من المتوقع أن تكون لتغير المناخ تأثيرات دراماتيكية على الإنتاج الزراعي عالمياً. وعلى رغم أن إنتاج الغذاء في بعض بلدان العالم قد يتحسن مع ارتفاع معدل درجات الحرارة، فإن معظم بلدان العالم ستواجه تحديات خطيرة في تكييف النظم الزراعية مع التغيرات المناخية المتوقعة.
وستكون المنطقة العربية من الأكثر تأثراً، إذ يقدر أن تنخفض المتساقطات بنسبة 25 في المئة وأن يزيد التبخر بنسبة 25 في المئة قبل سنة 2100. وإضافة إلى ارتفاع معدل درجات الحرارة، سوف تؤثر موجات الجفاف وارتفاع ملوحة التربة على الإنتاج الزراعي والغذائي. والزراعة تعتمد بشكل كبير على المناخ ولذلك تؤثر التغيرات في الأحوال المناخية على غلال المحاصيل المخصصة للإنتاج الغذائي.
يشدد التقرير التقييمي الأخير للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) على التأثيرات الخطيرة لتغير المناخ على الإنتاج الغذائي. الأمن الغذائي في خطر وطرق الإنتاج الغذائي يجب أن تتكيف مع تغير المناخ من أجل الحفاظ على مستويات كافية من الإمدادات الغذائية. وبالمقارنة مع جميع التأثيرات الأخرى لتغير المناخ، فالأمن الغذائي هو الأكثر تعرضاً للخطر في المناطق الأكثر حساسية. وسبب ذلك جزئياً أن هذه المناطق، بما في ذلك جنوب الصحراء الأفريقية وأجزاء من آسيا والعالم العربي، تواجه حالياً مناخات أدفأ وأجف وتعاني من موجات جفاف أو فيضانات أكثر من مناطق أخرى من العالم.
وهناك سبب مهم آخر لازدياد تأثر هذه المناطق بالمقارنة مع العالم المتقدم، هو الافتقار لقدرة التكيف. وما لم يتم تطوير وتنفيذ استراتيجيات تكيف فعالة، فإن الانخفاض في المحاصيل الزراعية والإنتاج الغذائي يمكن أن يتسبب في جعل ملايين أخرى من الناس تواجه انعدام الأمن الغذائي. وقد قدر برنامج الغذاء العالمي أن عدد الأشخاص المعرضين للجوع وانعدام الأمن الغذائي سوف يزداد بنسبة تراوح بين 10 و20 في المئة بحلول سنة 2050 نتيجة تغير المناخ.
بذور مقاومة للجفاف
الزراعة في العالم العربي حساسة بشكل خاص لتغير المناخ. وكما يوضح تقرير المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) حول الأمن الغذائي، تعاني البلدان العربية غالباً من مناخات قاحلة مع ارتفاع في درجات الحرارة وانخفاض في مستويات المتساقطات. وإضافة إلى ذلك، فإن القدرة التكيفية غير كافية حالياً للتعامل مع هذه التحديات. والافتقار الى المياه مشكلة خاصة للزراعة في العالم العربي.
ويتم استنباط استراتيجيات تكيف في الميدان الدولي قد تساهم في تكييف الزراعة مع تأثيرات تغير المناخ ومعالجة مشاكل انعدام الأمن الغذائي. ومن هذه الاستراتيجيات تطوير واستعمال بذور مهندسة وراثيـاً أُعدت للتكيف مع أحوال مناخية معينة.
منذ آلاف السنين، تكيف المزارعون مع تغيرات في المناخ من خلال عملية اختيار البذور. على سبيل المثال، يتم حفظ بذور المحاصيل التي يمكن أن تنمو بقليل من المياه، ويعاد زرعها أثناء فترات الجفاف. لكن عملية الاختيار والاستيلاد الطبيعيين هذه هي عملية بطيئة، وربما تستغرق البذور المناسبة سنوات أو حتى عقوداً لكي تغل محاصيل كافية بالشكل المناسب. وقد ركزت التكنولوجيا الحيوية الزراعية، وخصوصاً الهندسة الوراثية، في السنوات الأخيرة على تطوير بذور ومحاصيل تتحمل الضغوط المناخية. والمقصود من استعمال تقنيات الهندسة الوراثية تسريع عملية الاختيار الطبيعـي، وهي تمكن من نقل سلالات وراثية معينة من بذرة الى أخرى، بهدف تطوير بذور ذات سلالات مقاومة.
عمدت كبرى شركات البذور في العالم، بما فيها مونسانتو وسنجنتا ودوبون وباير وBASF، الى تركيز جهودها البحثية على تطوير بذور مقاومة للجفاف، نظراً الى أن المياه من العوامل الرئيسية المحددة للزراعة. ويتم تقديم البذور التي تتحمل الضغوط المناخية كاستراتيجية تكيف مع تغير المناخ. على سبيل المثال، يمكن للبذور التي تتم هندستها وراثياً لتحتاج محاصيلها الى مياه أقل أن تكون مفيدة في الحفاظ على إنتاج غذائي كاف خلال فترات الجفاف. وبالنسبة إلى البلدان العربية التي تسود فيها مناخات جافة وتعاني زراعتها من تأثيