مذكرات مصطفى كمال طلبه
الحلقة 1: ولادة يونيب
مصطفى كمال طلبه والبيئة صنوان. فهو من أسّس مفهوم «ديبلوماسية البيئة»، حين حوّل العمل البيئي من شعارات وأمنيات أطلقها مؤتمر استوكهولم حول البيئة الإنسانية عام 1972، إلى معاهدات واتفاقات دولية، منذ عمل مع موريس سترونغ على تأسيس برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) عام 1973، ليتولى قيادته كمدير تنفيذي حتى عام 1992.
عالم حصل على الدكتوراه من «إمبيريال كولدج» في جامعة لندن عام 1949، وشغل مناصب أكاديمية وسياسية رفيعة في مصر، منها وزارة الشباب ورئاسة الأكاديمية المصرية للبحث العلمي والتكنولوجيا، قبل التحاقه بـ«يونيب». وهو كان الرئيس الأول لمجلس أمناء المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)، وله المساهمة الكبرى في تحديد توجهاته. لولا دعمه وتوجيهه، لما كان ممكناً تأسيس المنتدى. أعتز أنه معلّمي وصديقي الكبير، وأعترف أنني أشعر بالامتنان لأنه كُتب لي أن أعيش في عصر مصطفى كمال طلبه. أطال الله بعمره، وما زال في ذروة العطاء في عامه الحادي والتسعين.
عكف الدكتور طلبه خلال السنتين الماضيتين على كتابة مذكّراته، التي نُشر جزء منها حول الشق المصري والسياسي في سلسلة «كتاب اليوم» لدار الأخبار المصرية. وهو خص قراء «البيئة والتنمية» بالجزء حول البيئة، الذي ننشره حصرياً في حلقات ابتداء من هذا العدد.
نجيــب صعــب
مصطفى كمال طلبه
قد يَعجب القارئ الكريم اذا علم أنه لم يدر بخلدي في يوم من الأيام أن أعمل خارج الجامعة في مصر، ولم يخطر ببالي أبداً أنني يمكن أن أعمل في الأمم المتحدة.
كان كل فكري، منذ عودتي بعد حصولي على الدكتوراه من لندن ولقائي الأول مع أستاذي المرحوم الدكتور حسين سعيد وإصراره على أن أبدأ الإشراف مباشرة على باحثين يعملون معي للحصول على درجات الماجستير والدكتوراه، أن أسير في هذا الاتجاه العلمي. وفعلاً عملت طويلاً في الإشراف على الطالبات والطلبة الذين كانوا يدرسون لدرجتي الماجستير والدكتوراه، حتى بعد أن أُعرت إلى جامعة بغداد ثم إلى المجلس الأعلى للعلوم ووزارة التعليم العالي وعُينت وزيراً ثم رئيساً لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا. استمر ذلك طيلة الفترة من 1949 الى 1973، قرابة ربع قرن.
الرئيس السادات وعملي في الأمم المتحدة
عُينت رئيساً لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في شهر أيلول (سبتمبر) 1971. في تلك الفترة، كانت كل دولة قد شكلت لجنة قومية للإعداد للمؤتمر الأول للبيئة الإنسانية، الذي كان مقرراً عقده في استوكهولم بالسويد في حزيران (يونيو) 1972. بحكم منصبي كرئيس للأكاديمية، عُينت رئيساً لهذه اللجنة. وبحكم المنصب أيضاً، لأنه لم تكن هناك وزارة بيئة في ذلك الوقت، عُينت رئيساً لوفد مصر إلى المؤتمر. كانت هناك أمور عاجلة مطلوبة في مجال البحث العلمي، فأجلت سفري إلى استوكهولم يومين بعد بدء المؤتمر لأكمل تلك الأمور. عندما وصلت الى استوكهولم، فوجئت بأن المجموعة العربية رشحتني في غيابي نائباً لرئيس المؤتمر عن المجموعة العربية، وانتُخبت. لا أعرف السبب. هل لأني كنت رئيساً لأكبر مؤسسة علمية في المنطقة العربية، أم لأني مصري؟ لا أعلم، ولم أسأل.
حضرت الاجتماع، وطلبوا مني أن أكون المتحدث باسم المجموعة العربية في المفاوضات. وبعدها بفترة قصيرة طلبت الدول الأفريقية أن أكون المتحدث باسم المجموعة الأفريقية أيضاً. تأزمت الأمور في المؤتمر حول إعلان استوكهولم. دار حوله جدل كبير بين الدول النامية والدول الصناعية. لم ينتهوا إلى شيء خلال الجلسات المفتوحة التي كانت تمتد حتى الساعة الثالثة أو الرابعة صباحاً. أمين عام المؤتمر، موريس سترونغ، قام بتشكيل لجنة صغيرة من رؤساء الوفود، نصفهم من الدول النامية ونصفهم الآخر من الدول الصناعية، يجتمعون في مشاورات غير رسميـة لإيجاد حل للقضايا المعلقة. وفعلاً جلسنا يومين كاملين في حجرة مغلقة حتى وصلنا الى حل. لاحظ موريس سترونغ أنني أعددت أكثر من مرة صياغات توفيقية بين فكر الدول النامية وفكر الـدول الصناعية، حتى وصلنا في النهاية الى شكل يقبله الطرفان. انتهى المؤتمر في حزيران (يونيو) 1972، وعدت الى عملي في القاهرة.
ذهب موريس سترونغ بنتائج المؤتمر ـ إعلان استوكهولم وخطة العمل ـ إلى الجمعية العامة للأمم المتحـدة في تشـرين الأول (أكتوبر) 1972. وكان المؤتمـر قد أوصى بإنشاء منظمة أو كيـان ما في الأمم المتحـدة لمتابعة تنفيـذ توصياتـه. وبالفعل أنشأت الجمعيـة العامـة للأمم المتحـدة برنامج الأمم المتحدة للبيئة (United Nations Environment Programme – UNEP)، وصدر قرارها في كانون الأول (ديسمبر) 1972 بإنشاء البرنامج بالشكل نفسه الذي اقترحه المؤتمر، أي يتكون من مجلس محافظين (Governing Council) من 56 دولة تنتخبها الجمعية العامة، وصندوق تمويل، وسكرتارية يرأسها مدير تنفيذي (يُنتخب بواسطة الجمعية العامة للأمم المتحـدة لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد)، بالإضافة الى مجلس تنسيق مع منظمات الأمم المتحدة الأخرى يسمى مجلس تنسيق البيئة (Environment Co-ordination Board-ECB) ويرأسه المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة. وبذلك أصبح المدير التنفيذي للبرنامج هو الوحيد الذي تنتخبه الجمعية العامة للأمم المتحدة، بين كل رؤساء البرامج والهيئات التابعة للأمم المتحدة، بالإضافة الى أمين عام الأمم المتحدة. كان الأمين العام يرشح المدير التنفيذي بعد مشاورات مع الدول، ولكن الجمعية العامة للأمم المتحدة هي التي تنتخبه.
مصطفى كمال طلبه مع موريس وهان سترونغ
بدأ برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) العمل في أول كانون الثاني (يناير) 1973. في شباط (فبراير) 1973، اتصل بي موريس سترونغ تليفونياً من جنيف وأخبرني أنه انتُخب مديراً للبرنامج الجديد، وأنه يريد أن يزورني في مصر زيارة شخصية وليس زيارة رسمية. جاء فعلاً، وقابلته في الفندق الذي أقام فيه، وأخبرني أنه قابل كورت فالدهايم، أمين عام الأمم المتحدة في ذلك الوقت، بعد صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بانتخابه مديراً تنفيذياً ليونيب، وذكر له أنه لا يستطيع أن يقود عمل هذا البرنامج الجديد من دون وجود شخص قادر علمياً من الدول النامية كنائب له. كان تبريره لذلك أنه ليس متعلماً سوى الدراسة الابتدائية، وأنه من الدول المتقدمة، وكل الدول النامية ما زالت غير متحمسة لقضية البيئة. ومن هنا جاء تركيزه على أن يكون نائب مدير البرنامج من العلميين ومن دولة نامية، مضيفاً أنه ليس لديه أسماء إلا مصطفى طلبه من مصر لهذا المنصب. وطلب من فالدهايم أن يحصل على موافقة الحكومة المصرية على تعيين مصطفى طلبه كأمين عام مساعد للأمم المتحدة نائباً له، مصراً على أنه بغير ذلك لا يمكن أن يقود البرنامج وليس أمامه إلا أن يستقيل.
طلبه مستقبلاً كورت فالدهايم، أمين عام الأمم المتحدة آنذاك، خلال زيارته مقر "يونيب" في نيروبي عام 1981
وطلب مني سترونغ أن أقبل العرض عندما يصل من نيويورك. قلت له إنني أرحب بالعمل معه في مجال البيئة، ولكنه يطلب مني شيئاً ليس بيدي، فأنا معين بقرار من رئيس الجمهورية، ولا أستطيع أن أقول نعم أو لا. وإذا جاء عرض فسوف يقدم الى رئيس الجمهورية أولاً ليقرر هو القبول أو الرفض.
بعدها مباشرة كنت مسافراً الى ليبيا في وفد صغير لنناقش مع المسؤولين الليبيين التعاون في مجالي الإلكترونيات والطاقة الذرية. استمر الاجتماع في طرابلس أربعة أيام. وكنت كلما عدت الى الفندق مساء يقولون لي جاءتك مكالمة تليفونية من وزارة الخارجية في مصر تقول إن هناك أمراً عاجلاً. واستمر هذا حتى عدت الى مصر. عندما نزلت من الطائرة في القاهرة وجدت الأستاذ حسن بلبل، الذي كان وكيلاً لوزارة الخارجية وصديقاً عزيزاً لي، واقفاً عند باب الطائرة. قال: حاولت الاتصال بك أربعة أيام متتالية ولم أنجح. سألته ما هو الأمر العاجل. قال: وصلت برقية من فالدهايم يطلب فيها مصطفى طلبه أميناً عاماً مساعداً للأمم المتحدة نائباً للمدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة. وأضاف أن صديقي الدكتور مراد غالب، وزير الخارجية في ذلك الوقت، خارج البلاد ويقوم بعمله الدكتور عبد القادر حاتم وزير الإعلام. وعندما اطلع الدكتور حاتم على البرقية رأى ضرورة عرضها على رئيس الوزراء، الدكتور عزيز صدقي ـ رحمة اللـه عليهم جميعاً ـ الذي قرر أن نرد على فالدهايم بأن الحكومة المصرية موافقة.
سألت حسن بلبل هل استأذن رئيس الوزراء الرئيس السادات. فأجاب: لا تسألني، أنا لا أعرف، تصرف أنت.
كان حافظ اسماعيل ـ رحمه اللـه ـ يعمل مستشاراً للرئيس السادات للأمن القومي، بعد محمد عثمان اسماعيل، وكان صديقاً عزيزاً أيضاً. سألته تليفونياً فور وصولي إلى منزلي إذا كان قد عرف بهذا الطلب. قال: أنا رأيت البرقية التي وردت من فالدهايم، لكن لم أر الرد. فذكرت له ما علمت من حسن بلبل، فطلب أن أمر عليه في مكتبه. عندما قابلته قال إن الرئيس السادات طلب من رئيس الوزراء تقديم استقالته، وقدمها وقُبلت، وطلب منه الرئيس أن يستمر في تسيير العمل. وقال إن الرئيس السادات هو في الاسكندرية، يشكل الوزارة الجديدة برئاسته شخصياً. ثم أردف: لن نستطيع أن نبلغه هذا الأمر لأنه منع الاتصال به تماماً.
حدثني حافظ اسماعيل تليفونياً مساء اليوم نفسه، وقال إن الرئيس اتصل به وقال إنه سيحضر إلى القاهرة بعد يومين، وسيتحدث إلى اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي ليعلن استقالة الحكومة وتشكيله هو للحكومة الجديدة، وإنه يود أن يركز في حديثه للجنة المركزية على التعليم العالي والبحث العلمي، وإنه يريد ورقة مني عن البحث العلمي في حدود صفحة أو صفحتين تكون جاهزة في صباح اليوم التالي، وإنه ـ حافظ اسماعيل ـ سوف يرسل لي سائقـاً في الساعة الثامنة صباحاً ليأخذها لنقلها الى الرئيس في الاسكندرية. سألته عما فعل في موضوع الأمم المتحدة. أجاب: قلت للرئيس إن برقية وصلت من فالدهايم تقول كذا وكذا. فرد الرئيس: «بلاش كلام فارغ، مصطفى مش هايمشي، مستمر معاي في الحكومة». ثم قال لي حافظ اسماعيل إنه يعتقد أن الرئيس السادات شكل الحكومة فعلاً وسيعلن التشكيل الذي سوف يضمني في اللجنة المركزية بعد غد.
ذهبت في اليوم التالي لمقابلة الدكتور محمود فوزي مساعد رئيس الجمهورية ـ وهو أول رئيس للوزراء عملت معه وكان رجلاً فاضلاً عميق التفكير شديد الحكمة ـ وشرحت له ما جرى وما سمعته من حافظ اسماعيل. قال: هذا الموضوع خطير لأنه يضعنا في موقف حرج مع الأمم المتحدة، والرئيس فعلاً حظر مقابلة أي شخص، لكن هذا الموضوع لا بد أن أنقله له قبل أن يعلن القرار الجمهوري بتشكيل الحكومة الجديدة.
سافر محمود فوزي الى الاسكندرية، وقابل الرئيس، الذي استشاط غضباً لأن رئيس الوزراء وافق من دون استشارته. وشكل السادات مجلس الوزراء برئاسته في شباط (فبراير) 1973، وكان هذا استعداداً للحرب مع إسرائيل. وأصدر في الوقت ذاته قراراً جمهورياً ينص على أن يحضر رئيس أكاديمية البحث العلمي ورئيس المخابرات العامة اجتماعات اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي ومجلس الوزراء التي يرأسها رئيس الجمهورية.
ظل الرئيس السادات يرفض توقيع القرار الجمهوري بإعارتي الى الأمم المتحدة من شهر شباط (فبراير) الى شهر أيار (مايو) 1973. تدخل الدكتور محمود فوزي مرة أخرى بعد أن طالت المدة، فأقنع الرئيس ووقع القرار.
هكذا يتضح أنها المصادفة فقط هي التي قادتني الى العمل في الأمم المتحدة. فلو لم أترك وزارة الشباب وأعيَّن رئيساً لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا لما عينت رئيساً للجنة القومية لمؤتمر الأمم المتحدة للبيئة، ولما عينت رئيساً لوفد مصر إلى المؤتمر.
الالتحاق بـ «يونيب»
سافرت الى جنيف، المقر الموقت ليونيب، في أيار (مايو) 1973، ومنها إلى نيروبي في آب (أغسطس) ثم أيلول (سبتمبر) 1973.
بعد حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، طلب الرئيس السادات في أوائل 1974 من الدكتور عبدالعزيز حجازي ـ وكان قد أصبح رئيساً للوزراء ـ أن أعود إلى مصر لأشغل منصب وزير التعليم العالي. وعاود هذا الطلب أكثر من مرة. طلب مني الصديق عبدالعزيز حجازي، وكنت أزوره عند مروري بالقاهرة في أواخر عام 1975، أن أستعد للعودة بعد رجوعي إلى نيروبي. توقف هذا الطلب المستمر بعد تشكيل المرحوم ممدوح سالم للوزارة الجديدة خلفاً للدكتور حجازي.
تسلمت عملي في برنامج الأمم المتحدة للبيئة ـ كما ذكرت ـ في منتصف أيار (مايو) 1973 في مقره في جنيف. وبقيت إلى آخر آب (أغسطس) 1973، حين انتقل يونيب إلى مقره الدائم نيروبي في أول أيلول (سبتمبر) 1973.
بدأت عملي في الأمم المتحدة ومعي عدد من التجارب:
● العمل العلمي كأستاذ جامعي له مدرسته العلمية وبحوثه الكثيرة المنشورة في المجلات العلمية العالمية.
● العمل التخطيطي كسكرتير عام للمجلس الأعلى للعلوم ورئيس لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا.
● العمل التنفيذي كوكيل لوزارة التعليم العالي ووزير للشباب ورئيس لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا (بديل وزارة البحث العلمي).
● العمل الدولي كعضو مناوب في المجلس التنفيذي لليونسكو ورئيس وفد مصر إلى مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة في استوكهولم 1972.
طلبه، رئيس أكاديمية البحث العلمي في مصر يتحدث مع وزير التعليم العالي والبحث العلمي في السودان س. الخليفة، خلال مؤتمر الأمم المتحدة للبئة الإنسانية في استوكهولم، السويد، 5 حزيران (يونيو) 1972
سبق التحاقي بيونيب تجربتي في المجلس التنفيذي لليونسكو، عندما كان الصدام محتدماً بين مصر وإسرائيل بشأن الكتب في قطاع غزة الذي كانت تديره مصر منذ 1948 ومحاولات إسرائيل الدائمة لتغيير الكتب في القطاع عن الكتب المصرية. كان هذا الخلاف يتم داخل المجلس التنفيذي لليونسكو طيلة الفترة من 1966 الى 1973، أساساً بين العضو المصري المنتخب والعضو الإسرائيلي. ولكن غياب العضو المنتخب (وزير الثقافة أو وزير التعليم العالي) عن عدد من الاجتماعات بسبب مسؤولياته في القاهرة وضعني أنا في المواجهة المباشرة مع المندوب الإسرائيلي. عرفت خلالها التكتلات الإقليمية ومحاولات اجتذاب الأصوات الى جانب أو آخر، وكيفية الافادة القصوى من القواعد الإجرائية للعمل في مجلس من مجالس الأمم المتحدة.
سبق هذا أيضاً تجربتي العربية حين أَنشأتْ جامعة الدول العربية المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليسكو) على نسق اليونسكو العالمية، وكان لها مؤتمر عام ومجلس تنفيذي يضم ممثلاً واحداً عن كل دولة عربية. وكنت أنا ممثلاً لمصر، وانتخبت أول رئيس للمجلس التنفيذي، وشاهدت كل الاختلافات بين مواقف أعضاء المجلس، وحاولت طيلة رئاستي للمجلس إيجاد الحلول الوسط التي يقبلها الجميع. أعتقد أن تجربتي أثناء دراستي في لندن أفادتني في هذا المجال.
كل هذا حملته معي عندما انتقلت للعمل في الأمم المتحدة. وساعدتني هذه التجارب على المستوى الوطني والإقليمي والدولي في إدارة يونيب.
المقر الموقت لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) في نيروبي، كينيا عام 1978، وهو لا يزال مستخدماً حتى اليوم لمكاتب برامج متعددة في منظومة الأمم المتحدة
اختيار نيروبي مقراً ليونيب
لم يكن اختيار نيروبي مقراً لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة أمراً سهلاً. عند إقرار إنشاء البرنامج، عرضت كينيا مشروع قرار يصدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة من فقرتين، تنص الأولى على أن أي منظمة جديدة تُنشأ في الأمم المتحدة لا بد أن تُنشأ في دولة نامية. فلم يكن هناك أي منظمة من منظمات الأمم المتحدة خارج الولايات المتحدة وكندا وإيطاليا وسويسرا وفرنسا وإنكلترا، بل كانت كلها في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية. وتنص الفقرة الثانية من مشروع القرار على اختيار نيروبي مقراً للمنظمة الجديدة ـ برنامج الأمم المتحدة للبيئة.
وافقت كل الدول النامية على الفقرة الأولى، ودار تنافس على مقر البرنامج بين المكسيك والهند وكينيا. فازت نيروبي (كينيا) لأنها الأجمل جواً وطبيعة، وكان عرضها سخياً. قدمت الحكومة الكينية للأمم المتحدة مركزاً في نيروبي يحمل اسم «مركز كينياتا للمؤتمرات»، نسبة إلى جومو كينياتا أول رئيس للجمهورية في كينيا. قدموا للمنظمة الوليدة ستة عشر طابقاً في هذا المركز، من الطابق الحادي عشر حتى السادس والعشرين، يتكفلون هم بدفع نصف إيجارها لمدة خمس سنوات، بالاضافة الى مئة فدان في منطقة غابات جيجيري خارج نيروبي مباشرة.
كان مكتب مدير البرنامج ومكتبي في الطابق السادس والعشرين من مركز كينياتا. فكنا نطل على جبلين جميلين هما ماونت كينيا وماونت كالمينجارو، بانوراما طبيعية رائعة، وكلاهما كان مغطى كلياً بالثلوج ويخدم سياحة التزحلق على الجليد في الشتاء. هذان الجبلان فقدا معظم الجليد بسبب ارتفاع معدل حرارة العالم، ويستخدم هذا كأحد الأدلة الهامة على تغير المناخ والاحترار العالمي (Global Warming).
المدخل إلى مقر "يونيب" حالياً
كان موريس سترونغ، مدير البرنامج، رجل أعمال ذكياً إلى أبعد الحدود، على رغم أنه لم يحصل إلا على قدر محدود من التعليم. وهو كرر أكثر من مرة أنه يرى أن برنامج البيئة أصبح برنامجاً علمياً ويصعب عليه الاستمرار في إدارته. أقنع سترونغ الحكومة الكندية، بعد أقل من ثلاث سنوات على إدارته ليونيب، بإنشاء مؤسسة كندية للطاقة. أنشأت كندا المؤسسة، وعين سترونغ رئيساً لها، وترك يونيب في نهاية 1975.
كانت المدة المقررة للمدير التنفيذي ليونيب، طبقاً لقرار إنشاء البرنامج، أربع سنوات. اتصل بي الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك كورت فالدهايم، وقال إنه يريدني أن أكون مديراً للمنظمة بالإنابة خلال السنة الباقية من فترة موريس سترونغ. قلت ليس هناك في قرار إنشاء يونيب ما يسمح بهذا، فقرار الإنشاء ينص على أن مدير المنظمة ينتخب من الجمعية العامة للأمم المتحدة، لمدة أربع سنوات، وكون سترونغ بقي ثلاث سنوات فقط يعني، في تقديري، أن تكون السنة الباقية بالانتخاب من الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وافق فالدهايم على هذا الرأي، وأعلنت الأمم المتحدة عن خلو المنصب. قدمت الحكومات أسماء مختلفة للمنصب، ودعا فالدهايم، طبقاً للنظام المتبع في الأمم المتحدة، رؤساء المجموعات الإقليمية لمقابلته: أفريقيا، وأوروبا الغربية، وأوروبا الشرقية (كانت أوروبا مجموعتين في ذلك الوقت)، وآسيا والباسيفيكي، وأميركا الشمالية، وأميركا اللاتينية ودول الكاريبي. قدم لهم الأسماء المرشحة. وقدم اسمي بصفتي نائب مدير المنظمة، لأن مصر لم تتقدم بترشيحي. فوجد أن غالبية الدول تؤيد مصطفى طلبه، وقدم اسمي فقط للجمعية العامة للأمم المتحدة، وانتخبت بالإجماع للسنة الباقية من فترة موريس سترونغ (1976). في اعتقادي أن الدول كانت ترى أن البرنامج حديث عهد بالإنشاء وأن انتخابي يمثل الاستمرارية.
في نهاية تلك السنة بدأ عدد من الدول يرشح أسماء لمنصب مدير البرنامج، ولم تتقدم مصر بترشيحي، أعاد فالدهايم أسلوب التشاور نفسه مع الدول على الأسماء، ومعها اسمي باعتباري المدير التنفيذي للبرنامج في ذلك الوقت. انتهى الأمر إلى انتخابي بالإجماع لمدة أربع سنوات (1977ـ 1980). وتكرر الأمر نفسه للفترة 1981 ـ 1984. انتُخب أمين عام جديد للأمم المتحدة هو بيريز دي كويلار، وعاد الترشيح لمدير يونيب ومرة أخرى أعيد انتخابي عام 1985، ثم أعيد انتخابي للمرة الخامسة لمدة أربع سنوات من 1989 حتى 1992.
أعود الى صـديقـي موريس سترونغ. كان، كما قلت، رجل أعمال ذكياً جداً. بعد سنتين من العمل في نيروبي، اقترح سترونغ على الحكومة الكينية أن تدفع مقدماً قيمة مساهمتها في إيجار المقر الذي نشغله (50 في المئة) عن السنوات الثلاث الباقية، ووافقت الحكومة الكينية على ذلك. عاد سترونغ بعد ذلك الى مجلس المحافظين في يونيب وأخطرهم بأنه حصل على مليون دولار، هو نصيب الحكومة الكينية في الإيجار عن السنوات الثلاث التالية. وطلب موافقة المجلس على قبول هذا المبلغ، وعلى أن يستدين من صندوق المنظمة مليون دولار أخرى ليشيد مبنى خاصاً ببرنامج الأمم المتحدة للبيئة على الأرض التي قدمتها لنا كينيا، وأن يعيد المليون دولار على أقساط سنوية تعادل قيمة الإيجار بعد الانتقال إلى المبنى الجديد.
وافق المجلس، وشيّدنا مبنى بسيطاً تسلمناه في نهاية 1975، بعد أن غادر سترونغ نيروبي لتولي منصبه الجديد في كندا مباشرة.
غرو هارلم برونتلاند، رئيسة وزراء النروج، توقع معاهدة التنوع البيولوجي بالنيابة عن بلادها، خلال مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية في ريو دي جانيرو، البرازيل، في حزيران (يونيو) 1992. ويبدو الدكتور طلبه إلى اليمين
شخصيات في حياتي
مر بي في حياتي آلاف من البشر من مختلف الجنسيات والمستويات. أعتقد أنه يصعب على أي إنسان أن يذكر كل من قابله، خاصة اذا تعرض مثلي للعمل الدولي لفترة طويلة وزار والتقى علماء ومحامين ومسؤولين في أكثر من ثمانين دولة.
لكن هناك أسماء تركت موقعاً خاصاً في نفسي، وهناك مواقف مع أشخاص بعينهم لا تمحى من ذاكرتي. وسيتم نشرها بالتوالي شهرياً على حلقات من فترات زمنية متنوعة.
محمد عبد الفتاح القصّاص
التحق محمد القصاص بكلية العلوم بعد التحاقي بها بسنة واحدة. لم نرتبط كثيراً أثناء فترة الدراسة. ولكن بعد تخرجه ـ بعدي بسنة (1944) ـ عين معيداً وتوثقت الصلة بيننا. القصاص من برج البرلس، وكان يأتينا في قسم النبات بالسردين والفسيخ الرائع.
أُوفدت في بعثة الى إنكلترا، وتبعني بعد سنة في بعثة الى إنكلترا أيضاً. كنت أدرس في لندن، وكان يدرس في كامبريدج. كنا نتزاور باستمرار حتى عدت الى القاهرة وعاد هو بعدي بعام. أصبحنا مدرسين في قسم النبات، ثم أستاذين مساعدين، ثم أستاذين. لم تنقطع صلتي بالقصاص منذ قرابة سبعين عاماً حتى توفي في 21 آذار (مارس) 2012. تزوج السيدة فريدة، وتوثقت صلاتنا العائلية الى أن توفي، واستمرت قوية بعد وفاته مع السيدة حرمه وولده شريف وكريمته عايدة.
القصاص كان أحد الخبراء العالميين في مجال بيئة الصحراء. كان أحد كبار المستشارين لي في يونيب، ويرجع إليه الفضل في نجاحي بإعداد وعقد مؤتمر الأمم المتحدة للتصحر عام 1977 وتنفيذ برنامجه. كما أنه كان المستشار الرئيسي خلال كل المفاوضات التي جرت للوصول الى اتفاقية الأمم المتحدة لمواجهة التصحر.
كان أيضاً حجة في اللغة العربية، إضافة إلى أنه يكتب الانكليزية بسهولة العربية وربما أكثر. اختير عضواً في مجمع اللغة العربية، إضافة إلى أنه أحد الأعضاء البارزين في المجمع العلمي المصري، أقدم المؤسسات العلمية في مصر الذي أنشأه نابوليون بونابارت.
أثناء قيادتي ليونيب، انتخب القصاص رئيساً للاتحاد الدولي لحماية الطبيعة ((International Union for the Conservation of Nature – IUCN. كانت كل الأفكار في تلك المنظمة تدور حول المحميات الطبيعية وحماية الطبيعة. تحدثنا ـ القصاص وأنا ـ طويلاً عن معنى مصطلح الحفاظ على الطبيعة (Conservation of Nature) واتفقنا على أن المفهوم يلزم أن يصبح الحفاظ على مصادر الثروة الطبيعية باستخدامها استخداماً رشيداً .
دعا القصاص بجـرأة وبعلم راسخ الى ذلك، وتحركت المنظمة وأصدرت بالاشتراك مع يونيب وصندوق الحياة البرية (WWF) الميثاق العالمي للطبيعة (World Charter of Nature)، ثم الاستراتيجيـة العالميـة لحفـظ الطبيعة (World Conservation Strategy) أعلنها مديرو المنظمات الثلاث في مؤتمر صحافي مشترك وأقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ترك القصاص تلك المنظمة بعد دورتين مدة كل منهما أربع سنوات، هي أقصى ما يمكن أن ينتخب لها رئيس، غيَّر فيها مفاهيم تلك المنظمة التي دامت عقوداً كثيرة تغييراً شاملاً.
أخي المرحوم محمد القصاص كان لا يمر أسبوع من دون أن يسأل عني أو أسأل عنه مرات. صديق عمر اعتززت به وسوف أعتز به طيلة حياتي. كان بالنسبة إلي ما قاله العرب قديماً: رب أخ لك لم تلده أمك. أدعو الـله له بالرحمة وأن يجزيه في آخرته خير الجزاء مقابل ما قدمه لوطنه وللعالم من علم وجهد، وأعاننا جميعاً ـ أسرته وأصدقاءه وزملاءه ـ على تحمل هذا الفقد الكبير.
نجيب صعب
مهندس معماري لبناني درس أيضاً الصحافة ومارسها. بدأ حياته العملية معي في يونيب في إدارة الإعلام. تحمس لقضايا البيئة بدرجة فاقت كل التصور. ترك يونيب في مرحلة مبكرة ليمارس العمل الهندسي، لكنه استمر في تأدية مهام استشارية للمنظمة، وأقام في هولندا موطن زوجته. قرر نجيب عام 1996 أن يترك عملاً ناجحاً كمستشار هندسي لكبريات الشركات العالمية، ويترك حياة هادئة في أوروبا، ويعود الى لبنان ليصدر مجلة باسم «البيئة والتنمية» موجهة باللغة العربية الى العالم العربي كله. أشفقت عليه نظراً لتشتت النظرة العربية حول قضايا البيئة وتغاير الاهتمامات بها وتباعد الأفكار حول الأولويات. لكن نجيب غامر وبدأ التجربة، وأصبحت مجلة «البيئة والتنمية»معروفة في كل العالم العربي، وأصبحت موادها مراجع تعود اليها الصحافة العربية والدارسون. وأنا أعتبرها أول وآخر مجلة بيئية إقليمية عربية ذات مستوى رفيع. تعرّض في افتتاحياته لمشكلات البيئة العربية بصدق وأمانة أعجبت الكثيرين، ولكنها أيضاً أغضبت الكثيرين. وكان فكري دائماً في صف نجيب، لأنه لا يجامل بل يقول الحقيقة، ولكن الصراحة لا بد أن تغضب البعض.
اقترح نجيب، بعد أن استقر أمر المجلة، أن ننشئ «المنتدى العربي للبيئة والتنمية» كأول منظمة إقليمية غير حكومية في الموضوع. وجاهد وكافح وسافر يميناً ويساراً للحصول على الدعم المالي والمعنوي لإنشاء المنتدى. ونجح. رأست مجلس أمناء المنتدى لسنوات عدة. اتفقنا على أن أهم ما يمكن أن يقوم به المنتدى إعداد تقارير سنوية عن حالة البيئة العربية، تكتب بلغة تخاطب المواطن العادي وتعرّفه بمشاكل البيئة في وطنه العربي الكبير. مرة كل خمس سنوات يكون التقرير شاملاً، ويتناول قضايا محددة في كل سنة بينها. نجح نجيب في تحقيق ذلك. عُرضت ستة تقارير حتى الآن على المؤتمر العام للمنتدى، الذي يعقد في شهر تشرين الأول (أكتوبر) أو تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام ويضم ممثلين عن كل الدول العربية، بينهم الوزراء والأكاديميون والمنظمات غير الحكومية، ويدعى لحضوره الكثيرون من الخبراء الأجانب. وقد استندتُ إلى التقرير الأول المفصل في ما كتبته في الفصل الثاني من مذكراتي عن حالة البيئة في العالم العربي.
شغف نجيب بالبيئة انتقل إلى أولاده، حيث درس ابنه البكر سياسات الطاقة والبيئة في جامعتي كامبريدج البريطانية وجونز هوبكنز الأميركية. وتعمل كريمته للحصول على الدكتوراه في القانون الدولي في جامعة لندن حول أثر تغيّر المناخ على حقوق الإنسان. سعدتُ بها حين استشارتني حول مخطط بحثها.
نجيب، مؤسس المجلة العربية الإقليمية الوحيدة عن «البيئة والتنمية» وأمين عام «المنتدى العربي للبيئة والتنمية»، مرة أخرى، المنظمة غير الحكومية الإقليمية العربية الوحيدة في هذا المجال، ما زال دائم الاتصال بي والتشاور معي في ما يقوم به المنتدى.
دعائي له باستمرار التوفيق والعطاء.
مصطفى كمال طلبه ونجيب صعب خلال المؤتمر السنوي للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) في المنامة، البحرين، عام 2008
وليام براون
كان الدكتور وليام براون أستاذ أمراض النبات في كلية العلوم بالكلية الامبراطورية للعلوم والتكنولوجيا في لندن.بعد أن حصلت على الدكتوراه تحت إشرافه عام 1949، وقبل عودتي إلى الوطن، زرته في مكتبه لأقدم له الشكر وأودعه. أجلسني أمامه وتراجع للخلف على كرسيه أمام المكتب ونظر إلي وقال: لقد أعددتَ رسالة من جزءين، كل منهما ـ باعتراف الممتحن الخارجي ـ يرقى للحصول على درجة الدكتوراه. وقد مر علي عدد من المصريين عملوا تحت إشرافي، كلهم كانوا متميزين، ولكني لم أسمع بعد عودتهم إلى مصر إلا عن واحد منهم فقط في مجال البحث العلمي. يبدو أنكم عندما تعودون إلى مصر تستمتعون بكرسي مريح، تشربون القهوة وتقرأون الجرائد وتنسون العلم.
ثبت في ذهني هذا الكلام.
كان لإصراره علي أن أزور كامبريدج قبل عودتي إلى الوطن للتعرف على بعض ما يتم في المدرسة الكبرى الأخرى في مجال تخصصي ـ مدرسة الأستاذ بروكس في كامبريدج ـ أكبر الأثر في نفسي. لا تعالٍ ولا مهاترات، وإنما احترام متبادل بين أكبر مدرستين في إنكلترا وربما في العالم كله في ذلك الوقت في هذا المجال. تم هذا رغم أن السائد في ذلك الوقت كان أن جامعات أكسفورد وكامبريدج وإمبيريال لا تدعو إنساناً بلقب «دكتور» من الحاصلين على الدكتوراه من جامعات أخرى. كان الجميع بالنسبة إلى كل منها «السيد» (.Mr) ما عدا خريجيها.
رابط الحلقة 1:
https://www.afedmag.com/uploaded/tolba-pdf/ep1.pdf
مذكرات مصطفى كمال طلبه
الحلقة 2: السياسة والاقتصاد والتكتلات الإقليمية في عمل "يونيب"
طلبه في مؤتمر الرأي العام العربي والبيئة عام 2006 في بيروت، الذي شهد ولادة المنتدى العربي للبيئة والتنمية
ذكرتُ في الحلقة السابقة أن الحكومة الكينية وافقت على اقتراح المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) بدفع نصيبها في إيجار المقر للسنوات الثلاث الباقية مقدماً. لم يكن هذا حباً في عمل المنظمة الوليدة، بل لأن كينيا بدأت تشعر أن هناك مناورات لإثبات أن اختيار هذا المقر البعيد غير مناسب لعمل "يونيب"، فأرادت أن تبدي تأييدها لعمله واستعدادها لتسهيل أنشطته.
بعد انتخابي مديراً تنفيذياً للمنظمة بسنوات ثلاث، قابلت أول مشكلة سياسية عاصفة في عملي. كنت قد تعودت على الخلافات الشديدة بين الشمال والجنوب حول برنامج المنظمة وتمويله كل عام منذ عينت نائباً لمدير المنظمة. ولكن خلال عامي 1978 و1979 واجهتني مشكلة لا علاقة لها بالبرنامج أو التمويل أو قضايا البيئة عموماً، وإنما مشكلة حكمتها السياسة والتكتلات الإقليمية.
عام 1978، أثارت الدول النامية قضية المبنى في نيروبي. ذكروا في الجمعية العامة للأمم المتحدة أنه من غير المعقول أن أول مبنى للأمم المتحدة ينشأ في العالم النامي لا يكون على مستوى لائق تدفع كلفته الأمم المتحدة من ميزانيتها العادية، ولا يمكن أن يستمر تمثيل الأمم المتحدة لأول مرة في الدول النامية بهذا المبنى البسيط الذي أنشئ في نيروبي. وافقت الجمعية العامة عام 1978 على إدراج 41 مليون دولار لإنشاء مبنى كامل لكل من "يونيب" ومركز الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (Habitat) الذي كان أنشئ عام 1978، ومعهما مكاتب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والبنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة للطفولة والمكاتب الوطنية لقسم الأمم المتحدة الإعلامي ولوكالات الأمم المتحدة المتخصصة الموجودة في كينيا.
طرحنا المناقصة، وجاء العرض الأدنى من شركة "سوليل بونيه" الإسرائيلية، لأنها كانت تعمل في كينيا ومعداتها كانت موجودة هناك. كان العرض أقل من الشركة التالية – الصينية – بمبلغ مليوني دولار.
ينص نظام المناقصات في الأمم المتحدة على أنه، عندما يكون هناك نشاط ذو وضع سياسي معين أو كلفة عالية، يشكل الأمين العام لجنة لفحص العطاءات من أقدم نائب للأمين العام مقيم في المنطقة التي يوجد فيها النشاط - كنت أنا في ذلك الوقت - ومعه نائب الأمين العام للإمدادات ونائب الأمين العام المستشار القانوني للأمم المتحدة، وتقدم توصياتها إلى الأمين العام وهو الذي يبت في الأمر.
تشكلت اللجنة، لأن كلفة المبنى الجديد عالية وتحيط به أوضاع سياسية شائكة. كان واضحاً أن أقل عطاء هو عطاء الشركة الإسرائيلية. رفعنا توصيتنا بذلك. علم بها السفراء في نيويورك، فغضب العرب وقال سفراؤهم لدى الأمم المتحدة للأمين العام إنهم لا يقبلون أن تذهب مساهمات الدولة الرسمية في موازنة الأمم المتحدة إلى شركة إسرائيلية. بعد ذلك حذت الدول الأفريقية الحذو نفسه وكررت له ذاك الكلام.
صمت الأمين العام تسعة وعشرين يوماً بعد وصول توصية اللجنة. وفجأة حدثني نائبه للشؤون المالية والإدارية هاتفياً من نيويورك، وقال إن العطاء سيسقط إن لم تجدد الشركات الثلاث التي قدمت أدنى عروض الكلفة عروضها لمدة شهر آخر. أرسلتُ مدير الشؤون الإدارية في "يونيب" ليمر على ممثلي هذه الشركات ليلاً وحصل على التمديد منهم كتابة لمدة شهر. بعد ذلك بثلاثة أو أربعة أيام وجدت نائب الأمين العام يحدثني مرة أخرى من نيويورك على الهاتف الساعة الثالثة بعد منتصف الليل في نيروبي (السابعة مساء في نيويورك). وقال إن الأمين العام حصل من المستشار القانوني للأمم المتحدة على فتوى بأنه ليس مختصاً بالبت في هذا العطاء، وأنها مسؤولية نائب الأمين العام المكلف من الجمعية العمومية للأمم المتحدة للإشراف على إنشاء المبنى. وأخطرني أنه سيرسل إلي تلكس بهذا المعنى في صباح اليوم التالي.
كنت أتوقع حدوث ذلك، لأن المعترضين هم العرب والأفارقة، وأنا عربي أفريقي. وبالتالي ألقى الأمين العام الكرة في ملعبي.
طلبه ووزيرة البيئة الهولندية مارغاريتا دي بوير خلال اجتماع لجنة التنمية المستدامة في الأمم المتحدة في نيويورك عام 1997 تحضيراً بمراجعة "قمة الأرض +5"
طلبه في مؤتمر "استوكهولم +10" عام 1982 بمناية مرور 10 سنوات على تأسيس "يونيب، وإلى يساره موبوتو سيسي سيكو رئيس زائير (الكونغو الديموقراطية حالياً)
موافقة مع الشكر
كانت المكاتب المحلية للبنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وعدد آخر من منظمات الأمم المتحدة – كما ذكرت - مقرراً أن تنتقل معنا إلى المبنى الجديد. سألت مديري كل هذه المكاتب عما اذا كانوا جادين في الانتقال الى المبنى الجديد، وجاء الرد بالنفي من غالبيتهم، لأن المكان بعيد وهم يريدون البقاء بجوار الوزارات التي يتعاملون معها. طلبت منهم إرسال هذه الردود كتابة، ووصلتني الردود قبل أن يحصل الأمين العام على الفتوى القانونية. عندما وصلتني تلك الفتوى اتخذت قراراً بإلغاء المناقصة بالكامل. وهاجت الدنيا، وهاجمتني كل الصحف الغربية، وخاصة البريطانية والأميركية. ظلت شهراً كاملاً تهاجمني وتصفني بأنني اتخذت قراراً سياسياً لا علاقة له بحياد الأمم المتحدة وأنني متحيز ضد إسرائيل.
طلبت الدول الأعضاء في اللجنة الاستشارية الخاصة بالشؤون المالية والإدارية في الأمم المتحدة (التي تضم ممثلي بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا - وكلها دول متعصبة جداً لمصلحة إسرائيل) أن أمثل أمامهم لأوضح أسباب هذا القرار. حضرت لقاءهم، وأوضحت أنني اتخذت القرار ليس لأي أسباب سياسية وإنما لأن مكتبي برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والبنك الدولي لا يرغبان في الانتقال الى المبنى الذي سيعد. وقلت إن المبنى الجديد مصمم ليضم موظفي مكاتب البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمكاتب المحلية الأخرى للأمم المتحدة بالاضافة الى موظفينا وموظفي المنظمة الجديدة "هابيتات".
ولكن عدداً كبيراً من الموظفين لن يتواجد – بسبب رفض البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وعدد من مكاتب الأمم المتحدة في نيروبي الانتقال الى المبنى الجديد – فلم يعد هناك مبرر لإنشاء الوحدات الاثنتي عشرة المقررة، ويلزم اختصارها الى ثماني وحدات على الأكثر. بالاضافة الى ذلك، لم يعد هناك مبرر لبناء مركز للمؤتمرات في المبنى الجديد، إذ إن كلاً من "يونيب" و"هابيتات" يعقد اجتماعاً واحداً لمجلس محافظيه في السنة. وكان أساس إنشاء هذا المركز أن البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي يعقدان اجتماعات كثيرة طوال العام. وذكرتُ أن مجلس المحافظين لكل من "يونيب" و"هابيتات" يمكن أن يعقد اجتماعه السنوي في مركز كينياتا للمؤتمرات.
ظلوا يومين كاملين يناقشونني في كل ما ذكرت. ثم أصدروا قراراً ينصح الجمعية العامة بالموافقة على قرار مدير "يونيب" بإلغاء المناقصة وإعداد تصاميم جديدة وطرح مناقصة جديدة. واقترحوا أن أقدم التصاميم الجديدة خلال شهر - عمليات تعجيز! أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها بالموافقة على اقتراح المدير التنفيذي لـ"يونيب"، وأصررت على أن تكون الموافقة مصحوبة بالشكر لأنني وفرت للأمم المتحدة ثمانية ملايين دولار. فتضمن القرار شكر المدير التنفيذي.
السير إغرتون ريتشاردسون، مندوب جامايكا في الأمم المتحدة يوقع مع مصطفى كال طلبه اتفاقية إقامة مقر زحدة تنسيق خطة عمل الكاريبي التابعة لـ "يونيب" في جامايكا عام 1983
"الخرافي" تنشئ المقر
بعد صدور القرار، أثار مندوب ليبيا الدائم لدى الأمم المتحدة في نيويورك قضية مركز المؤتمرات، وضرورة وجوده في أول مبنى للأمم المتحدة في دولة نامية. وانضمت إليه كل الدول العربية والأفريقية، وتلتها بقية الدول النامية. طالبوا جميعاً بضرورة إقامة مركز للمؤتمرات في المبنى الجديد، ووافقت الجمعية العامة على ذلك. فكان أن اختصرنا المباني من اثني عشر مبنى - كل مبنى عبارة عن طابقين - ستة في كل جانب – الى ثمانية، أربعة في كل جانب.
بعد ذلك زرت ثلاث دول عربية - الكويت والسعودية والعراق – وأعلمت المسؤولين فيها أن ليس هناك أي ضمان ألا تخفض الشركة الإسرائيلية عرضها أكثر في المرة المقبلة. قلت لهم: "عليكم أن تجدوا الحل، فلن تكون لدي أي مبررات لإلغاء المناقصة مرة أخرى". تقدمت أربع شركات عربية. وبعثتُ ممثلي المنظمة - من غير العرب والأفارقة - ليزوروا هذه الشركات. وكانت منها شركة الخرافي الكويتية، فانبهروا بما رأوه لديها من مستوى عالٍ في الكفاءة والإدارة، وقالوا إنه شيء غير مألوف في كثير من الدول الصناعية.
قدمت الشركات العربية عروضها، وكانت أقل من عرض الشركة الإسرائيلية بأربعة ملايين دولار. وبالفعل رست المناقصة على شركة عبدالمحسن الخرافي الكويتية. تم كل هذا بعد محادثات اتفاقية السلام التي وقعها الرئيس المصري أنور السادات مع إسرائيل مباشرة، تلك المعاهدة التي أدت الى تعليق عضوية مصر في الجامعة العربية ونقل مقرها الى تونس. أرسلت إسرائيل إلى الرئيس السادات رسالة قالت فيها إن مصطفى طلبه متحيز للعرب الآخرين ضد السادات وضد إسرائيل، ويسيء للعلاقة بين مصر وإسرائيل. حدثوني هاتفياً من الرئاسة أثناء إحدى زياراتي للقاهرة، وقالوا إن السيد حسني مبارك نائب رئيس الجمهورية يريد أن يقابلني. قابلته، وقال لي إن الرئيس خارج مصر وقد طلب منه أن أفسر له ما ورد من إسرائيل. سردت عليه القصة كاملة، وأبلغ الرئيس السادات بهذا. كانوا يريدون إحداث وقيعة بيني وبين السادات. لم ينجحوا.
رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال سليمان مستقبلاً وفداً من مجلس أمناء "أفد" وكبار المشاركين في مؤتمر "أفد" السنوي عام 2010. ويبدو الدكتور طلبه في الوسط إلى يمين الرئيس سليمان
مرشح الإجماع
حدث ذلك في عامي 1978 و1979، وكان موعد الانتخاب الجديد لمدير "يونيب" التنفيذي عام 1980. كان الأمين العام كورت فالدهايم والغرب كله معتمدين على أنني مصري، ولأن مصر وقعت على اتفاقية سلام مع إسرائيل فستعترض جميع الدول العربية على ترشيحي مرة أخرى، خاصة أن الدول العربية قررت تعليق عضوية مصر في الجامعة العربية كما ذكرت. فوجئ فالدهايم بجميع السفراء العرب - المندوبين الدائمين لدى الأمم المتحدة - عدا مصر، يطلبون مقابلته وينقلون اليه أن مرشح المجموعة العربية هو مصطفى طلبه. أسقط في يد فالدهايم، ووجد أيضاً كل الدول النامية تؤيد ذلك، فاضطر الى تقديم اسمي وحده. وانتخبت عام 1980 بالإجماع على رغم موقف إسرائيل وأميركا المعادي. لم تشاركا في التصويت بالاعتراض أو الامتناع، بل صمتتا.
في منتصف العام 1984 كنا قد انتهينا من المبنى الجديد بعد كل المشاكل التي صادفتني بشأنه، وافتتحناه في أيار (مايو) من ذلك العام أثناء اجتماع لمجلس المحافظين حضره الرئيس السوداني جعفر نميري والرئيس الزامبي كينيث كاوندا والرئيس الكيني دانيال أراب موي. أعلنت في نهاية الاجتماع أنني أرهقت بعد تسعة أعوام من تحمل المسؤولية كمدير تنفيذي لـ"يونيب" ولا أريد الاستمرار في عملي. رفضت الدول ذلك وعلى رأسها الولايات المتحدة، رغم إن علاقاتي بها لم تكن على ما يرام. ولكن القلق على استمرار المفاوضات التي كنت قد بدأتها حول عدد من المشكلات البيئية العالمية، وفي مقدمتها حماية طبقة الأوزون العليا وانتقال النفايات الخطرة، جعلتهم يصممون على ضرورة استمراري. واستمر عملي مع الأمم المتحدة حتى 1992.
طلبه مترئساً جلسة عالية المستوى حول تلازم الفقر والبيئة، في مؤتمر الأمم المتحدة حول التصحر عام 2002، وإلى يساره أدامو ناماتا وزير المياه والبيئة ومكافحة التصحر في النيجر، وأربا ديالو أمين عام اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر
بين مطرقة الاستخبارات وسندان إسرائيل
قابلتني مشكلتان أخريان لاحقاً كانت وراءهما أيضاً السياسة لا غير. الأولى عام 1987، وكانت الحرب الباردة على أشدها بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. أخطرني المندوب الأميركي الدائم لدى "يونيب" في نيروبي أن البيت الأبيض يطلب إلغاء الدعم الطوعي الذي تقدمه الولايات المتحدة إلى "يونيب" ومقداره عشرون مليون دولار (تمثل أكثر من 20 في المئة من المساهمات الطوعية في صندوق البرنامج) لأنني أترك المنظمة مفتوحة لرجال الاستخبارات السوفييت كي ينقلوا كل شيء الى حكومتهم. كان هذا أمراً غريباً، ولكنها الحرب الباردة. فمنذ بدء عمل البرنامج كان معنـا في المناصب الكبـرى الأميركي بيتر ثاتشر، الذي كان يعمل أصلاً في وكالة الاستخبارات الأميركية (CIA) أثناء فترة رئاسة جورج بوش الأب عندما كان رئيساً لتلك الوكالة، والروسي ايفتييف. وكلنا كان يعلم أن الترشيح لأي منصب كبير في الأمم المتحدة من قبل الاتحاد السوفييتي لم يكن يتم إلا إذا كان للمرشح وضع خاص مع الاستخبارات السوفييتية (KGB).
لم يكن هذا يقلق موريس سترونغ أو يقلقني، إذ لم يكن لدى البرنامج أي أسرار لا يعرفها كل مندوبي الدول الدائمين المعتمدين لديه في اللقاءات الشهرية التي كنا نعقدها معهم. وفي اجتماع المندوبين الدائمين التالي أخطرتهم بما تم، وذكرت أن هذه إهانة لا أقبلها لنفسي أو لـ"يونيب" وأنني سوف أتعامل مع الموضوع. نقل المندوب الأميركي ما دار في اجتماع السفراء الى وزارة الخارجية الأميركية في واشنطن، وعلى أثر ذلك طلب نائب وزير الخارجية الأميركية مقابلتي. وعندما كنت في زيارة إلى واشنطن زرته في مكتبه، وأعدت عليه ما قلته لسفراء الدول في نيروبي. قال لا بد أن هناك سوء فهم في الموضوع، وطلب مني أن أنسى ما نقل إلي، وستدفع الولايات المتحدة نصيبها، وسألني أن أغلق الملف. شكرته وقلت إني لا أستطيع أن أغلق الملف، لأن الموضوع طرح في اجتماع السفراء في نيروبي ولا بد أن أحصل على خطاب من المندوب الأميركي الدائم يلغي ما قيل عن أسباب سحب المساهمة، لعرضه على السفراء. وقد تم هذا فعلاً.
المشكلة الثانية واجهتني عام 1991. تلقيت رسالة موقعة من خمسة أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي يذكرون فيها أنهم بصدد مناقشة مساهمة الولايات المتحدة الطوعية في موازنة "يونيب" في المجلس، وطلبوا إجابات عن الأسئلة الثلاثة الآتية وكلها خاصة بإسرائيل:
1. لماذا لم أعين في برنامج الأمم المتحدة للبيئة أي موظف من إسرائيل؟
2. لماذا لم أعين أحداً من إسرائيل في الأنشطة الاستشارية الكثيرة في "يونيب"؟
3. لماذا لم أزر إسرائيل طوال 18 عاماً على رغم أنني زرت أكثر من ثمانين دولة وذهبت إلى بعضها مرات عديدة؟
كان نوابي طوال فترة رئاستي للمنظمة من الولايات المتحدة، أختارهم أنا، وعادة يكون من أختاره غير من ترشحه واشنطن. طلبت نائبي الأميركي في ذلك الوقت ويليام مانسفيلد، وأخبرته بفحوى الخطاب، وقلت إنني أعلم أن المحرك الأساسي هو فلان (واحد من الخمسة) لأنه مشايع جداً لإسرائيل. رجوت نائبي أن ينقل ردي اليه بالهاتف ويسأله اذا كانوا يريدون رداً مكتوباً.
كان ردي الذي نقله نائبي هو:
1. إن مدير المنظمة لا يعين أحداً. التعيين يتم بناء على اقتراح لجنة شؤون العاملين، التي تختار أفضل ثلاثة مرشحين تقدمهم الى المدير التنفيذي للاختيار من بينهم. لم تقدم اللجنة أي اسم من إسرائيل، وهذا يعني أن إسرائيل لا ترشح إلا من هم في مستوى متواضع من القدرة العلمية لا يرقى الى مستوى المنافسة مع مرشحي الدول الأخرى.
2. إنني عينت أحد الإسرائيليين مستشاراً في مكتب اتفاقية برشلونة لحماية البحر المتوسط في أثينا. عمل في المكتب لأشهر معدودة، واستقال لأنه لم يستطع التأقلم مع زملائه في المكتب.
3. إنني أزور الدول بدعوة من وزير البيئة – وكان وزير البيئة الإسرائيلي في ذلك الوقت هو رئيس الوزراء - واذا وردت إلي دعوة من الوزير المختص (رئيس الوزراء) فإنني أزور إسرائيل في خلال أسبوع من ورود الدعوة. ولكن لدي قرار من المجلس التنفيذي لـ"يونيب" بأن أقدم له تقريراً سنوياً عن حالة البيئة في الأراضي المحتلة من فلسطين، فإذا زرت إسرائيل فلا بد أن أقضي يوماً في الأراضي المحتلة للاطلاع على الأوضاع البيئية.
نقل الرد بالهاتف، وكان التعقيب: لا نريد شيئاً مكتوباً وسوف نوافق على المساهمة.
لم يكن لهذا أي علاقة بعمل "يونيب" أو كفاءته، ولكن كان الأمر كله مرتبطاً بدعم مجلس الشيوخ الأميركي لإسرائيل.
شخصيات في حياتي
صلاح العفيفي
المرحوم الدكتور صلاح العفيفي، أستاذ الجراحة السابق في كلية طب القاهرة، كان زميلي في السنة الخامسة الثانوية وكنا نجلس على مقعد واحد. حصلنا على التوجيهية (الثانوية العامة الآن) وكان ترتيبي فيها على مستوى مصر متقدماً جداً، وكان ترتيبه متأخراً عني كثيراً.
كان كل أملي وأنا شاب في السادسة عشرة من عمري أن أدخل المدرسة الحربية (الكلية الحربية الآن) بعد حصولي على التوجيهية. اتفقت مع خالي، وكان صديقاً شخصياً لعلي ماهر باشا عندما كان رئيساً لديوان الملك فاروق، أن يحضر لي منه بطاقة توصية، فقد كان معروفاً أن اختبار القدرات (كشف الهيئة كما كانوا يسمونه في ذلك الوقت) هو اختبار التوصيات. تم هذا فعلاً، وتقدمت بأوراقي الى المدرسة الحربية. نجحت في الكشف الطبي وقدمت التوصية وحضرت "كشف الهيئة". وعند ظهور النتيجة لم أجد اسمي بين المقبولين في المدرسة. ذهبت الى المسؤول، فقال إن أوراقي قبلت خطأً لأن قانون المدرسة الحربية ينص على أن يكون عمر الطالب سبعة عشر عاماً في أول أيلول (سبتمبر) من السنة التي يتقدم فيها لدخول المدرسة، ويجوز لوزير الحربية أن يستثني من هذا الشرط في حدود ثلاثة أشهر. وكان عمري عند دخول المدرسة - في أول أيلول (سبتمبر) 1939 - ستة عشر عاماً وثمانية أشهر وثلاثة أسابيع، أي أقل من الحدود القصوى لاستثناء وزير الحربية بسبعة أيام. وقال لي ذلك المسؤول: "عد في دفعة كانون الثاني (يناير) 1940 وستقبل مباشرة".
خرجت من المدرسة وركبت الترام، وإذ الذي يجلس بجواري هو زميلي صلاح العفيفي. سألني أين كنت، فقصصت عليه ما حدث. نظر الي باستغراب وقال: "كيف يمكن لشخص ترتيبه بهذا التقدم في البكالوريا أن يدخل إلى الحربية؟" سألته ماذا فعل هو. قال: "تقدمت الى كلية الطب، ولا بد أن تفعل الشيء نفسه. تقدم بأوراقك الى كلية العلوم التي يدرس فيها طلاب السنة الإعدادية في كلية الطب". وشرح لي كيف أصل الى كلية العلوم. ارتحت لرأيه وسحبت أوراقي من المدرسة الحربية وقدمتها إلى كلية العلوم.
ذهبت لمراجعة كشوف المقبولين في كلية الطب، فلم أجد اسمي بينهم، ووجدت اسم زميلي صلاح العفيفي ضمن القائمة. عجبت وذهبت إلى حافظ سجل الكلية الأستاذ زكي عمر. سألته ماذا حدث؟ سألني هل تقدمت باستمارة بيضاء أم حمراء؟ صمتُّ، فلم أكن أذكر لون الاستمارة التي ملأتها، ولم أكن أعرف أصلاً أن للاستمارات ألواناً مختلفة. طلب ملفي وقال: "يا بني، لقد تقدمت باستمارة بيضاء لدخول كلية العلوم". كنت لا أعرف الفرق بين كلية العلوم ودار العلوم، فانفجرت قائلاً: "لا أريد أن أكون مدرساً للغة العربية". شرح لي الرجل بهدوء نظام كلية العلوم بالتفصيل. وكان ردي أنني أريد كلية الطب. فقال: "لا بد أن تبحث عن زميل قُبل في إعدادي الطب ويريد التغيير الى كلية العلوم وتتبادل معه". لم أبذل أي جهد في هذا الشأن، وقبلت بالأمر الواقع.
وهكذا دخلت كلية العلوم عن طريق الخطأ.
وقد فوجئت أن ستة من الأوائل في التوجيهية في ذلك العام، بمن فيهم الأول والثاني والخامس والسابع والعاشر، كانوا معي في كلية العلوم. وكان التنافس شديداً.
حسين سعيد
كان الدكتور حسين سعيد مدرسي في السنة الأولى في كلية العلوم. وكان عائداً لتوه من كامبريدج، وكنا نحبه كلنا – تلاميذه – حباً جارفاً.
أشرف على رسالتي للحصول على درجة الماجستير. وعندما عدت الى القاهرة بعد حصولي على الدكتوراه، استقبلني بوده المعهود وقال: "يا بُني، الدكتوراه التي حصلت عليها هي بداية المعرفة وليست نهايتها، إنها مجرد دليل على إتقانك لأسلوب البحث العلمي. عليك أن تبدأ فوراً الإشراف على باحث أو اثنين لتتعود قيادة البحوث، وإلا سوف تصدأ مثل الباقين.
ثم قام بعمل لا يدل إلا على خلق الأستاذ الحق. قال: "أحمد نجيب (ابن شقيقته) يدرس للدرجة الخاصة في علم النبات، وأنت تعلم أنكم في الدرجة الخاصة تقومون ببحث صغير للتدريب. وقد أعطيت أحمد نقطة بحث يقوم بها، ولكنني سأسحبها منه، وعليك أنت أن تحدد له نقطة بحث في الموضوع الذي درسته للدكتوراه. وهناك معمل فارغ يمكنك استخدامه وشراء ما تحتاج إليه من أجهزة".
لا أستطيع أن أشرح مدى تأثري بهذا العمل. وقد تم ذلك. وعلى أثره أشرفت على تسع رسائل للماجستير وثمان للدكتوراه، وأصبحت لي مدرستي العلمية المتميزة. كلهم أصبحوا أساتذة في جامعات مصرية مختلفة، وخلق كل منهم مدرسته العلمية، ونشرت معهم جميعاً بحوثاً علمية كثيرة في مجلات علمية عالمية في كثير من دول العالم، الأمر الذي أكد مستواي العلمي وساعدني كثيراً في إدارة "يونيب".
أسرتي الصغيرة الجديدة
لم أرزق بأولاد من زوجتي الأولى المرحومة سنية زكي لبيب. وتزوجت الدكتورة منال البطران، أستاذة التخطيط العمراني في المركز القومي لبحوث البناء والإسكان في القاهرة. كانت منال – ولا تزال - زوجة رائعة. لقيَتْ قبولاً واضحاً من كل أصدقائي على رغم أنها تصغرنا جميعاً في السن. وهبها الله قبولاً كبيراً لدى كل من تلقاه. الله يرعاها ويوفقها. قضينا قرابة أربع سنوات من دون أولاد وقدرنا إن أراده الله ألا يكون لي أولاد. ثم أتى فيض من كرم الله، وبدلاً من أن يرزقنا بطفل رزقنا بتوأمين – كامل وابراهيم – في 24 أيار (مايو) 2005، يملآن حياتنا بهجة وضجة.
هذان الطفلان غيرا بالكامل نظرتنا إلى الحياة. أصبحت حياة منال وحياتي مرتبطتين تماماً بهما.
بعد ولادتهما كانت مشكلتنا أن نجد آنسة مؤهلة ترعاهما. وافقت منال في إقناع إحدى الممرضات المتميزات في مستشفى دار الفؤاد في مدينة ستة أكتوبر حيث تمت الولادة، وهي إحدى خريجات كلية التمريض في جامعة القاهرة. قبلت أن تعمل معنا في إقامة دائمة. عاشت معنا نجلاء سنتين حتى تزوجت. تردد علينا بعدها عدد من المربيات المقيمات، ولكنهن جميعاً كنّ أقل كثيراً منها في مستوى الأداء. نجلاء سيدة كريمة لا تزال حتى الآن تتصل بمنال هاتفياً للاطمئنان على كامل وابراهيم.
عندما وصل عمرهما الى سنتين بدأنا نبحث لهما عن حضانة، ووفقنا الى حضانة ألمانية قريبة من منزلنا. ثم التحقا بمدرسة صلاح الدين التركية الدولية في القاهرة الجديدة. أنهيا مرحلة روضة الأطفال فيها ودخلا في العام الدراسي 2011 - 2012 الصف الأول الابتدائي.
أصبحت مواعيد إجازاتهما هي التي تتحكم في إجازاتنا، وأصبح الاهتمام بحاجاتهما وصحتهما وواجباتهما المدرسية اليومية شغلنا الشاغل.
حزنتُ لدخول ولدينا مدارس أجنبية، لأنني معتز أشد الاعتزاز بمصريتي. ولكن مستوى التعليم في المدارس الحكومية وتهالكها فرضا علي أن ألجأ الى مدارس خاصة أجنبية. اخترنا المدرسة التركية لأنها تهتم بتعليمهما الدين واللغة العربية والأخلاق والارتباط بمجتمعهما المصري.
تغيرت حياتي وحياة زوجتي تماماً بعد أن رزقنا الله هديته. بدأنا نهتم بتأمين قدر معقول من المستقبل لهما. نحن نثق تماماً بأن مستقبلهما في يد الله سبحانه وتعالى، ولكننا نسعى لنؤدي واجبنا نحو ذلك المستقبل عن طريق الجهد والعرق والكسب الحلال.
أدعو ربي أن يتقبلهما بقبول حسن وينبتهما نباتاً حسناً، فيشبّان على مخافة الله والرضا والقناعة وحب الآخرين. دعائي الدائم لهما أن يهديهما الله الى السير على الدرب الذي رسمه رسولنا الكريم – صلوات الله وسلامه عليه – حين قال "أحب الناس الى الله أنفعهم، وأحب الأعمال الى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربه أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً. ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن اعتكف في المسجد شهراً. ومن كف غضبه ستر الله عورته. ومن كظم غيظاً – ولو شاء أن يمضيه أمضاه – ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة. ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام".
أعيش دائماً وهذا الحديث النبوي الشريف ماثل أمامي وأحمله في حافظتي. وأرجو الله أن يسير ابناي في الطريق نفسه.
عصام الدين الحناوي
الدكتور عصام الدين الحناوي من أبناء كلية العلوم، وهو الآن أستاذ في المركز القومي للبحوث. عُيِّن في "يونيب" - وكانت هذه أول معرفتي به – مديراً لشؤون الطاقة وشؤون إعداد التقارير السنوية عن حالة البيئة في العالم. قدم نموذجاً للعالِم الفذ الذي يعتز بعلمه وكرامته، وأعد تقارير سنوية على أعلى مستوى من الجودة. كان منسقاً لإعداد تقرير "حالة البيئة في العالم" بين عامي 1972 و1982، واشترك في إعداد تقرير "حالة البيئة 1972 – 1992" الذي نشر بمناسبة مؤتمر قمة الأرض، كما أعد منفرداً مسودة كتابي الوحيد باللغة العربية "إنقاذ كوكبنا".
عاد عصام الى المركز القومي للبحوث قبل تركي لمنصبي في "يونيب". وعندما أنشئ المركز الدولي للبيئة والتنمية عاد ليعمل معي حتى الآن. عصام قيمة علمية أعتز بها، وهو من القلائل الذين عملت معهم وأطمئن كل الاطمئنان الى أدائه الدقيق وأمانته العلمية المتميزة.
مذكرات مصطفى كمال طلبه
الحلقة 3: أسرار الاتفاقيات البيئية
مصطفى كمال طلبه هو مؤسّس مفهوم «ديبلوماسية البيئة». عمل مع موريس سترونغ على تأسيس برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) عام 1973، ليتولى قيادته كمدير تنفيـذي حتى عام 1992.
عالم حصل على الدكتوراه من «إمبيريال كولدج» في جامعة لندن عام 1949، وشغل مناصب أكاديمية وسياسية رفيعة في مصر، منها وزارة الشباب ورئاسة الأكاديمية المصرية للبحث العلمي والتكنولوجيا، قبل التحاقه بـ«يونيب». وهو كان الرئيس الأول لمجلس أمناء المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)، وله المساهمة الكبرى في تحديد توجهاته. عكف الدكتور طلبه خلال السنتين الماضيتين على كتابة مذكّراته، التي نُشر جزء منها حول الشق المصري والسياسي في سلسلة «كتاب اليوم» لدار الأخبار المصرية. وهو خص قراء «البيئة والتنمية» بالجزء حول البيئة، الذي ننشره حصرياً في حلقات
كانت مشاكل البيئة التي حددناها في مؤتمر استوكهولم عام 1972 تتفاقم، وكان لا بد من التركيز على قضية التعاون الدولي في حل هذه المشاكل لأنها جميعاً نتيجة النشاط الانساني، ولكن نتائج هذا النشاط عابرة للحدود وعابرة للقارات.
رأينا في «يونيب» أن نبدأ بالمشاكل الإقليمية. وبدأنا بالبحر المتوسط، باعتبار أن البحار ترتبط بها مشاكل أقل تعقيداً من مصادر المياه العذبة.
كان الكابتن كوستو، وهو بحار فرنسي وهب نفسه ليجوب البحار ويدعو الى محاربة التلوث فيها، قد جاب البحر المتوسط بسفينته الشهيرة «كاليبسو»، ثم أعلن في مؤتمر صحافي في باريس أن البحر المتوسط يموت بسبب التلوث.
اعتبرنا هذه فرصة مؤاتية لنبدأ محاولة عقد اتفاقية إقليمية بين كل الدول المطلة على البحر المتوسط، شماله وجنوبه وشرقه. كان هذا في العام 1974، وكانت كل الدول العربية الثماني التي تطل على البحر المتوسط، بما فيها مصر والأردن، في حالة حرب مع إسرائيل وترفض أن تجلس معها إلى مائدة الحوار، دع عنك المفاوضات. إضافة الى ذلك، كانت الجزائر والمغرب على خلاف مستمر بسبب الصحراء. ومن ناحية أخرى، كانت الدول العربية، أي دول جنوب وشرق البحر المتوسط، تعتبر الدول الصناعية في شماله هي المسؤولة عن التلوث ولا بد أن تقوم هي بإنقاذ البحر. أما دول شمال البحر المتوسط، الأوروبية، فكانت تعتبر أن دول الجنوب هي المسؤولة عن التلوث بسبب ما تلقيه في البحر من مخلفات بشرية غير معالجة. وفي ما بين دول شمال المتوسط نفسها، كانت اليونان وتركيا على خلاف مستمر بسبب قبرص.
استمر الحوار شهوراً طويلة ونحن نركز على مفهوم أنه لا توجد أي دولة قادرة على حماية نفسها ببناء حائط عند حدودها في البحر، وعلى هذا فإن الحل الوحيد هو تعاون دول الحوض جميعاً. واقتنعت الدول بهذا أخيراً وجلست الى مائدة المفاوضات، بما في ذلك الدول العربية وإسرائيل. انتهى الأمر الى إقرار خطة عمل لحماية البحر المتوسط عام 1974، أعقبتها اتفاقية برشلونة عام 1975 وهي اتفاقية دولية ملزمة. شاركت في ذلك كل الدول المحيطة بالبحر المتوسط، ما عدا ألبانيا التي ظلت بعيدة تماماً عن المفاوضات.
أُلحق بالاتفاقية بروتوكولان للتعاون في قضايا محددة. واشتُرط لدخول اتفاقية برشلونة حيز التنفيذ أن تصدق الدول عليها مع بروتوكول واحد على الأقل. كان الهدف إبراز الاستعداد للتعاون بصورة عامة وفي مجال واحد محدد على الأقل.
أقرت الدول كلها خطة العمل ووقعت على الاتفاقية، وأنشأنا في أثينا سكرتارية للإشراف على تنفيذ الخطة والاتفاقية والإعداد لمؤتمرات الأطراف المصدقة عليها. جاء اختيار أثينا بعد صراع شديد بين اليونان وإسبانيا على استضافة السكرتارية.
اعتُبر هذا أول نجاح لـ «يونيب» في تحقيق حماية البيئة، وهو شجع دولاً أخرى في مناطق أخرى على مطالبة «يونيب» بإجراء مفاوضات مماثلة. كانت أول هذه الدول منطقة الخليج، أعقبتها الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، ثم شرق أفريقيا وغرب أفريقيا والبحر الكاريبي وشرق المحيط الهادئ.
طلبه في مؤتمر "قمة الأرض" في ريو دي جانيرو عام 1992
وفي مناقشات "قمة الأرض +5" عام 1997
منظمتان للخليج والبحر الأحمر
كانت تجربة الخليج وتجربة البحر الأحمر شديدتي الصعوبة. عندما طلبت دول الخليج أن نعد معها اتفاقية لحمايته، بدأت على الفور مشكلة سياسية غير قابلة للحل: ما هو اسم الخليج؟ العرب يسمونه الخليج العربي، وإيران تسميه الخليج الفارسي وهو الاسم المسجل في الأمم المتحدة وخرائطها. رفضت الدول العربية السبع ذلك. عرضنا أن نسميه الخليج العربي ـ الفارسي أو الفارسي ـ العربي أو حتى الخليج فقط. رفض العرب وإيران جميعاً كل هذه الاقتراحات. وتعقدت الأمور ولم يتحرك أي من الطرفين عن موقفه. استمر هذا الوضع عامين. وكانت آخر محاولة أن نتفق على أن تكون الكويت هي الدولة التي تستضيف المؤتمر الوزاري الذي سيقر الاتفاقية فتسمى عندئذ «اتفاقية الكويت لحماية البيئة البحرية» من دون ذكر كلمة الخليج إطلاقاً. واقترحنا أن تبدأ المفاوضات تحت عنوان طويل: «مفاوضات لإعداد اتفاقية لحماية المنطقة البحرية التي تحيط بها إيران والعراق والسعودية والكويت والإمارات وقطر والبحرين وعمان».
وفعلاً بدأت المفاوضات، وانتهينا الى اتفاقية وخطة عمل وقعت في الكويت. استمرت المفاوضات أكثر من سنة، وكان يتداول رئاستها كل شهر رؤساء وفود الدول المشاركة طبقاً للترتيب الأبجدي باللغة الانكليزية. حصل ذلك أثناء الحرب الطويلة التي دارت بين العراق وإيران، وكانت إيران تأتي بعد العراق مباشرة في الترتيب، فكان الرئيس العراقي للمفاوضات يسلم الرئاسة للإيراني بكل الأدب الذي تحتمه الديبلوماسية الدولية. وهذا قدم لنا دليلاً ساطعاً على أن مشاكل البيئة يمكن فعلاً أن تجمع ولا تفرق.
رأت الدول المعنية أن تنشئ منظمة إقليمية للإشراف على تنفيذ الاتفاقية، بدلاً من سكرتارية. وأنشئت، تحت إشراف برنامج الأمم المتحدة للبيئة، منظمة سُميت «المنظمة الإقليمية لحماية البيئة البحرية» من دون ذكر الخليج. اختيرت الكويت مقراً لها، واختير وزير الصحة والبيئة الكويتي الأخ الصديق الدكتور عبد الرحمن العوضي أميناً عاماً للمنظمة، التي ما زال أميناً عاماً لها منذ أكثر من ثلاثين عاماً. وقد تفرغ الآن لهذا العمل بعد ترك منصبه الوزاري.
انتقلنا الى البحر الأحمر وخليج عدن، وصادفتنا مشاكل أسوأ من سابقاتها. كانت إثيوبيا على خلاف مع السودان والصومال، وكانت كل الدول العربية على البحر الأحمر وخليج عدن (مصر، السودان، الصومال، جيبوتي، جزر القمر، السعودية، الأردن، اليمن) ما زالت في حالة حرب مع إسرائيل قبل عقد اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل.
رفضت الدول العربية تماماً أن تشترك مع إثيوبيا أو إسرائيل. وكان من غير الممكن استبعاد دولة عضو في الأمم المتحدة من أي نشاط تقوم به احدى منظماتها أو برامجها. كان الحل الوحيد أن تنتقل مظلة إعداد الاتفاقية من برنامج الأمم المتحدة للبيئة الى المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في جامعة الدول العربية، وبالتالي أصبح المتفاوضون جميعاً دولاً عربية، وأعدت الاتفاقية ووقعت في مقر الجامعة العربية، وشهد «يونيب» التوقيع كمراقب.
وهكذا كان بارزاً تماماً أن مشاكل البيئة يسهل تحديدها من قبل العلماء والمختصين، ولكن علاجها يصطدم مباشرة بالسياسة والسياسيين. وكان علينا أن نعي ذلك تماماً وأن ندرس الأسلوب الأمثل لتخطي تلك العقبات وليس مجابهتها.
كانت التجارب أقل صعوبة في بقية البحار التي أعددنا لحمايتها اتفاقيات إقليمية. ومع ذلك صادفتنا فيها مشاكل. في غرب ووسط أفريقيا، واجهتنا مشكلة أي دولة تستضيف الأمانة العامة للاتفاقية. كانت نيجيريا والسنغال وساحل العاج تتنافس كلها على استضافة ما اعتبرته كل منها مصدر قوة. وبعد جهود طويلة تم الاتفاق على أن تتم الاستضافة بالتوالي كل سنة في بلد من الثلاثة. أما اتفاقية الكاريبي فشهدت مشاكل سياسية. الدول الأوروبية التي تحتل مناطق في البحر الكاريبي حضرت المفاوضات. وكانت دول الكاريبي نفسها تجتمع أحياناً من دون دعوة الدول الأوروبية، الأمر الذي كان يسبب لنا حرجاً شديداً. ولكن المثابرة واستعداد الجميع للالتقاء في وسط الطريق أوصلانا في النهاية الى اتفاقية ملزمة وخطة عمل.
الدكتور مصطفى كمال طلبه يحمل ميدالية العيد العاشر لمجلة "البيئة والتنمية" عام 2006 التي سلمه إياها نجيب صعب وقد حُفرت عليها عبارة "شيخ شباب البيئة العربية"
عقدة المياه المشتركة
اتجهنا بعد ذلك الى منطقة أشد وعورة، هي مصادر المياه العذبة المشتركة بين بلدين أو أكثر. لم نبدأ بنهر النيل لسببين: الأول أنه شديد التعقيد بسبب الخلافات حول حصص المياه بين دول الحوض، والثاني أنني مصري ولم أرَ من المناسب البدء بنهر النيل كي لا يتصور أحد أنني أفعل ذلك لمجرد أنني مصري. أردنا أن نبدأ بنهر أقل تعقيداً، وكان نهر الزامبيزي في جنوب القارة الأفريقية. كانت دولة جنوب أفريقيا في ذلك الوقت تمارس التفرقة العنصرية وعلقت الأمم المتحدة عضويتها، ولم تقبل الدول الأفريقية المحيطة بالزامبيزي أن تدخل معها جنوب أفريقيا في المفاوضات. لم يجد «يونيب» صعوبة في قبول هذا، لأن عضوية جنوب أفريقيا في الأمم المتحدة كانت معلقة.
ولكن كانت هناك صعوبتان أخريان، الأولى أن بعض الدول الصغيرة الأفريقية حول النهر كانت متهمة من الآخرين بأنها قد تحول قدراً من مياه الزامبيزي الخاصة بها الى جنوب أفريقيا. والثانية أن جنوب أفريقيا كانت في حالة عداء سافر مع ممثلي الأمم المتحدة، وهي الطريق الوحيد للوصول الى دولتين من دول حوض الزامبيزي. كانوا يصرون على أن أي ممثل لمنظمة الأمم المتحدة لا يدخل الى جوهانسبورغ، وإنما يبقى طوال فترة الترانزيت في قاعة مغلقة بالمطار. وكان هذا أمراً مهيناً لي ولزملائي، تحملناه بصبر كبير لإتمام المهمة. نجحنا بعيداً تماماً عن حصص المياه أو مصادر التلوث، واتجهت الاتفاقية وخطة العمل لتنفيذها الى المشاريع التي تخدم كل دول الحوض. كانت الخطوة الأولى زيارة ثلاثة من رؤساء الدول الهامة حول النهر، وإقناعهم بأهمية العمل المشترك وبالتالي توجيه وزرائهم للسير في المفاوضات. وكانت الخطوة الثانية إشراك الدول الاسكندينافية (السويد والنروج والدنمارك) في تحمل تكاليف تنفيذ الخطة.
كان هذا أول نجاح في مجال مصادر المياه العذبة المشتركة بين أكثر من دولتين. تلتها تجربة ثانية ناجحة أيضاً في بحيرة تشاد. بدأنا بدراسة تفصيلية لما يجرى في البحيرة، وكانت قد تناقصت 25 كيلومتراً على أحد جوانبها و40 كيلومتراً على الجانب الآخر. شكك عدد من ممثلي الدول في الدراسة، وأعدناها مرة أخرى. فترت الحماسة لعقد اتفاقية. واستمر الجهد حتى وصلنا الى اتفاقية وقع عليها وزراء الدول الأربع ومعها خطة عمل.
في السنتين الأخيرتين قبل نهاية فترة عملي في الأمم المتحدة (1991 و1992) بدأنا في مشاورات حول نهر النيل. تم ذلك في البداية مع سفراء الدول المعنية في نيروبي ثم مع الفنيين من العواصم. كان التركيز هذه المرة أيضاً ليس على أنصبة المياه، وإنما على المشاريع ذات الفائدة المشتركة التي يمكن أن تقدم للاتحاد الأوروبي أو أي دولة مانحة للتمويل. كان التركيز على إعادة تشجير الغابات التي اجتثت في كينيا وتنزانيا وأوغندا وإثيوبيا، لزيادة إيرادات النيل من المياه والحفاظ على التربة في تلك البلاد التي تعريها الأمطار. وصادف هذا قبولاً لدى دول المنبع، وطبعاً لدى دول المصب.
كانت المشاورات تجري حول تحديد المناطق التي أزيلت غاباتها، وعدد الأفراد من مصر والسودان الذين سيعينون زملاءهم في كل بلد، ومشاركة كل علماء الحوض في اختيار أفضل أنواع الأشجار التي تتفق مع الظروف الطبيعية والمناخية لدول الحوض والتي تحقق عائداً مجزياً سواء كوقود أو ببيع أخشابها. لم يكن أمام شعوب تلك الدول سوى اجتثاث الأشجار، إما لاستخدامها وقوداً إذ لم يكن عندهم بترول أو غاز، وإما بيع الأخشاب ليعيشوا على ثمنها. وبدأ الحوار الجاد حول الموضوع قبل نهاية عملي مباشرة. ولكن الزميلـة التي خلفتني في قيادة «يونيب»، السيدة اليزابيث دادزويل، اتجهت بعيداً تماماً عن قضايا الاتفاقات الدولية. وبذلك مات الموضوع والتقطه البنك الدولي في مبادرته لحوض النيل التي ما زالت مستمرة حتى الآن وتلعب فيها مصر دوراً هاماً.
شخصيات في حياتي
مر بي في حياتي آلاف من البشر من مختلف الجنسيات والمستويات. أعتقد أنه يصعب على أي إنسان أن يذكر كل من قابله، خاصة اذا تعرض مثلي للعمل الدولي لفترة طويلة وزار والتقى علماء ومحامين ومسؤولين في أكثر من ثمانين دولة.
لكن هناك أسماء تركت موقعاً خاصاً في نفسي، وهناك مواقف مع أشخاص بعينهم لا تمحى من ذاكرتي. وسيتم نشرها بالتوالي شهرياً على حلقات من فترات زمنية متنوعة.
موريس سترونغ
كان موريس سترونغ أمين عام مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة الإنسانية (1972) وأول مدير تنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) الذي أنشئ في أول عام 1973. وهو اختير مرة أخرى أميناً عاماً لمؤتمر قمة الأرض عام 1992.
هذا المليونير العصامي الكندي الجنسية لم يحصل على أي قدر من التعليم بعد السنة الثالثة الابتدائية بسبب عدم قدرة والده على الإنفاق عليه. شق طريقاً وعراً الى القمة. وهو شرح كفاح حياته كلها لزوجته وأولاده في منزلي في نيروبي.
اختارني نائباً له وأصر على ذلك. وتعلمت منه في السنوات التي قضيتها معه الكثير.
كانت اختيارات موريس للعاملين معه غاية في الدقة. اختار اثنين وهو أمين عام مؤتمر استوكهولم، أحدهما مديراً لمكتبه هو الأميركي بيتر تاتشر، والآخر سكرتيراً خاصاً له هو مايكل زاميت كوتايار من مالطا. الأول قاد بنجاح مكتب «يونيب» الإقليمي في أوروبا، وهو أهم مكاتبنا، ثم أصبح ثاني نائب لي عندما انتخبت مديراً تنفيذياً لـ«يونيب». والآخر جاء مع سترونغ الى نيروبي كسكرتير خاص، ثم ترك نيروبي وتقلد عدة مناصب في منظمات مختلفة للأمم المتحدة، حتى أصبح أول سكرتير تنفيذي لاتفاقية تغير المناخ. وأعتقد أنه كان أفضل من قاد هذه الاتفاقية، لمعرفته الواسعة بقضايا البيئة والتنمية وإيمانه العميق بما يعمله.
عندما انتخب موريس سترونغ مديراً تنفيذياً لـ «يونيب» صمم على أن أكون نائبه، ليس لصداقة ولكن لأنه أراد أن يكون نائبه من العلميين لأنه لم يتعلم، وأن يكون من الدول النامية المعارضة لقضايا البيئة. ثم اختار مديرين تنفيذيين مساعدين، الأول للبرامج وهو روبرت فروش وكان نائباً لوزير البحرية الأميركية لشؤون البحث العلمي. كان فروش عالماً متميزاً في الفيزياء، وعندما اعتذر عن عدم الاستمرار ليعود الى عمله في الولايات المتحدة اختار موريس سترونغ عالماً مرموقاً آخر من كندا هو ديفيد مونرو، الذي أصبح بعد ذلك مديراً عاماً للاتحاد العالمي لحماية الطبيعة. جاء بعده عالم جليل آخر من الاتحاد السوفياتي هو سفينالد ايفتييف، الذي بقي معي طوال فترة قيادتي للبرنامج باستثناء ثلاث سنوات استبدله الاتحاد السوفياتي فيها بعالم فذ آخر هو جنادي جوليوبيف. كان كلاهما مثالاً للأدب الجم والخلق الكريم والمعرفة الواسعة وتواضع العلماء.
واختار سترونغ المدير التنفيذي المساعد الثاني لشؤون صندوق البيئة هو السويسري بول برتو، وكان قمة في الأداء والخلق. وعندما اعتذر برتو عن عدم استطاعته الاستمرار في العمل في نيروبي اختار سترونغ بدلاً منه الأميركي بروس ستدمان، وكان مديراً لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في أفريقيا. كان متميزاً في كل شيء: الخبرة والإدارة والخلق العـالي وخفة الظل. اخترته نائباً لي عندما انتخبت مديراً تنفيذياً للسنة المتبقية من فترة موريس سترونغ، ثم اعتذر عن عدم الاستمرار، ليس لأنه لا يهتم بقضية البيئة ولا لخلاف معي في الرأي، ولكن لأنه وجد أن معاشه التقاعدي بعد سبعة وثلاثين عاماً في الأمم المتحدة يساوي مرتبه الذي يتقاضاه في «يونيب»، ولم يجد مبرراً للعمل بلا أجر وبعيداً عن وطنه وأهله.
وهكذا تعلمت من موريس سترونغ الدقة في الاختيار: لا صداقة ولا علاقات شخصية وإنما الشخص المناسب للموقع.
تعلمت منه كيف يقود فريق العمل في «يونيب» بكفاءة، على رغم عدم إلمامه بالقضايا العلمية التي يتناولها البرنامج. تعلمت منه كيف علّم نفسه موضوعات لم يكن يعلم عنها شيئاً، وانعكس ذلك في إصراري على أن أتعلم من العاملين معي والمفاوضين أهم ضوابط القانون الدولي وأهم الأفكار الاقتصادية.
تعلمت منه، وكنت قد مارست ذلك فعلاً في مواقعي التنفيذية في مصر، كيف يستفيد من العلاقات الشخصية الطيبة. استفاد منها هو في الحصول على الدعم المالي والمعنوي المطلوب للأولويات التي يحددها في خطة عمل «يونيب»، واستمر معي هذا الأسلوب حتى الآن.
تعلمت منه قبل كل شيء أسلوب المشاورات غير الرسمية، الذي اتبعه في أثناء مؤتمر استوكهولم للبيئة عندما تأزمت الأمور بين الشمال والجنوب. قُدت أنا أول مشاورات غير رسمية في أول اجتماع لمجلس «يونيب» التنفيذي عندما كنت نائباً له. وأصبح هذا أسلوبي الدائم في «يونيب». كنت أدعو عشرين الى خمسة وعشرين وزيراً من الشمال والجنوب لمدة ثلاثة أيام لمشاورات غير رسمية في حديقة منزلي في نيروبي، وليس في مقر المنظمة، لمناقشة ما أنوي تقديمه من موضوعات للمجلس التنفيذي للبرنامج. كان هذا يتم قبل انعقاد المجلس بنحو شهرين. كان الوزراء يناقشون ما أقدمه من دون أي التزام بمؤازرتي أثناء المجلس التنفيذي. لقد أصبح كل هؤلاء الوزراء أصدقاء شخصيين لي، ونشأت بين عدد منهم صداقات متميزة. في السنوات الأربع الأخيرة من قيادتي لـ «يونيب» أصبحت المشاورات غير الرسمية مع الوزراء عبئاً على كاهلي. فقد كان السفراء المعتمدون لدى البرنامج ينقلون إلي رغبة وزرائهم في المشاركة في المشاورات غير الرسمية. وكانت الحديقة في منزلي لا تتسع لجلوس أكثر من خمسة وعشرين شخصاً. فكنت أعتذر.
استخدمت أسلوب المشاروات غير الرسمية في كل المفاوضات التي جرت تحت إشراف «يونيب» للوصول الى اتفاقات دولية حول موضوعات إقليمية أو عالمية. وأعتقد أن هذه المشاورات كانت العامل الرئيسي في تحقيق «يونيب» النجاح الذي حققه في الوصول الى عدد ضخم من الاتفاقات الدولية.
آشوك كوشلا
رأس آشوك كوشلا إدارة البيانات في «يونيب» لسنوات وأحدث فيها قفزة رائعة. جاءني يوماً وقال: «أريد أن أخدم بلدي الهند، وسأتقدم بمشروع للحصول على بعض الدعم المالي من يونيب». كتب مذكرة المشروع. كان يسافر معي في رحلاتي وأراجع معه ما كتبه أثناء السفر حتى وصل الى الصورة المطلوبة. قدم له «يونيب» خمسة وعشرين ألف دولار. وعاد الى الهند وأنشأ شركة في منزل والده باسم «بدائل التنمية» (Development Alternatives).
ذهبت لزيارته، فوجدته يدرب الشباب على تكنولوجيا الطاقة الشمسية وهم جالسون على الأرض في منزل والده. كان أول إنتاج لهذه الشركة فرن يعمل بالطاقة الشمسية في الشارع أمام منزل والده. تأتي السيدات العاملات بما يعددن من طعام ويتركنه في الفرن حتى يعدن من أعمالهن، فيجدن الطعام قد نضج ويعدن به الى المنزل. تطورت الشركة وأصبحت من كبرى الشركات الهندية. استمر آشوك في نشاطه البيئي الى أن أصبح الآن رئيس نادي روما القديم الشهير الذي أعد الكتاب المعروف «حدود النمو»، وانتخب في الوقت نفسه رئيساً للاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة (IUCN) الذي سبق أن رأسه أخي المرحوم محمد القصاص. آشوك كان أذكى من عمل معي في «يونيب» من الموظفين بلا جدال. وهو مثال يحتذى لحب الوطن وخدمته. شاب في مقتبل العمر يضحي بمنصب مرموق في الأمم المتحدة ليخدم بلده، ويبدأ من الصفر ويصل الى القمة.
في مصرنا الغالية آلاف من الشباب مثل آشوك كوشلا اذا أتيحت لهم الفرصة، وسوف تتاح بإذن اللـه بعد ثورة الشعب بقيادتهم في 25 كانون الثاني (يناير) 2011.
كوشلا متحدثاً في مؤتمر المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) حول البصمة البيئية عام 2012
أسامة الخولي
عرفت أسامة عندما كنت وكيلاً لوزارة التعليم العالي، حين عينه الدكتور عزت سلامة وزير التعليم العالي حينذاك مستشاراً ثقافياً في موسكو.
توثقت علاقاتنا العائلية معه ومع السيدة ناهد حرمه وابنه وكريمته، وأصبح أحد كبار المستشارين لي في «يونيب» مع الدكتور محمد القصاص. وكان لهما أكبر الفضل في تحقيق الكثير من الإنجازات التي تمت في «يونيب». لعله من أكثر زملائي كفاءة وقدرة على مراجعة تلال من البيانات والتقارير. كان شريكي، وقام بدور ضخم في إعداد تقرير حالة البيئة 1972 ـ 1992 الذي قدمه «يونيب» لمؤتمر قمة الارض عام 1992 وأصبح مرجعاً يدرس في الجامعات الأجنبية، وشاركنا في ذلك القصاص.
كان أسامة صاحب قلم رائع باللغتين العربية والانكليزية. كانت كتاباته سلاسل من الذهب. لم أرَ غرابة في ذلك، فهو ابن المرحوم أمين الخولي.
توفي فجأة في مطار روما وهو عائد الى لندن لاصطحاب حرمه الى القاهرة. فجعت عندما سمعت الخبر. انهرت عند وصول جثمانه. وعند تشييع جنازته انخرطت في بكاء حار دعا السيدة الفاضلة زوجته الى أن تطلب مني أن أترك المقابر وأعود إلى البيت لأنني لن أتحمل أكثر من ذلك. رحمة اللـه على أسامة، وجزاه اللـه خيراً عما قدمه لبلده.
عبد الرحمن العوضي
كان الدكتور عبدالرحمن العوضي وزيراً للصحة والبيئة في الكويت عندما كنت في «يونيب». رأس وفد بلاده الى المجلس التنفيذي طوال فترة عملي. شارك في مفاوضات حماية البيئة البحرية في الخليج، وعين مديراً تنفيذياً للمنظمة التي أنشأتها دول المنطقة لتطبيق البرنامج والاتفاقية اللتين تمتا تحت إشراف «يونيب»، وما زال يشغل هذا المنصب.
استمرت صداقتنا حتى الآن، قرابة أربعة عقود، أزوره في الكويت ويزورني في القاهرة. كان من أشد من ضغطوا علي لإنشاء المركز الدولي للبيئة والتنمية بعد تركي «يونيب»، وشاركني مالياً في إنشاء المركز، وما زال شريكي فيه حتى الآن.
طبيب ماهر وديبلوماسي وسياسي من أعلى طراز، وقبل كل شيء إنسان فاضل وصديق عزيز.
طلبه والعوضي خلال إحدى جلسات مؤتمر "أفد" حول أثر تغيُّر المناخ على البلدان العربية عام 2009
بياتريكس ملكة هولندا
ملكة هولندا السابقة بياتريكس من أشد المتحمسين لقضايا البيئة. كانت تحضر بنفسها الى المؤتمرات الدولية التي يعقدها «يونيب» في نيروبي لدراسة قضايا بيئية محددة. دعتني لزيارتها في قصرها في هولندا، ووجدتها وحدها في غرفة استقبال عادية. تحدثنا في مختلف قضايا البيئة، وقالت: «يا دكتور طلبه، إنك عندما تتحدث عن أي قضية من قضايا البيئة تخيفني، لأنك تتحدث من القلب وبإيمان عميق وببيانات دقيقة. لست أدري مدى تأثيرك على الآخرين، ولكن حديثك يدفعني الى الضغط على الحكومة الهولندية لعمل شيء جاد لحماية البيئة».
الملكة بياتريكس بين الرئيسين الفرنسي جاك شيراك (إلى اليسار) ورئيس حكومة هولندا آنذاك فيم كوك في مؤتمر الأمم المتحدة حول تغيُّر المناخ عام 2000 في لاهاي
مذكرات مصطفى كمال طلبه
الحلقة 4: بروتوكول مونتريال
قصة نجاح اتفاقية دولية
الدكتور مصطفى كمال طلبه هو مؤسّس مفهوم «ديبلوماسية البيئة». عمل مع موريس سترونغ على تأسيس برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) عام 1973، ليتولى قيادته كمدير تنفيذي حتى عام 1992. شغل مناصب أكاديمية وسياسية رفيعة في مصر، منها وزارة الشباب ورئاسة الأكاديمية المصرية للبحث العلمي والتكنولوجيا، قبل التحاقه بـ»يونيب». وهو كان الرئيس الأول لمجلس أمناء المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد). عكف الدكتور طلبه خلال السنتين الماضيتين على كتابة مذكراته، وخص مجلة «البيئة والتنمية» بالجزء حول البيئة، الذي ينشر حصرياً في حلقات. في هذا الجزء يروي قصة بروتوكول مونتريال الذي يعتبر أنجح اتفاقية بيئية دولية
في أوائل الثمانينات، بعد نجاح «يونيب» في التعامل مع المشاكل البيئية في عدد من البحار وبعض مصادر المياه العذبة على المستوى الإقليمي، انتقلنا الى مواجهة مشاكل البيئة العالمية التي لا تحل إلا بتعاون دول العالم أجمع. وكانت البداية حماية طبقة الأوزون في أعلى طبقات الجو، أو ما يسمى الأوزون الستراتوسفيري، الذي يحمي البشرية من الأشعة فوق البنفسجية التي إن زادت عن الحد الطبيعي نتيجة لنقص طبقة الأوزون العليا أدت الى سرطان الجلد وبعضه قاتل، وعتامة العين (الكاتراكت) التي يمكن أن تؤدي الى العمى، ونقص المناعة البشرية الذي يماثل مرض الإيدز المفزع في تأثيراته.
طرح موريس سترونغ موضوع تأثر سماكة طبقة الأوزون العلوي للمرة الأولى عام 1974، في تقريره الذي قدمه الى المجلس التنفيذي لـ «يونيب»، في ضوء الدراسات التي تمت على الطائرات الأسرع من الصوت (كونكورد) واعتبرت أن زيادة أسطولها سوف يؤدي الى نقص ضار في طبقة الأوزون. ولم نتابع هذا الموضوع بسبب عدم تزايد حجم أسطول طائرات كونكورد. بعد ذلك مباشرة، عام 1975، أعلن عالمان من بركلي في كاليفورنيا، هما شيرويد رولاند وماريو مولينا، أن الغازات التي نستخدمها في التبريد وتكييف الهواء والرذاذ للاستعمال الشخصي، واسمها كلوروفلوروكربونات أو فريون، كلها تهدم جزيء الأوزون وتحولـه الى أوكسيجين لا يمنع مرور الأشعة فوق البنفسجية. وعقدنا أول اجتماع حكومي حول الموضوع عام 1977، طالبت فيه الحكومات بتشكيل لجنة علمية بالاشتراك بين المنظمة العالمية للأرصاد الجوية و«يونيب»، لرصد التغيرات في طبقة الأوزون العلوي وآثار تلك التغيرات على الإنسان والبيئة.
ظلت اللجنة تنشر نتائجها سنوياً وتؤكد أن هناك نقصاً مستمراً في طبقة الأوزون العلوي. وتراكمت الأدلة، فوافقت الدول على بدء المفاوضات لإعداد اتفاقية لحماية طبقة الأوزون. واستمرت المفاوضات من كانون الثاني (يناير) 1982 حتى آذار (مارس) 1985 عندما انتهينا الى اتفاقية فيينا لحماية طبقة الأوزون، وهي اتفاقية لا تتضمن أي التزامات سوى التعهد بضرورة استمرار البحوث العلمية لنعرف الى أين تتجه الطبقة.
ظهر الخلاف على أشده بين الدول الصناعية والدول النامية من جانب، وفي داخل الدول الصناعية من جانب آخر. رأت الدول النامية أنها تظلم ظلماً شديداً بإيقاف إنتاج واستخدام الكلوروفلوروكربونات، فقد كان إنتاجها المحلي يعتمد على مصانع اشترتها مع الملكية الفكرية الخاصة بها بمبالغ ضخمة وليس لديها بدائل. وكان الآخرون ممن ينتجون الثلاجات وأجهزة التكييف وغيرها يعتمدون على استيراد الكلوروفلوروكربونات من الدول المنتجة لها. كان من اليسير أن أقنع الدول الصناعية بوجهة نظر الدول النامية هذه، واقترحتُ أن تُمنح الدول النامية في الاتفاقية عشر سنوات سماح قبل تطبيق الإجراءات التي يتم الاتفاق عليها. ووافقت الدول الصناعية. وارتاحت الدول النامية وخرجت كلها من حلبة الصراع حول الاتفاقية.
بقيت الخلافات الضخمة بين الولايات المتحدة وكندا ودول الشمال الأوروبي من جانب، والاتحاد السوفياتي ودول السوق الأوروبية المشتركة واليابان من جانب آخر. الأولى تدفع بشدة في اتجاه حماية طبقة الأوزون عن طريق تقليص إنتاج واستخدام الغازات المسببة لاستنفاده، وتوافق على اقتراحي تخفيض 20 في المئة من الإنتاج والاستخدام كل سنتين من 1991، حتى نصل الى الإنهاء الكامل عام 2000. والمجموعة الثانية ترفض تماماً أي إجراءات من هذا النوع.
الاجتماع الخامس والعشرون للأطراف في بروتوكول مونتريال، بانكوك، تايلاند، تشرين الأول (أكتوبر) 2013
حل لمشكلة لا خلاف عليها
بدا واضحاً أنه لا خلاف حول خطورة مشكلة الأوزون البيئية العالمية، ولكن دواعي المعارضة الحادة هي اقتصادية أو سياسية. كان لا بد من إيجاد حل وسط، واستمرت الجهود بوضع بدائل مختلفة ومناقشتها مع خبراء القانون الدولي في «يونيب» وخارجه.
انتهى الأمر إلى الموافقة على مبدأ عرضته، وهو أن نكتفي بتخفيض الإنتاج والاستخدام بمقدار 50 في المئة عام 2000 عما يكون عليه عام 1990، الأمر الذي يتيح لمن ليس لديهم بدائل للكلوروفلوروكربونات أن يصلوا اليها. ولكن بقيت تفاصيل كيف نحقق هذا. واستمرت المحاولات عبر المشاورات غير الرسمية المتتالية، حتى وصلنا الى شهر أيلول (سبتمبر) 1987، وهو الشهر الذي تقرر أن تستضيف كندا فيه المؤتمر الوزاري في مونتريال لإقرار الاتفاقية الجديدة.
وكان العلماء البريطانيون أعلنوا عن قياسات لما سمي ثقب الأوزون، تؤكد أن طبقة الأوزون تتناقص فعلاً، وأكدوا أنها لن تعود الى حالتها الأولى قبل سبعين عاماً. فتسارعت الخطى واللقاءات غير الرسمية ولقاءات مع الصناعة والمنظمات غير الحكومية.
جاء موعد المؤتمر وما زال لدينا نقاط لم يتم الاتفاق عليها بعد في طريقة الوصول الى الهدف الذي ارتضاه الجميع، وهو تخفيض 50 في المئة من إنتاج واستهلاك المواد المدمرة للأوزون بحلول عام 2000.
افتتح المؤتمر الوزاري لإقرار الاتفاقية في مقر منظمة الطيران المدني الدولية في مونتريال. بعد كلمة رئيس المؤتمر وكلمتي، طلبت من الرئيس والأعضاء أن يرفعوا الجلسة لحين الانتهاء من النقاط المتبقية في مشاورات غير رسمية. كانت حجتي في ذلك أن كل وزير يتحدث سيذكر موقف بلاده ولن يتزحزح عنه ما دام أعلنه أمام الميكروفون. ووافقوا جميعاً على رأيي. وبدأنا في مجموعة المشاورات غير الرسمية سباقاً مع الزمن.
بقيت قضية واحدة هي تصويت دول السوق الأوروبية المشتركة والسوق نفسها، فقد تمسك ممثل السوق بضرورة أن يكون لها صوت ورفضت أميركا تماماً هذا الرأي. اقترحتُ حلاً للمشكلة أن تصوت السوق الأوروبية نيابة عن دولة عندما يريدون ذلك، بشرط ألا تصوت الدولة نفسها في ذات الوقت. قُبل الاقتراح، وأقرت مجموعة المشاورات غير الرسمية الاتفاقية.
صباح اليوم التالي قدمت الاتفاقية للمؤتمر الوزاري، وتحدث الوزراء كل لمدة خمس الى عشر دقائق نصفها شكر للمنظمة ومديرها على الجهد الخارق. كان حفلاً رائعاً أحسست فيه بأنني وصلت الى قمة ما أستطيع أن أقدمه، وأنه يجب أن أترك «يونيب» وأنا في قمة النجاح. لكن الدول جميعاً رفضت ذلك، لأننا كنا قد بدأنا في تلك الأثناء مفاوضات للوصول الى اتفاقية دولية أخرى لتنظيم انتقال النفايات الخطرة بين الدول والتخلص الآمن منها. استمرت الجهود سنتين أخريين حتى وصلنا الى اتفاقية بازل 1989، وكانت فيها مجموعة من الالتزامات الطيبة.
طلبه لدى إعلان إنشاء المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)، في ختام مؤتمر الرأي العام والبيئة الذي نظمته مجلة "البيئة والتنمية عام 2006. من اليمين: د. رياض حمزة نائب الرئيس السابق لجامعة الخليج، نجيب صعب أمين عام "أفد"، د. مصطفى كمال طلبه، د. عبدالرحمن العوضي الأمين التنفيذي للمنظمة الإقليمية للحياة البحرية، السفير عبدالمحسن السديري الرئيس السابق للصندوق الدولي للتنمية الزراعية
صندوق الأوزون
في أول كانون الثاني (يناير) 1989 دخلت اتفاقية مونتريال حيز التنفيذ، وعقد مؤتمر الأطراف (الدول المصدقة على الاتفاقية) اجتماعه الأول في هلسنكي عاصمة فنلندا في منتصف العام. أثارت الدول النامية في ذلك الاجتماع، ولا سيما الصين والهند اللتان لم تكونا قد صدقتا على الاتفاقية، ضرورة أن يكون هناك صندوق خاص لمعاونة الدول النامية مالياً على تنفيذ التزامات الاتفاقية، وإلا فلن تصدق عليها.
وعارضت الدول الصناعية بشدة فكرة إنشاء صندوق خاص لهذا الغرض. وبأسلوب الحلول الوسط نفسه، قبل الجميع اقتراحاً تقدمت به، بأن يصدر المؤتمر قراراً يطلب من مدير «يونيب» دراسة البدائل المختلفة لمعاونة الدول النامية مالياً، بما في ذلك فكرة إمكان إنشاء صندوق خاص.
وبدأ مرة أخرى سباق مع الزمن. مؤتمر الأطراف يجتمع مرة كل عام، وكان الاجتماع الثاني مقرراً في لندن في حزيران (يونيو) 1990. كانت أوروبا في ذلك الوقت متحمسة لتنفيذ الاتفاقية، لأن شركاتها الصناعية قاربت الوصول الى البدائل ويؤذن ذلك بمرحلة جديدة من المكاسب الضخمة.
كنت مكلفاً من المؤتمر الأول للأطراف بدراسة الموضوع. حصلت على تمويل كاف من الدول الصناعية لإجراء دراسات على أرض الواقع لكلفة التغيير الى البدائل في سبع دول من بينها الصين والهند ومصر. وعندما وصلنا الى المؤتمر الثاني في لندن، كانت عندي تقديرات تشير الى أننا بحاجة الى ثلاثة بلايين دولار خلال عشر سنوات حتى تستطيع الدول النامية أن تبدأ تنفيذ التزامات الاتفاقية. عرضت هذا في بداية اجتماعات مؤتمر الأطراف، ولقي قدراً من الاستجابة إلا من الولايات المتحدة التي كانت مصممة على ألا ينشأ صندوق.
بدأ مؤتمر الدول الأطراف. وبعد الافتتاح وبعض كلمات الوزراء انتقلت مع رئيس المؤتمر (وكان وزير البيئة في بريطانيا كريس باتن الذي أصبح مفوض الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي بعد ذلك) الى غرفة خلفية صغيرة لوضع خطوط عريضة لمشروع القرار الذي يمكن أن يصدر عن المؤتمر بشأن التمويل.
وصلنا الى صيغة تنص على إنشاء صندوق خاص بصفة موقتة بمبلغ 240 مليون دولار في السنوات الثلاث الأولى لحين دخول تعديل الاتفاقية حيز التنفيذ، تخصص منها 5 ملايين دولار لكل دولة من الدول الصغرى و10 ملايين لكل من الدول المتوسطة و40 مليون دولار لكل من الهند والصين بعد التصديق على الاتفاقية. بالإضافة الى ذلك، نص مشروع القرار على أن ينتخب مؤتمر الدول الأطراف لجنة لإدارة الصندوق من أربعة عشر عضواً، سبعة من دول صناعية وسبعة من دول نامية، وتكون الرئاسة بالتناوب لأحد ممثلي الدول الصناعية ثم ممثل من الدول النامية وهكذا. ولا تتم الموافقة فيها على شيء يطلب فيه التصويت إلا بأغلبية مطلقة، بشرط أن يكون نصف تلك الأغلبية من كل من المجموعتين الصناعية والنامية.
