً بازدحام مروري وهواء ملوث وسكن سيىء وتزويد محدود بخدمات المياه والصرف الصحي، إضافة إلى مخاطر صحية بيئية أخرى بما فيها تلك المرتبطة بمكان العمل. (يشار هنا إلى أنه في العام 2014 كان نحو 51 في المئة من سكان المنطقة العربية يمارسون أنشطة عمل اقتصادية، وفي عدة بلدان يتم تشغيل هؤلاء العمال بشكل غير آمن وفي ظروف عمل خطرة ومهينة).
إن إعادة تموضع قطاع الصحة العامة للعمل بشكل أكثر تنسيقاً في سياسات الصحة الوقائية الفعالة مع القطاعات المعنية المختلفة وضمنها، هي الخطوة الصحيحة الأولى لمواجهة الأخطار والمسببات البيئية للأمراض والإصابات وتقليص أعباء المرض العالمية.
وتجدر الإشارة إلى الحاجة الملحة في منطقتنا لمعالجة التأثيرات المباشرة وغير المباشرة للمخاطر البيئية، الناشئة منها والمقبلة، مثل تغير المناخ وتدهور النظم الإيكولوجية وخسارة التنوع البيولوجي، إذ إن هذه المخاطر مهيأة لتصبح من أخطر التحديات التي ستواجهها الأجيال العربية في العقود المقبلة. وبالنظر إلى العبء الثقيل لعوامل المخاطر البيئية العكوسة أو القابلة للتخفيف والمتعلقة بالأمراض السارية وغير السارية في المنطقة العربية، وتوفر تدخلات وتدابير مناسبة الكلفة للصحة البيئية فمن الضروري اعتماد منهجية تعاضدية متعددة الاختصاصات وإتاحة الموارد اللازمة لدفعها إلى الأمام، من أجل الوقاية من هذه المخاطر والتقليل من مفاعيلها ومكافحتها.
مازن ملكاوي مستشار التعرضات الصحية البيئية في المركز الإقليمي لصحة البيئة (CEHA) التابع لمنظمة الصحة العالمية. د. باسل اليوسفي مدير المركز.