لم يتوقف المؤتمر عند هذا الحد، بل عاد الى ما اقترحتُه أثناء مفاوضات بروتوكول مونتريال، وهو أن ينتهي إنتاج واستخدام المواد المستنفدة للأوزون كلياً عام 2000، بدلاً من 50 في المئة التي أقرها البروتوكول.
بعد عامين، في 1992 آخر نشاطاتي في الأمم المتحدة، اجتمع مؤتمر الأطراف الرابع في كوبنهاغن بالدنمارك. وكان تعديل الاتفاقية قد دخل حيز التنفيذ وحوّل مؤتمر الأطراف الصندوق كآلية دائمة مع التشكيل والنظام نفسهما للجنة الإدارية، ونقل الى الصندوق الدائم ما بقي من مبالغ في الصندوق الموقت. تجاوز المؤتمر ذلك أيضاً الى إسراع الخطى في إنهاء إنتاج واستخدام المواد المستنفدة للأوزون الى 100 في المئة عام 1997، أي قبل ثلاث سنوات مما كنت آمل الوصول اليه عام 1987 ولم أنجح حينذاك.
أوضح هذا التطور الكبير في التعامل مع القضية لمن كانوا يتهمونني بخيانة قضية حماية البيئة عام 1987، عندما تراجعت عن موقفي بخصوص الإنهاء الكامل لإنتاج واستخدام المواد المستنفدة لطبقة الأوزون بحلول عام 2000، أنني كنت محقاً عندما قلت في مؤتمر صحافي بعد إقرار بروتوكول مونتريال هاجمتني فيه المنظمات غير الحكومية وعلى رأسها غرينبيس: «اذا كنا نريد حماية البيئة فلنبدأ بخطوة وسوف تتلوها خطوات، وإن ما لا يدرَك كله لا يترَك كله». أرجو أن يكون قد ثبت لهم أنني لم أخن القضية بل كنت أكثر واقعية منهم.
اعتبر فقهاء القانون الدولي أن إنشاء صندوق للتمويل بهذه الضخامة (240 مليون دولار) من دون أي سند من اتفاقية فيينا أو بروتوكول مونتريال، بمجرد قرار من مؤتمر الدول الأطراف في الاتفاقية، هو إجراء غير مسبوق في القانون الدولي. واعتبر بروتوكول مونتريال، حتى الآن، الاتفاقية النموذجية للتعامل مع المشاكل البيئية العالمية.
ولكن بروتوكول مونتريال لم يتكرر.
مصطفى كمال طلبه وموريس سترونغ (إلى اليمين) خلال إجتماعات اللجنة التحضيرية للقمة العالمية للتنمية المستدامة في بالي، إندونيسيا، عام 2002
كادر
هل تتعافى طبقة الأوزون؟
تشكل طبقة الأوزون حزاماً واقياً في الغلاف الجوي، يعلو ما بين 18 و28 كيلومتراً عن سطح الأرض، ويعكس أشعة الشمس فوق البنفسجية الضارة. ولكن خلال ستينات وسبعينات القرن العشرين، أدى الانبعاث الواسع النطاق لمركبات الكلوروفلوروكربون (CFCs) إلى تفكك جزئي لهذه الطبقة.
وتقاس تركيزات الأوزون بوحدة دوبسون (DU). ويبلغ المعدل الطبيعي لسماكة طبقة الأوزون نحو 300 وحدة دوبسون، أي 3 مليمترات. وثقب الأوزون، الذي يبدو باللون الأحمر فوق القارة القطبية الجنوبية، هو المنطقة التي تنخفض فيها التركيزات بشكل حاد.
في منتصف الثمانيات، شهدت طبقة الأوزون تراجعاً ملحوظاً عن المعدل، وتدنت بحلول عام 1992 إلى نحو 100 وحدة دوبسون. وفي 2006، سجلت انخفاضاً إلى أدنى من 93، لكنها ارتفعت لاحقاً ليشهد عام 2012 تسجيل معدل 136 وحدة دوبسون. وبلغت مساحة ثقب الأوزون عام 2013 نحو 21 مليون كيلومتر مربع (ما يعادل مساحة أميركا الشمالية). والعلماء متفائلون بأن طبقة الأوزون تتعافى بعد عقود من الدمار، بفضل بروتوكول مونتريال الذي ألزم الدول بالتوقف التدريجي عن إنتاج واستخدام المواد المستنزفة للأوزون.
شخصيات في حياتي
مر بي في حياتي آلاف من البشر من مختلف الجنسيات والمستويات. أعتقد أنه يصعب على أي إنسان أن يذكر كل من قابله، خاصة اذا تعرض مثلي للعمل الدولي لفترة طويلة وزار والتقى علماء ومحامين ومسؤولين في أكثر من ثمانين دولة.
لكن هناك أسماء تركت موقعاً خاصاً في نفسي، وهناك مواقف مع أشخاص بعينهم لا تمحى من ذاكرتي. وسيتم نشرها بالتوالي شهرياً على حلقات من فترات زمنية متنوعة.
محمود فوزي
هو أول رئيس للوزراء عملت معه. كان ديبلوماسياً رائعاً ومثالاً للأدب وأناقة الكلمة والحكمة البالغة.
عُينت وزيراً عام 1971 وأنا في باريس أحضر اجتماع المجلس التنفيذي لليونسكو. وعين في مجلس الوزراء نفسه الدكتور اسماعيل غانم وكان معي في باريس ـ سفيراً لنا لدى اليونسكو ـ وأستاذي الدكتور محمد مرسي أحمد وكان في زيارة إلى دمشق وهو مدير لجامعة القاهرة. عدنا إلى القاهرة في اليوم التالي، وحضر الرئيس السادات الى مكتب رئيس الوزراء لنحلف اليمين الدستورية أمامه.
قبل دخولنا لحلف اليمين انتظرنا في الصالون الملحق بمكتب رئيس الوزراء. وجاء إلينا الدكتور فوزي وقال: «إنني جئت أعتذر لكم عن تعيينكم من دون استشارتكم، وقد قلت للرئيس السادات إنني سأتحدث معكم قبل حلف اليمين. فإذا كان لدى أي منكم صعوبة في قبول المنصب فسأرجوه أن يقبل نظراً للظروف السياسية الحالية». منتهى الكياسة والديبلوماسية والرقة.
موقف آخر للدكتور محمود فوزي: في إحدى جلسات مجلس الوزراء أثار أحد الزملاء موضوع إخلاء منطقة بولاق أبوالعلا ونقل سكانها الى مساكن تبنى خصيصاً لهم وبيع الأرض بسعر عالٍ لأنها على النيل.
وكان رده أن طلب الذهاب الى بولاق أبوالعلا للتعرف على مصادر الرزق لهؤلاء الذين سينقلون الى أماكن أخرى.
في الجلسة التالية عرفنا أن مصادر رزق السيدات هناك يعتمد على أعمال بسيطة مثل بيع أقراص الطعمية التي تقلى على «وابور» غاز بدائي أمام منازلهن. أما الأولاد الصغار فيعملون لدى الجزارين والحلاقين وورش الميكانيك المنتشرة في المنطقة. وعند عرض الموضوع في مجلس الوزراء طلب الدكتور فوزي أن يحدد له أصحاب اقتراح نقل الناس من بولاق أبوالعلا مصادر الرزق التي سيعيشون عليها في المساكن الجديدة. وأقفل الموضوع.
حكمة عالية ونظرة مستقبلية ثاقبة تراجع كل الظروف مراجعة جادة قبل اتخاذ القرار. لعل هذا يكون مثالاً لوزاراتنا المقبلة.
فايزة أبو النجا
وزيرة التخطيط والتعاون الدولي السابقة. أشرفت على مكتب الدكتور بطرس غالي عندما كان سكرتيراً عاماً للأمم المتحدة، وكانت قمة في الأداء. عندما كانت سفيرة لمصر لدى الأمم المتحدة في جنيف، أكرمتني بدعوتي الى غداء دعت اليه كل من يعمل في السفارة. وعندما عينت وزيرة للتعاون الدولي قبل نحو عشر سنوات توثقت الصداقة بيننا، وزرتها مرات عديدة في مكتبها، وزارتني في منزلي في الصحراء على طريق القاهرة ـ الإسكندرية الصحراوي. نتحدث في كل شيء بقلب وعقل مفتوح، وتعاونني في تمويل ما يتقدم به المركز الدولي للبيئة والتنمية من مشروعات تسعى أساساً الى خلق فرص عمل قليلة التكاليف كمساهمة متواضعة في مواجهة مشكلة البطالة في مصر.
سيدة فاضلة محترمة مثقفة واسعة الاطلاع، شديدة الاعتزاز بنفسها، مهذبة الى أبعد حدود الأدب. حماها اللـه ووفقها في كل ما تعمل.
الملك حسين
قابلته أكثر من مرة في عمان، ولكن لفتت نظري مداخلته في الاجتماع الذي عقده رئيس وزراء هولندا ورئيسة وزراء النروج في أمستردام قبل مؤتمر قمة الأرض في البرازيل عام 1992. حضر الاجتماع عدد من رؤساء الدول، من بينهم الرئيس السابق حسني مبارك والرئيس عمر البشير والملك حسين. اعتذر كل من الرئيس مبارك والرئيس البشير عندما جاء الدور على كل منهما ليتحدث. ولما وصل الدور في الحديث الى الملك حسين اختتم مداخلته بالقول: «إذا لم يكن الفشل بديلاً مطروحاً فلا بد إذاً من النجاح». كان يتحدث عن التعاون الدولي في مجال البيئة والتنمية.
ألبرت غور
نائب رئيس الولايات المتحدة في عهد الرئيس بيل كلينتون. جاء لزيارة مصر وهو نائب للرئيس كلينتون عندما كان المرحوم الدكتور عاطف صدقي رئيساً للوزراء. دعا السفير الأميركي في القاهرة الى حفل استقبال كبير له في منزله، وكنت أحد المدعوين بعد أن تركت «يونيب». جاء ألبرت غور برفقة عاطف صدقي، وما أن رآني حتى صاح: «صديقي مصطفى!» وقفز من عن يمين الدكتور صدقي الى يساره وجاء إلي ليحتضنني. ذهل الجميع طبعاً لهذا الموقف، ولكنها الصداقة الحقة التي لا تبنى على أي مصلحة يسعى إليها أي من الصديقين.
ألبرت غور هو صاحب الفيلم الشهير «الحقيقة المؤلمة» الذي حرك العالم كله في قضية تغير المناخ. حصل على نصف جائزة نوبل عام 2007 من أجل هذا الفيلم. ودعيت لحضور الحفل، فقد كان النصف الآخر من نصيب اللجنة الحكومية لتغير المناخ التي أنشأتها مع زميلي أمين عام منظمة الأرصاد الجوية. قال ألبرت غور عندما تحدث ليقبل الجائزة: «عندما فشلت في انتخابات الرئاسة الأميركية قررت أن أدفن مستقبلي السياسي وأن أهب نفسي لقضية البيئة».
منذ كان ألبرت غور عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي وهو من أشد المؤمنين بقضايا البيئة.
وانغاري ماثاي
مثال آخر لحب الوطن. كانت وانغاري ماثاي أستاذة في الجامعة، وتفرغت لخدمة بلدها كينيا عن طريق تشجيع السيدات على زراعة الأشجار ورعايتها في مشروع سمته «الحزام الأخضر» (Green Belt). جاءت إلي في «يونيب» وشرحت لي المشروع، وتقدمت به كتابة للحصول على معونة مالية. قدمنا لها 25 ألف دولار، مثل تلك التي قدمناها الى أشوك كوشلا عندما ترك «يونيب» ليخدم وطنه الهند.
كانت وانغاري تعطي الفلاحات الكينيات مبالغ متواضعة تشتري بها الفلاحة بقرة أو معزاة أو عدداً من الدجاجات تربيها وتعيش على إنتاجها. في المقابل، تزرع الفلاحة شجرة ضمن الحزام الأخضر وترعاها باستمرار. نجحت نجاحاً لفت أنظار الحكومات المختلفة في أفريقيا، فطلب منها الزعماء أن تساعدهم في إنشاء أحزمة خضراء في بلادهم. قامت بذلك بنجاح رائع.
حاولنا في «يونيب»، بجهد صادق من أخي المرحوم الدكتور محمد القصاص، أن نعيد التجربة مع دول أفريقيا شمال الصحراء المطلة على البحر المتوسط ـ المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر. بدأنا في المغرب والجزائر، وبدأت التجربة تؤتي ثمارها. ولكن، كالعادة في عالمنا العربي، تدخلت السياسة وتوقفت التجربة.
لفت جهد وانغاري ماثاي أنظار العالم، ومنحت جائزة نوبل عام 2004، وتوفيت عام 2011.
كانت صديقة عزيزة، وكانت من أشد المؤمنين بحماية البيئة والثروة الطبيعية.
مذكرات مصطفى كمال طلبه
الحلقة 5: تغير المناخ والتنوع البيولوجي
مفاوضات شائكة لاتفاقيتين دوليتين
الدكتور مصطفى كمال طلبه هو مؤسّس مفهوم «ديبلوماسية البيئة». عمل مع موريس سترونغ على تأسيس برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) عام 1973، ليتولى قيادته كمدير تنفيذي حتى عام 1992. شغل مناصب أكاديمية وسياسية رفيعة في مصر، منها وزارة الشباب ورئاسة الأكاديمية المصرية للبحث العلمي والتكنولوجيا، قبل التحاقه بـ»يونيب». وهو كان الرئيس الأول لمجلس أمناء المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد). عكف الدكتور طلبه خلال السنتين الماضيتين على كتابة مذكراته، وخص مجلة «البيئة والتنمية» بالجزء حول البيئة، الذي ينشر حصرياً في حلقات. في هذا الجزء يروي مفاوضات شائكة لاتفاقيتين دوليتين حول تغير المناخ والتنوع البيولوجي
برزت قضيتا تغير المناخ وفقد التنوع البيولوجي الى السطح خلال الفترة الأخيرة لإعداد بروتوكول مونتريال واتفاقية بازل للنفايات الخطرة.
عقدنا مؤتمراً دولياً في جنيف عام 1989 عن تغير المناخ، بالاشتراك بين منظمة الأرصاد الجوية وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) وبالتعاون مع منظمة اليونسكو ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة. وقد أصدر المؤتمر عدداً من التوصيات، بعد دراسة كل المعلومات العلمية المتاحة، كان أهمها ضرورة بدء مفاوضات للوصول الى اتفاقية تتضمن اجراءات محددة لتخفيض الانبعاثات الغازية التي تؤدي الى ارتفاع معدل درجة حـرارة العالم، وفي مقدمتها ثاني أوكسيد الكربون.
وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على التوصية. وكنا قد بدأنا بالفعل ـ «يونيب» ومنظمة الأرصاد فور انتهاء المؤتمر الدولي ـ مشاورات غير رسمية حول ما يمكن أن تتضمنه مثل هذه الاتفاقية. ولكن الدول الصناعية في نيويورك أصرت على ألا تترك «يونيب» مرة أخرى يتولى المفاوضات. كان واضحاً أنهم لم يريدوا أن ينشأ صندوق آخر لتغير المناخ على غرار صندوق الأوزون. أنشئت لجنة حكومية للتفاوض وسكرتارية خاصة تتبع الأمين العام للأمم المتحدة في نيويورك. حضرت أنا وأمين عام منظمة الأرصاد اجتماعات لجنة المفاوضات، وكان أحدها في واشنطن وتحدث فيه الرئيس جورج بوش الأب. كانت ملاحظتي، في التعقيب على كلمته، أن الرئيس بوش تحدث عن تغير المناخ وتحاشى تماماً أي ذكر لمصطلحات ارتفاع معدل درجة حرارة الأرض أو الاحترار العالمي أو الاحتباس الحراري، وطالب بمزيد من الدراسات والبحوث، ولم يقترح أي إجراءات لتخفيض الانبعاثات.
وقد جاءت الاتفاقية الاطارية لتغير المناخ، التي فتحت للتوقيـع في مؤتمر قمة الأرض في البرازيل عام 1992، معبرة عن ذلك: تعاون في البحوث والدراسات، وليس فيها أي نوع من الالتزامات.
في أثناء ذلك، نهاية عام 1989، أنشأت مع الأمين العام لمنظمة الأرصاد الجوية العالمية «اللجنة الحكومية المعنية بتغير المناخ» (IPCC) التي تفرعت عنها ثلاث لجان، الأولى تدرس نتائج البحوث العلمية حول الموضوع، والثانية آثار تغير المناخ، والثالثة الاستجابات للتعامل مع القضية. أصدرت اللجنة أربعة تقارير، آخرها في تشرين الثاني (نوفمبر) 2007، هي المراجع الحقيقية لأي اجراءات تتخذ في التعامل مع قضية تغير المناخ (يصدر التقرير الخامس تباعاً في أربعة أجزاء، من أيلول/سبتمـبر 2013 إلى تشرين الثاني/نوفمبر 2014). وقد حصلت اللجنة على نصف جائزة نوبل عـام 2007، وذهب النصف الآخر الى ألبرت غور النائب السابق لرئيس الولايات المتحدة لدوره الواضح المرموق في التوعية بقضية تغير المناخ في فيلمه «الحقيقة المزعجة» (Inconvenient Truth).
خسارة التنوع البيولوجي
في الفترة ذاتها التي بدأ فيها الحديث عن قضية تغير المناخ (النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي) كان العالم يتحدث أيضاً عن الفقد في التنوع البيولوجي. وكان مجلس المحافظين في «يونيب» شكل لجنة علمية لدراسة الموضوع.
عام 1989، عرضت اللجنة نتائجها على المجلس، الذي أصدر قراراً بتكليف مدير «يونيب» بدء المفاوضات للوصول الى اتفاقية لحماية التنوع البيولوجي. تركت الدول الصناعية المفاوضات لـ «يونيب» على أساس أنها تتعلق بمجرد إنشاء حدائق نباتية ومحميات طبيعية ولا شيء آخر. لكنها فوجئت بإدخالي قضية الأصول الوراثية، التي تنتقل من الدول النامية لتستخدمها الصناعات الكيميائية والدوائية في الدول الصناعية في إنتاج الأدوية والمواد الكيميائية والحصول على مكاسب ضخمة. ونجحنا في أن تتضمن الاتفاقية نصاً على أنه في حال استخدام أي من هذه الأصول صناعياً لا بد أن يكون للدولة الأم نصيب في أرباح هذا الاستخدام التكنولوجي، يُتفق عليه بين الدولة الأم والدولة المستخدمة.
وقامت قيامة الرئيس بوش الأب. وبدأ في حملته الانتخابية ضد كلينتون عام 1992 يهاجم الاتفاقية في لقاءاته التلفزيونية ومؤتمراته الانتخابية، ويقول إنها سوف تؤثر سلباً على كل بيت في أميركا. وسعى وفده في مؤتمر قمة الأرض في ريو دي جانيرو في البرازيل عام 1992، الذي فتحت فيه اتفاقيتا تغير المناخ والتنوع البيولوجي للتوقيع، الى تشجيع رؤساء الوفود (رؤساء الدول والوزارات والوزراء) على توقيع اتفاقية تغير المناخ والامتناع عن توقيع اتفاقية التنوع البيولوجي. ولكن فوجئ الكل عند حصر أعداد الموقعين على الاتفاقيتين في نهاية المؤتمر أن عدد الموقعين على اتفاقية التنوع البيولوجي يساوي عدد الموقعين على اتفاقية تغير المناخ، رغم أن الولايات المتحدة لم تكن بين الموقعين على الاتفاقية الأولى.
ملاحظة: من واقع 63 صورة بحوزتي للتوقيعات على اتفاقية التنوع البيولوجي، كان 37 توقيعاً لرؤساء دول ونائب رئيس دولة واحد، و17 لرؤساء وزارات، و8 فقط لوزراء يمثلون سبع دول عربية واليابان.
كل هذه الاتفاقات الإقليمية والدولية المرتبطة بالبيئة أدت الى ظهور القانون الدولي للبيئة كفرع مستقل من فروع القانون الدولي.
الاجتماع الثامن عشر للأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لتغيُّر المناخ، الدوحة، قطر، كانون الأول (ديسمبر) 2012
انسحاب أميركا
أدت المفاوضات حول قضية تغير المناخ، كما ذكرت، الى اتفاقية شكلت إطاراً عاماً لا يتضمن أي التزامات محددة للحد من انبعاثات غازات الدفيئة أو التأقلم مع الآثار الضارة لتغير المناخ.
بعد توقيع الاتفاقية، بدأت المفاوضات حول بروتوكول يتضمن التزامات محددة، وكان واضحاً أن الدول النامية محدودة المسؤولية جداً عما يحدث للمناخ. وقد تم الاتفاق على أن تقدم الدول الصناعية الخطوة الأولى في هذا الشأن. استمرت المفاوضات خمس سنوات انتهت الى بروتوكول كيوتو (اليابان)، الذي ينص على أن تخفض الدول الصناعية بحلول عام 2012 قرابة 5.5 في المئة من انبعاثاتها عام 1990.
وقعت أميركا على اتفاقية كيوتو، لكنها لم تصدق عليها. وكان هناك احتمال لو استمر الديموقراطيون في الحكم أن يصدقوا عليها. ولكن جاء الرئيس بوش الابن وانسحب من اتفاقية كيوتو، بعد أن كان الأميركيون هم من ضغطوا على الدول النامية لإقرار الاتفاقية الاطارية عام 1992 والتوقيع عليها في ريو دي جانيرو. الأسباب التي يسوقونها لهذا الانسحاب أسباب اقتصادية. الشركات الكبرى ورجال الأعمال يقولون للإدارة الأميركية إن تنفيذ هذه الاتفاقية سوف يحتم تعديلات جوهرية في مصانعهم، الأمر الذي سيكلف مئات البلايين من الدولارات، وبالتالي يضطرون الى رفع أسعار المنتجات الأميركية فتضعف قدرتهم على المنافسة في الأسواق العالمية. استجابت إدارة الرئيس بوش لهذا القول.
نحن نرى الآن ما يحدث من أعاصير وكوارث طبيعية. واضح أن المناخ يتغير الآن، وسوف يزداد التغير خلال الأربعين أو الخمسين سنة المقبلة، ويرتفع معدل درجة حرارة العالم تدريجياً حتى تصل الزيادة في نهاية القرن الى ثلاث درجات مئوية أو أكثر. لقد ازداد معدل الحرارة العالمي في المئة سنة الماضية ثلاثة أرباع درجة مئوية. ويحذر العلماء في اللجنة الحكومية المعنية بتغير المناخ (IPCC) من أننا خلال هذا القرن سنرى زيادة في الأعاصير، وزيادة الأيام والليالي الحارة وزيادة الأيام والليالي الباردة. كل المظاهر الشاذة في الجو سوف تزداد حدتها ويزداد تكرار حدوثها. لا يوجد بلد في العالم يمكن أن ينجو من هذا الوضع. وسوف تدفع الدول تكاليف باهظة لمواجهة أخطار هذه الظواهر.
حتى يتحقق الخفض المطلوب في غازات الدفيئة المنصوص عليه في اتفاقية كيوتو، لا بد من دخول الولايات المتحدة التي تنتج نحو 25 في المئة من إجمالي ثاني أوكسيد الكربون المكافئ في العالم (ثاني أوكسيد الكربون المكافئ هو اجمالي انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون وغازات الدفيئة الأخرى معدلة طبقاً لقدرتها على رفع معدل درجة حرارة العالم، منسوبة الى قدرة ثاني أوكسيد الكربون).
مع كلاوس توبفر، المدير التنفيذي السابق لـ "يونيب" عام 2002، خلال الاجتماع التحضيري لقمة التنمية المستدامة في بالي
صراع الدول كربونياً
قضت اتفاقية كيوتو ـ كما ذكرت ـ أن تخفض الدول الصناعية قرابة 5.5 في المئة من كمية ثاني أوكسيد الكربون المكافئ التي كانت تنبعث من أنشطتها عام 1990 بحلول عام 2012. وهنا يجب أن نراعي أن انبعاثات معظم الدول الصناعية زادت كثيراً عما كانت عام 1990، الأمر الذي يجعل تحقيق هدف بروتوكول كيوتو المحدود غاية ليست سهلة.
الولايات المتحدة وعدد من الدول الصناعية تطالب الدول النامية بالالتزام بتخفيضات محددة، والدول النامية تصر على أن مسؤوليتها في إحداث الاحترار العالمي محدودة. المشكلة الحقيقية أن أحداً لم يتحدث مع الدول النامية بصورة جادة. يقولون في الغرب، وخاصة في أميركا، إن الصين والهند والبرازيل تستخدم الطاقة بدرجة تزداد بسرعة وتنتج انبعاثات تكاد تكون مساوية لما تنتجه الولايات المتحدة، بل تخطتها في الصين. هذه الدول تريد أن تنمو وتتقدم. تريد أن ترتفع بمستوى سكانها. لا تريد أن تستمر شعوبها فقيرة من أجل الآخرين الذين لا يريدون أن يخفضوا مستوى الاستهلاك عندهم.
الأميركيون والكنديون يستخدمون نحو 12 ألف كيلوواط مكافئ من الكهرباء في السنة للفرد، بينما نصيب الفرد في بعض الدول النامية الفقيرة مئة كيلوواط في السنة. نحن نعلم طبعاً أن سكان الولايات المتحدة وكندا، بمساحاتهما الشاسعة، يستهلكون قدراً كبيراً من الوقود في الانتقال بالسيارات، إضافة الى أنهم يعانون من البرد الشديد في الشتاء. لكن برودة الشتاء في السويد والنروج لا تقل عنها في كندا والولايات المتحدة. ومع ذلك يعيش الناس في دول الشمال الأوروبي على طاقة تتراوح بين ستة وسبعة الآف كيلوواط للفرد في السنة، ويعيشون في مستوى اجتماعي لا يقل عن الكندي والأميركي. معنى هذا أن هناك هدراً في استخدام الطاقة في كندا والولايات المتحدة.
لم يقل أحد مثلاً إن على الدول الصناعية أن تلتزم ألا يزيد فيها استهلاك الفرد للطاقة على خمسة الآف كيلوواط في السنة، ومن يعيش في بلاد شاسعة يمكن أن يصل الى ستة آلاف. يمكن أن نحدد أيضاً أن الفرد في الدول النامية لا يزيد استهلاكه على ألفين أو ثلاثة آلاف كيلوواط مكافئ في السنة، علماً أن سكان هذه الدول يشكلون قرابة 80 في المئة من سكان العالم. لا أحد يفكر بهذا الأسلوب. يقولون للمواطن في الدول النامية: لا تقطع الغابات، لأن هذا يؤدي الى خفض القدرة على امتصاص ثاني أوكسيد الكربون. جميل، ولكن لننظر لماذا يقطع شخص ما الشجرة في هذه الدول: إما ليستخدمها كوقود لأنه ليس لديه دخل يسمح له بشراء البترول أو الغاز، أو لبيع خشبها ليعيش هو وأسرته على عائده. من الذي سيقدم البديل لمواجهة هذه الاحتياجات المعيشية؟
التعاون طريق الحل
عندما أردنا أن نحد من استخدام الغازات الضارة بالأوزون، قلنا إن هناك أناساً اشتروا مصانع لإنتاج أجهزة التكييف، وأخرى لإنتاج التلفزيونات، وثالثة لإنتاج الثلاجات، وهذا كله يستخدم الفريون (الكلوروفلوروكربونات). أصحاب هذه الشركات يشترون الفريون من منتجيه. واذا أرادت هذه الشركات أن تشتري مصانع جديدة تعمل ببدائل للكلوروفلوروكربون أو تعدل التكنولوجيا في مصانعها القائمة، فسوف يكلف ذلك مالاً كثيراً.
قلنا إذا كان رجل الأعمال قد اشترى مصنعاً منذ خمس سنوات تنتهي صلاحيته بعد خمس سنوات أخرى، فإن هناك خمس سنوات مفروض أن يعمل خلالها هذا المصنع وينتج. ويستلزم تعديل هذا المصنع تقديم مقابل مادي يتضمن فرق سعر الكلوروفلوروكربون عن البديل وقيمة السنوات الخمس المتبقية في صلاحية المصنع. هذا يعني أن نقدم «الكلفة الاضافية» التي يتكبدها صاحب المصنع وليس ثمن المصنع الجديد كله. فإذا كان عمر المصنع الافتراضي قد انتهى، فلا يدفع لصاحبه سوى فرق ثمن بديل الكلوروفلوروكربونات.
هناك ضرورة للمعاونة المالية والفنية من قبل الدول الصناعية للدول النامية إذا أريد لها ان تقلل من إنتاج ثاني أوكسيد الكربون المكافئ، بشرط أن تقوم الدول الصناعية بتخفيض إنتاجها في داخل أراضيها ولا تعتمد أساساً على شراء تخفيضات الدول النامية أو بعض دول الاتحاد السوفييتي السابقة.
لا أحد يريد أن يضع كل البطاقات على مائدة المفاوضات: قضية إنتاج انبعاثات غازات الدفيئة لكل فرد في كل دولة، كمية الانبعاثات منسوبة الى كل دولار ناتج محلي، الإنتاج التراكمي لغازات الدفيئة في كل دولة، البدائل، المعونات المالية والفنية اللازمة. لا بد أن تناقش كل هذه الأمور بجدية وشفافية واستعداد للقاء في منتصف الطريق.
التقى رؤساء الدول والحكومات، وجرت مفاوضات في كوبنهاغن بالدنمارك عام 2009 قدمت فيها وعود ضخمة لم تترجم بعد الى نصوص ملزمة. جاء بعدها لقاء آخر في كانكون (المكسيك) عام 2010، واستمرت المفاوضات في دوربان (جنوب أفريقيا) عام 2011، وفي الدوحة (قطر) عام 2012، وفي وارسو (بولندا) عام 2013. لم يصل المفاوضون الى أي اتفاقات محددة، إنما مبادئ عامة غير ملزمة قانوناً. في دوربان قرروا أن يصلوا الى اتفاق بديل لكيوتو سنة 2015 في مؤتمر باريس، قد يبدأ تنفيذه بعد سريانه سنة 2018. أشك في ذلك.
إن أخطر المشكلات البيئية العالمية وأكثرها تعقيداً هي قضية تغير المناخ. العالم كله بحاجة الى التعاون بصورة غير مسبوقة، واتخاذ قرارات حاسمة بالنسبة إلى عمليات التنمية الاجتماعية والنمو الاقتصادي. يؤسفني أن أقول إن كثيراً من قادة العالم قرروا ألا يقودوا، ألا يتخذوا أية قرارات في هذا الشان.
لا يزال في يدنا أن نتخذ قرارات تحدد مستقبلنا ومستقبل الأجيال القادمة.
أملي كبير أن يفيق قادة العالم الى حجم الأخطار التي تواجه دوله، والى حجم المسؤوليات التي تقع على عاتقهم لإنقاذ بلادهم والعالم.
كادر
الصناعة والبيئة
في بداية الثمانينات، أثار برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) موضوع الإدارة البيئية. وقد وجدتُ أن أهم قطاع يجب أن نحصل على تأييده للإدارة البيئية السليمة هو قطاع الصناعة.
اتصلت بصديق عزيز كان يرأس إحدى شركات الصناعات الكيميائية الكبرى في سويسرا. أخبرته برأيي، فاقتنع به وتحمس له. طلبت منه أن ينظم لي لقاء مع كبار رجال الصناعة في أوروبا وأميركا. وفعلاً عقد اجتماع في واشنطن عاصمة الولايات المتحدة دام ساعات طوالاً. كان رؤساء مجالس إدارات الشركات الصناعية الكبرى لا يزالون يشككون في نياتي عندما طرحت فكرة عقد مؤتمر عن الإدارة البيئية في الصناعة يضم ممثلي الصناعة مع ممثلي الحكومات والمنظمات غير الحكومية، ليعرض فيه أرباب الصناعة وجهة نظرهم بدلاً من الحديث الدائم في ما بينهم.
في نهاية اللقاء اقتنعوا جميعاً بالفكرة. وفوجئت بأنهم صمموا على أن تتحمل الصناعة كل تكاليف المؤتمر، وأن تكون ممثلة بثلث عدد أعضاء المؤتمر ويوزع الثلثان الباقيان مناصفة بين ممثلي الحكومات وممثلي المنظمات غير الحكومية.
عقد المؤتمر في فرنسا تحت اسم «مؤتمر الصناعة الدولية للإدارة البيئية». ودارت مناقشات بناءة، واختفى القلق الذي كان يساور ممثلي الصناعة من مهاجمة المنظمات غير الحكومية لهم.
تكرر انعقاد ذلك المؤتمر بعد ثلاث سنوات. وأصدر كلا المؤتمرين توصيات كانت علامات مضيئة لتقريب وجهات النظر بين الصناعة والحكومات والمنظمات غير الحكومية، من أجل تحقيق جهد مشترك لحماية بيئة العالم وتحسينها والاستخدام الرشيد لمكوناتها من مصادر الثروة الطبيعية.
مذكرات مصطفى كمال طلبه
الحلقة 6: قصة اتفاقية التصحر
الدكتور مصطفى كمال طلبه هو مؤسّس مفهوم «ديبلوماسية البيئة». عمل مع موريس سترونغ على تأسيس برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) عام 1973، ليتولى قيادته كمدير تنفيذي حتى عام 1992. شغل مناصب أكاديمية وسياسية رفيعة في مصر، منها وزارة الشباب ورئاسة الأكاديمية المصرية للبحث العلمي والتكنولوجيا، قبل التحاقه بـ»يونيب». وهو كان الرئيس الأول لمجلس أمناء المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد). عكف الدكتور طلبه خلال السنتين الماضيتين على كتابة مذكراته، وخص مجلة «البيئة والتنمية» بالجزء حول البيئة، الذي ينشر حصرياً في حلقات. في هذه الحلقة يروي مفاوضات اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر
في أعقاب حالة الجفاف التي تعرضت لها أفريقيا جنوب الصحراء خلال الفترة من 1968 الى 1973، طالبت الدول الأفريقية الجمعية العامة للأمم المتحدة بتنظيم مؤتمر عن «التصحر» (desertification). وكانت هذه أول مرة يستخدم فيها هذا المصطلح، ولم يكن له تعريف محدد، غير أن المقصود به كان التعبير عن تدهور الأراضي الذي نتج عن فترة الجفاف الشديد. وافقت الجمعية العامة على ذلك عام 1974، وأناطت ببرنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) الإعداد لعقد المؤتمر.
وطلبت المجموعة الأفريقية أن أكون أنا سكرتيراً عاماً للمؤتمر بصفتي أفريقياً، وكنت آنذاك نائباً للمدير التنفيذي لـ«يونيب».
شكلنا أمانة صغيرة للمؤتمر رأسها زميل عزيز كفء من السودان هو الدكتور جعفر كرار. ودعوت عدداً من كبار الأساتذة من أنحـاء العالــم لتشكيل لجنة استشارية تساعدني في الإعداد للمؤتمر. وقبل هؤلاء الأساتذة طلبي، وعلى رأسهم أخي وصديق عمري المرحوم الدكتور محمد عبدالفتـاح القصاص، إلى جانب الدكتـور جيلبرت هوايت من جامعة أريزونا والدكتور ريد برايسون من جامعة ويسكونسن في الولايات المتحدة والدكتور مارتن هولغيت من المملكة المتحدة وعدد كبير غيرهم، وكلهم ثقات في مجالات تخصصهم.
استمرت هذه اللجنة الاستشارية في اجتماعاتها الدورية أكثر من سنتين، وانتهت الى وضع مشروع برنامج عمل للعرض على المؤتمر، تضمن أمرين أساسيين:
أولاً، تعريف التصحر على أنه انخفاض إنتاجية التربة الى صفر اقتصادياً، بمعنى أن كل ما ينفق على الإنتاج في تلك التربة يكون عائده مساوياً فقط للمنصرف، وأن التصحر يأتي عن طريق سوء استخدام الأرض الزراعية أو استغلالها لغير أغراض الزراعة كإقامة المباني والطرق والمطارات، إضافة الى تأثير الجفاف وشح المياه.
ثانياً، أن كلفة استمرار التصحر هي خسارة قدرها أربعون بليون دولار سنوياً، بينما يكلف تنفيذ البرنامج المقترح للحد من زحف التصحر 2.4 بليون دولار سنوياً.
مشكلة أكبر من إقليمية
عند انعقاد المؤتمر عام 1977 في نيروبي قابلتنا أول صعوبة، وهي أن الدول الصناعية كانت تعتبر التصحر مشكلة إقليمية تخص أفريقيا وحدها. ولما شرح العلماء أن التصحر يصيب أكثر من قارة وأن الغرب ليس بعيداً عن آثاره، اذ يضطر الفقراء والجوعى في أفريقيا الى الهروب منها شمالاً، بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة، ليصلوا الى أوروبا. عندئذ فقط أدركت الدول الصناعية أن المشكلة أكبر من أن تكون إقليمية، ووافقت على استعراض مشروع البرنامج الذي قدمتُه مع اللجنة الاستشارية.
جرت مناقشات جادة وموضوعية، وعدل المشروع طبقاً للملاحظات التي قدمت، وأقر المؤتمر البرنامج المعدل. وفجأة طلب رئيس وفد السودان الكلمة، وكانت السودان ترأس مجموعة الـ 77 أثناء المؤتمر. قال إن مجموعة الـ77 تطالب بإنشاء حساب خاص لمساعدة الدول المتضررة من التصحر على تنفيذ البرنامج الذي أقره المؤتمر. تم ذلك من دون أي تشاور معي بصفتي سكرتير عام المؤتمر وآتياً من دولة نامية متأثرة بالتصحر. طبعاً رفضت كل الدول الصناعية ذلك، وأصدر المؤتمر قراراً ـ حصل على الغالبية بمساندة الدول النامية له ـ بإنشاء حساب خاص. تبرعت تشيلي بمبلغ مئتي ألف دولار للحساب، ولم تتبرع أي دولة أخرى غيرها. استمر الوضع كذلك أكثر من أربع سنوات، حتى اضطررت أن أعرض على مجلس المحافظين في «يونيب» أن يقترح على الجمعية العامة للأمم المتحدة إقفال الحساب. ووافق المجلس ثم الجمعية العامة على ذلك.
مؤتمر الأطراف الحادي عشر لاتفاقية مكافحة التصحر، ناميبيا، 2013
إنشاء مرفق البيئة العالمية
استمر «يونيب» في تنفيذ البرنامج الذي أقره المؤتمر، بمساعدات فنية مستمرة من الدكتور محمد القصاص ومالية من الصندوق النحيل للبيئة، الى أن جاء عام 1992 وعقد مؤتمر قمة الأرض في ريو دي جانيرو في البرازيل الذي أقر مبدأ التنمية المستدامة وخطة عمل القرن الحادي والعشرين (Agenda 21). وفُتحت اتفاقيتان للتوقيع أثناء المؤتمر: اتفاقية تغير المناخ واتفاقية التنوع الحيوي. وأوصى المؤتمر الجمعية العامة للأمم المتحدة ببدء المفاوضات من أجل الوصول الى اتفاقية لمواجهة التصحر. وفعلاً شكلت الجمعية العامة أمانة فنية لتلك المفاوضات كان مستشارها الفني مرة أخرى الدكـتور القصاص، الى أن تم اعـداد اتفاقيـة التصحـر.
أنشئ مـرفق البيئـة العالمية (GEF) عام 1992 ليصبح مصدر تمويل المساعدات للدول النامية من أجل تنفيذ اتفاقتي تغير المناخ وحماية التنوع البيولوجي، اضافة الى دعم مشاريع المياه الدولية ومعاونة دول الاتحاد السوفياتي السابق التي لا يشملها التمويل من صندوق بروتوكول مونتريال. تم إنشاء المرفق بعد مشاورات مضنية بين رؤساء البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة. وفشلت خلال تلك المشاورات في ضم موضوع تدهور الأراضي الى الأنشطة التي يمولها المرفق، اذ لم يكن هناك أي اتفاقية ملزمة بعد لمكافحة التصحر.
عند إقرار اتفاقية التصحر، لم تطلب الدول التي أقرتها أن يكون مرفق البيئة العالمية هو مصدر تمويل تنفيذ الاتفاقية، ربما على أمل إنشاء صندوق خاص لذلك على نسق صندوق اتفاقية مونتريال.
استمر تنفيذ اتفاقية التصحر بصورة ضعيفة جداً حتى عام 2002، حين عقد مؤتمر قمة التنمية المستدامة في جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا. هناك استطعنا، بجهد خارق، إضافة «اتفاقية التصحر» الى القضايا التي يمولها مرفق البيئة العالمية. وقد سبق التصحر الى هذا التمويل اتفاقية الملوثات العضوية الثابتة (POPs).
مصطفى كمال طلبه (الرابع من اليمين جلوساً) ومحمد القصاص (السادس من اليمين) مع أعضاء مجلس أمناء المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ومؤلفي تقرير المنتدى حول تحديات البيئة العربية، خلال المؤتمر السنوي للمنتدى في المنامة عام 2008
مؤتمرات المياه والمستوطنات البشرية والغذاء والسكان والمرأة
عقد في العام 1977، بعد مؤتمر التصحر، مؤتمر الأمم المتحدة للمياه في مدينة ماردل بلاتا في الأرجنتين. وصدرت عنه خطة عمل، ولكن لم تُنشأ أي منظمة جديدة للإشراف على تنفيذها.
وفي العام ذاته عقد مؤتمر المستوطنات البشرية في مدينة فانكوفر في كندا، وأصدر خطة عمل، واقترح إنشاء هيئة جديدة في الأمم المتحدة لتنفيذها. أقرت الجمعية العامة خطة العمل، وأجلت اتخاذ قرار بشأن كيان جديد للإشراف على تنفيذها الى العام 1978 حين قررت إنشاء مركز الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (Habitat). ضم المركز الجديد مؤسسة المستوطنات البشرية التي أنشأها «يونيب» في بداية عهده خلال فترة رئاسة موريس سترونغ، ومركز بحوث البناء والإسكان الذي كان جزءاً من الأمانة العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
أنشئ «هابيتات» واختيرت له نيروبي مقراً. جاء ذلك في الفترة التي كنا ننشئ فيها المبنى الجديد للأمم المتحدة في نيروبي، وأقيمت له مكاتب مماثلة لمكاتب «يونيب».
سبق هذه المؤتمرات الثلاثة مؤتمر الغذاء العالمي الذي عقدته منظمة الأغذية والزراعة عام 1974، ثم جاء مؤتمر التصحر ومؤتمر المياه، ثم مؤتمر السكان ومؤتمر المرأة. وأظهرت كل التقارير التي حللت تلك المؤتمرات أن مؤتمر التصحر كان أفضلها جميعاً في الإعداد العلمي. كان هذا بفضل تلك النخبة المتميزة من العلماء الذين قبلوا دعوتي بطلب المعاونة منهم في الإعداد للمؤتمر، وبفضل المتابعة المستمرة لأخي المرحوم الدكتور محمد القصاص.
شخصيات في حياتي
مر بي في حياتي آلاف من البشر من مختلف الجنسيات والمستويات. أعتقد أنه يصعب على أي إنسان أن يذكر كل من قابله، خاصة اذا تعرض مثلي للعمل الدولي لفترة طويلة وزار والتقى علماء ومحامين ومسؤولين في أكثر من ثمانين دولة.
لكن هناك أسماء تركت موقعاً خاصاً في نفسي، وهناك مواقف مع أشخاص بعينهم لا تمحى من ذاكرتي.
السلطان قابوس
قابلته أكثر من مرة أثناء عملي في الأمم المتحدة. في إحدى الزيارات جلس يشرح لي باستفاضة نظام الأفلاج في عُمان، حيث يتم تجميع مياه الأمطار في مجـارٍ تسير مسافات طويلة لاستخدامها في الري. وعندما علم أنني مغادر السلطنة مباشرة، أصر على أن أقوم بجولة بطائرته الخاصة لأرى الأفلاج قبل سفري. وقد كان.
جوليوس نيريري
هو أول رئيس لتنزانيا بعد الاستقلال. رأسها فترة واحدة وأصر على عدم التجديد. بعد تركي «يونيب» مباشرة دعا الى اجتماع في نيروبي سماه «شيوخ أفريقيا» أو «عقلاء أفريقيا» لمناقشة مستقبل القارة. اجتمعنا وحضر رئيس كينيا في ذلك الوقت دانيال أراب موي، الذي ألقى كلمة الافتتاح وتأهب للخروج. جذبه نيريري من يده وقال له: «اجلس واستمع لآرائنا، واشرح لنا أولاً لماذا ترسل وزراءك يستجدون من الغرب وعندك ثروات ضخمة في بلدك: الغابات والحيوانات التي تؤمّن لك سياحة تأتي بما يفي باحتياجات بلدك».
كان نيريري من الشخصيات الفريدة في أفريقيا.
فاليري جيسكار ديستان
كنت في زيارة إلى أوروبا، وقد طلبت السفارات الفرنسية في كل دولة زرتها أن أزور باريس لأن الرئيس فاليري جيسكار ديستان يريد أن يقابلني. وكان في خضم الدعاية لإعادة انتخابه. ذهبت الى باريس وقابلته، وقال إنه قرر زيادة مساهمة فرنسا في صندوق «يونيب» الى ضعفين. شكرته وخرجت. وجدت الصحافة الفرنسية في انتظاري. سألوني عما تم في الزيارة، وذكرت لهم ما دار. اتضح بعد ذلك أن الإصرار على زيارتي له كان جزءاً من برنامج الدعاية لجذب الفئات المختلفة من الشعب الفرنسي. وكانت زيارتي موجهة الى قطاع الخضر المهتمين بالبيئة. وثبت هذا لأن المساهمة عادت الى ما كانت عليه بعد انتهاء الانتخابات، ولم تتكرر أبداً.
مارغريت تاتشر
درست مارغريت تاتشر الكيمياء، وكانت من أقوى الشخصيات التي قابلتها في حياتي. رأست حكومة بريطانيا ولقبت المرأة الحديدية. تحمست جداً لقضية الأوزون، وعقدت مؤتمراً قبل انعقاد مؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية مونتريال في لندن عام 1990 الذي أقر إنشاء صندوق موقت لمعاونة الدول النامية على تنفيذ الاتفاقية. كان للمؤتمر الذي عقدته أكبر الفضل في تحقيق ذلك.
قابلتها آنذاك، وقالت لي إنها قررت مضاعفة مساهمة بريطانيا في صندوق «يونيب». وتم ذلك، ولم تتغير الزيادة كما حدث مع الرئيس الفرنسي.
مذكرات مصطفى كمال طلبه
الحلقة 7: منظمة دولية في بلد نامٍ
هل نجح «يونيب» باختياره نيروبي مقراً؟
الدكتور مصطفى كمال طلبه هو مؤسّس مفهوم «ديبلوماسية البيئة». عمل مع موريس سترونغ على تأسيس برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) عام 1973، ليتولى قيادته كمدير تنفيذي حتى عام 1992. شغل مناصب أكاديمية وسياسية رفيعة في مصر، منها وزارة الشباب ورئاسة الأكاديمية المصرية للبحث العلمي والتكنولوجيا، قبل التحاقه بـ»يونيب». وهو كان الرئيس الأول لمجلس أمناء المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد). عكف الدكتور طلبه خلال السنتين الماضيتين على كتابة مذكراته، وخص مجلة «البيئة والتنمية» بالجزء حول البيئة، الذي ينشر حصرياً في حلقات. في هذا الجزء الأخير يروي مدى نجاح «يونيب» في أداء مهماته وهو «معزول» في نيروبي عاصمة كينيا ومحروم من التمويل
مدخل مقر "يونيب" في نيروبي
في مطلع القرن الماضي سئل المهاتما غاندي عما اذا كان يرغب في أن تصبح الهند حرة التصرف مثل بريطانيا العظمى، فأجاب: «بالطبع لا. فإذا كانت بريطانيا قد احتاجت إلى نصف موارد العالم لتصبح على ما هي عليه اليوم، فإلى كم عالم تحتاج الهند؟» وكان يعني طبعاً الاستنفاد الضخم لمصادر الثروة الطبيعية في الهند وغيرها من الدول لمصلحة المحتل، أي بريطانيا العظمى في ذلك الحين.
كانت الدول الصناعية منذ إنشاء «يونيب» تردد أن «يونيب» لم ينجح إلا في الاتفاقات الدولية وفشل في أداء دوره التنسيقي بين أنشطة البيئة في منظمات الأمم المتحدة المختلفة، وهو دوره الأساسي طبقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بإنشائه.
كان هناك، ولا يزال، إصرار على أمور ثلاثة تؤسس عليها تلك الدول في ما تقول عن عجز «يونيب» عن أداء رسالته. الأول والأهم هو وجوده في نيروبي بعيداً عن منظمات الأمم المتحدة التي يقوم بالتنسيق بين أنشطتها في مجال البيئة، كما أن ذلك يحرمه من استقطاب العناصر المتميزة من الدول المتقدمة للعمل فيه لأنهم يفضلون أوروبا وأميركا. والثاني، ضعف التمويل الذي حرم «يونيب» من أداء رسالته في التنسيق. والثالث، أنه أنشئ على شكل برنامج وليس منظمة متخصصة.
استمر الضغط منذ 1982، وازداد في الفترة الأخيرة، لتحويل «يونيب» الى منظمة متخصصة على نسق اليونسكو ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة.
كل هذه مغالطات. وأعتقد أن السبب الرئيسي هو عدم رضا الدول الصناعية عن وجود «يونيب» في دولة نامية، وقد يضاف الى ذلك أن الذي أداره لمدة سبعة عشر عاماً شخص من الدول النامية أيضاً. وهذه هي الحقائق:
مستوى العاملين والفشل في التنسيق
نجح «يونيب» من دون شك في رفع الوعي بقضايا البيئة، وخاصة في الدول النامية التي لم تكن فيها وزارة أو هيئة أو جمعية أهلية لحماية البيئة في حزيران (يونيو) 1972 عند عقد مؤتمر استوكهولم للبيئة الإنسانية. أصبح في معظم الدول النامية، إن لم يكن كلها، مؤسسات نشطة وهامة لحماية البيئة، حكومية وغير حكومية.
وانتشر برنامج التعليم البيئي، الذي توصل اليه مؤتمر اليونسكو مع «يونيب» عام 1977 في تبليسي بالاتحاد السوفياتي السابق، على الأسس التي أقرها ذلك المؤتمر في أكثر من 140 دولة.
ونجح «يونيب» في إنجاز عدد ضخم من الاتفاقات الإقليمية والعالمية الناجحة باعتراف الجميع.
حدث كل هذا و«يونيب» في نيروبي. وحدث لأن فيه قيادات قادرة على أعلى مستوى من الكفاءة، من أكثر من 50 دولة من شمال العالم وجنوبه وشرقه وغربه. فالإدعاء بأن الوجود في نيروبي حرم «يونيب» من العناصر المتميزة هو ادعاء باطل.
أما ادعاء أن «يونيب» فشل في أداء وظيفته التنسيقية فهو أكثر بطلاناً من سابقه. فعندما أنشئ «يونيب» ضم تشكيله، بالاضافة الى مجلس المحافظين والسكرتارية والصندوق، مجلساً يسمى «مجلس تنسيق البيئة»، ينبثق عما يعادل مجلس إدارة الأمم المتحدة، أي اللجنة الإدارية للتنسيق (ACC) التي يرأسها أمين عام الأمم المتحدة وتضم مديري اليونيسف والسكان و«يونيب» والمستوطنات البشرية والمنظمات المتخصصة (اليونسكو والأغذية والزراعة والصحة العالمية والعمل الدولية والأرصاد الجوية والطاقة الذرية وغيرها). كانت اللجنة الإدارية تجتمع كل ثلاثة أشهر للتنسيق بين المنظمات والبرامج أعضاء الأمم المتحدة كلها. وكان يسبـق كـل اجتمـاع للجنة الإداريـة اجتماع لكل من مجلس تنسيق البيئة ومجلس تنسيق التنمية، بنفس تشكيل اللجنة الإدارية للتنسيق. كان يرأس الأول مدير برنامج الأمم المتحدة للبيئة والثاني مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. كان هذان المجلسان ينسقان كل أنشطة الأمم المتحدة في مجالي البيئة والتنمية. اذاً، لم تكن عملية التنسيق تتم بواسطة «يونيب» وحده القابع هناك في عزلة في نيروبي كما يدعون.
وبعد إلغاء المجلسين، عند إعادة تشكيل اللجنة الإدارية بواسطة الجمعية العامة للأمم المتحدة، قمنا في «يونيب» بإنشاء لجنة سميناها لجنة «ممثلي المنظمات للموضوعات البيئية». يرأس هذه اللجنة نائب مدير «يونيب» وهو بدرجة أمين عام مساعد الأمم المتحدة وأعضاؤها ممثلون تختارهم المنظمات المعنية من درجة أمين عام مساعد أو التي تليها مباشرة في سلم درجات الأمم المتحدة .
نجحت هذه اللجنة نجاحاً باهراً في تحقيق التنسيق اللازم، ووصلت الى الاتفاق على برنامج البيئة المتوسط المدى (SWMTEP) الذي شمل كل منظمات الأمم المتحدة. كان البرنامج لمدة ست سنوات، استناداً الى أن الخطط المتوسطة المدى في المنظمات المتخصصة كلها تمتد ست سنوات. وكان يتضمن المواضيع والأنشطة التي يتم التركيز عليها خلال تلك المدة طبقاً لرأي «يونيب» وآراء المنظمات الأخرى المعنية. وكل عامين تضع اللجنة برنامجاً تفصيلياً لجميع أنشطة الأمم المتحدة في مجال البيئة، تلك التي ستمولها المنظمات من موازناتها وتلك التي يدعمها صندوق البيئة في برنامج الأمم المتحدة للبيئة.
هذا البرنامج أقرته اللجنة الإدارية (أو مجلس الإدارة) للأمم المتحدة برئاسة الأمين العام، ثم أقره المجلس التنفيذي لـ«يونيب» وأقرته المجالس المعنية في كل المنظمات الأخرى المشتركة فيه.
قبل نهاية السنوات الست بدأنا بإعداد برنامج آخر للسنوات الست التالية. وعند عرضه على اللجنة الإدارية وافقت عليه، ولكنها رفضت أن أتقدم به كمدير «يونيب» الى مجلس محافظيه، وأصرت على أن أقدمه بمذكرة من الأمين العام للأمم المتحدة تفيد بأن اللجنة الإدارية للتنسيق هي التي تتقدم بمقترح البرنامج إلى المجلس.
كان هذا بالنسبة إلي، وأعتقد بالنسبة إلى كل من حولي، قمة النجاح في التنسيق.
أود هنا أن أذكر الجهد الصادق البناء الذي بذله زميل عزيز من الهند في مكتبي في «يونيب» هو نيلام ميراني، الذي كان له دور كبير في إعداد وثيقة النظرة المستقبلية لـ«يونيب» وإدخال قضية التنمية المستدامة وبرنامج البيئة المتوسط المدى للأمم المتحدة.
هل يمكن لأحد بعد ذلك أن يكابر بأن «يونيب» فشل في مهمة التنسيق أو في اجتذاب أفضل العناصر للعمل فيه؟ جاءت بعدي زميلتي إليزابيث داودزويل الكندية مديرة للبرنامج، وألغت لجنة التنسيق الناجحة ولم تشكل بديلاً عنها لمدة خمس سنوات، مما أوقف تكرار فكرة البرنامج المتوسط المدى للبيئة في الأمم المتحدة. وعندما انتخب بعدها صديقي كلاوس توبفر (وزير البيئة الألماني السابق) مديراً للبرنامج، عاد لتشكيل مماثل، ولكن انقطاع خمس سنوات أدى الى تباعد منظمات الأمم المتحدة عن «يونيب». فلم تنجح اللجنة الجديدة في إعادة المياه الى مجاريها.
إذاً، انحسار دور «يونيب» بعد 1992 ليس بسبب بُعده عن مراكز القرار في أوروبا وأميركا، وإنما بسبب قرار فردي أعتبره خاطئاً من قبل المديرة التي جاءت بعدي.
قضية التمويل
أعتقد أن مسألة التمويل كانت من صنع الدول نفسها التي التزمت في استوكهولم بتقديم مساهمات مادية تزداد بانتظام بعد الإنشاء. نكثت هذه الدول بوعودها وأصبحت المساهمات محدودة للغاية. وأعتقد أن الهدف كان تعجيز «يونيب» عن أداء رسالته. ومع ذلك، ومع هذا التقتير الغريب، نجح «يونيب» في تحقيق ما ذكرته لأسباب كثيرة، يأتي في مقدمتها المستوى المتميز للعاملين فيه وإيمانهم الشديد بالقضية التي يدافعون عنها، وتطبيق الأسلوب العلمي والتفكير العلمي في كل أنشطة «يونيب»، اضافة الى الاستعانة بأفضل العلماء على مستوى العالم في تنفيذ البرامج.
التمويل الطوعي هو رهن بقرارات الدول الأعضاء. إن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وهو برنامج أيضاً وليس منظمة متخصصة، يحصل على مساهمات مـن الدول الأعضاء نفسها تصل الى أكثر من بليون دولار في السنة، يمول بها الكثير من أنشطة المنظمات المتخصصة الى درجة قد تصل الى التحكم في وضع تلك البرامج وتنفيذها، بينما يحصل «يونيب» على الفتات. الشيء ذاته ينطبق على تمويل اليونيسف وصندوق السكان. وكلها أجزاء من الأمانة العامة للأمم المتحدة وليست منظمات متخصصة. لقد ضغطت الدول الصناعية لتحويل برنامج الأمم المتحدة للصناعة (يونيدو) الى منظمة متخصصة، ومع ذلك لم يحدث أي تغيير في حجم التمويل، ربما لأن معظم أنشطة المنظمة الجديدة، وقبلها البرنامج، تتم لمعاونة الدول النامية.
لقد طلبت الدول الصناعية مراراً أن أقدم تقريراً الى مجلس المحافظين يحدد كلفة الانتقالات التي تتطلبها عملية التنسيق، بهدف إثبات أن «يونيب» ينفق مبالغ ضخمة على هذه المهمة مقارنة مع التكاليف لو كان في جنيف، كمبرر للمطالبة بنقله الى هناك. كنت أرفق مع كل تقرير بياناً أيضاً بما توفره المنظمة في رواتب العاملين فيها، من المدير التنفيذي حتى أصغر ساع، نتيجة انخفاض تكاليف المعيشة في نيروبي آنذاك، الأمر الذي انعكس على الرواتب طبقاً لنظام الأمم المتحدة. كان الموظف في نيروبي يحصل على راتب يقل عن زميله في الدرجة نفسها في جنيف 30 في المئة على الأقل. وهكذا كان يتضح في كل تقرير أن التوفير في الرواتب أكبر من كلفة الانتقالات.
ظللنا هكذا نلعب لعبة القط والفأر حول التكاليف لسنوات طويلة.
برنامج وليس منظمة متخصصة
أثير هذا الموضوع للمرة الأولى عام 1982 أثناء المجلس التنفيذي الموسع الذي عقد للاحتفال بذكرى مرور عشر سنوات على مؤتمر استوكهولم، بإدعاء أن كيان «يونيب» كبرنامج يحد من قدرته على التنسيق لأن مستواه أقل من مستوى المنظمات المتخصصة. هذا أيضاً ادعاء باطل لا أساس له.
موضوع البيئة ليس موضوعاً قطاعياً كالصحة والعمل والأرصاد الجوية والتعليم والزراعة. إنه موضوع «بين قطاعي» أي لا بد أن يؤخذ في الاعتبار في كل قطاع. يعني هذا أن تحويل «يونيب» الى منظمة، بدلاً من برنامج، يحوله الى قطاع ويحرمه من الدور الأساسي وهو التنسيق بين المنظمات المختلفة. في رأيي هذا ضار وغير مبرر.
هكذا نرى بوضوح أن الأسباب التي تسوقها الدول الصناعية لنقل «يونيب» من نيروبي الى أوروبا أو أميركا، أو لتحويله الى منظمة متخصصة، كلها أسباب واهية لا تصمد أمام المناقشة الموضوعية الشفافة للموضوع.
أسباب نجاح «يونيب»
أنتقل الى ذكر بعض الأسباب التي أعتقد أنها ساهمت في نجاح «يونيب» على رغم صغر حجمه وقلة التمويل:
● كان المناخ العالمي عند إنشاء «يونيب» عام 1972 مهيأً للتعاون الدولي، وخاصة في وجود قطبين عالميين هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وكل منهما يسعى الى استقطاب أكبر عدد من الدول عن طريق الاستجابة لاحتياجاتها.
● نجح «يونيب» فعلاً في أن يستند الى العلم. وقد ساعدني في ذلك أنني كنت أستاذاً جامعياً له مدرسته العلمية وبحوثه المنشورة. كنت أدعو عدداً من كبار المستشارين لمناقشة مختلف المواضيع التي يعالجها «يونيب». كانوا من أعلى المستويات في العالم. لم يحضر أي منهم استجابة لدعوة مدير منظمة أو برنامج، بل استجابة لدعوة زميل لهم يقدرون إنتاجه العلمي. وكان لمشوراتهم أكبر الأثر في تحقيق الكثير من النتائج التي حصل عليها «يونيب».
● إنني أؤمن بالعلاقات الشخصية، وقد توثقت هذه العلاقات بيني وبين عدد من رؤساء الدول والأمراء ورؤساء الحكومات، إضافة الى الرئيس موي ونائبه في كينيا. كما توثقت علاقاتي مع عدد كبير من وزراء البيئة المتتابعين. وساهم هذا بلا شك في الوصول الى أسس لحلول وسط يقبلها الجميع. إضافة الى ذلك، كانت علاقاتي حميمة مع عدد كبير من مديري منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، وكذلك كبار رجال الصناعة.
● اتبع «يونيب» في إعداده للمفاوضات مبدأ عدم الانحياز. وفي الوقت ذاته لم نقف موقف المتفرج في المفاوضات. كان لنا رأي ندافع عنه، سواء في مواجهة الدول الصناعية أو الدول النامية، وكنا نسعى لإيجاد الحلول التوفيقية.
● الإيمان بالقيادة الجماعية في المنظمة أدى دوراً مهماً. كانت هناك لجنة للإدارة تضم مساعدي أمين عام الأمم المتحدة الذين يعـاونونني في «يونيب»، ومديري الإعلام والعلاقات العامة، وعدداً من الشباب العاملين في البرنامج، تجتمع في لقاءات دورية لمناقشة كل ما يجري في المنظمة.
● التأكيد الشديد على ضرورة التمثيل المتوازن للدول الصناعية والنامية من مختلف المجموعات الإقليمية بالعاملين في المنظمة.
● الاعتماد بصورة كبيرة على المشاورات غير الرسمية في كل نشاط كنا نقوم به، بما في ذلك اجتماعات مجلس المحافظين.
● الاعتداد بقيمة البرنامج ودوره، مع الإيمان تماماً بأنه كيان صغير لا يمكن أن يصل الى حجم المنظمات الكبرى كاليونسكو والصحة العالمية والأغذية والزراعة وغيرها.
مديرو "يونيب" التنفيذيون الأوائل (من اليسار): موريس سترونغ، مصطفى كمال طلبه، إليزابيث داودزويل، كلاوس توبفر
وقد كانت العلاقات الشخصية التي تجمعني مع مديري المنظمات المتخصصة في الأمم المتحدة غاية في الحميمية.
لم يكن لنا هدف محدد مثل منظمة الصحة العالمية بالقضاء على مرض شلل الأطفال في فترة معينة، أو زيادة الإنتاج الغذائي بنسبة معينة في زمن محدد كما تسعى منظمة الأغذية والزراعة. ولكن كان عندي وعند كل زملائي في البرنامج إيمان واضح بأن دورنا هو حماية البيئة: الحد من تلوث الماء والهواء والمحافظة على الثروات الطبيعية وإيجاد بيئة إنسانية أفضل باستمرار.
في النهاية، أود أن أؤكد أنني تعلمت الكثير في تلك الفترة التي قضيتها في «يونيب»، سواء في قطاعات العمل التي ليس لي معرفة بها كالقانون والاقتصاد أو في النواحي العلمية التي تبعد عن تخصصي كباحث. تعلمت كل هذا من زميلاتي وزملائي في البرنامج وخبراء من كل دول العالم كنت ألتقي بهم بصفة دورية، أناقشهم وأتعلم منهم. كما التقيت بالكثيرين في كل المفاوضات التي أشرف عليها «يونيب». تعلمت منهم جميعاً أبعاداً كثيرة لمفهوم التعاون الدولي وأساليب تحقيقه.
أنا أعلم أن الأمم المتحدة متهمة بأنها طاحونة كلام. قد يكون هذا صحيحاً بالنسبة إلى الجمعية العامة والمؤتمرات الدولية التي تنظمها والتي تتكرر فيها الخطب العصماء والإعلانات الرنانة من دون تنفيذ أو حتى تحديد أسلوب للتنفيذ. ولكن منظمات الأمم المتحدة المتخصصة وبرامجها هي مدارس عالية المستوى لمن يريد أن يستزيد علماً في مجالات أوسع كثيراً من تخصص أي منا.
------------------------------------------------------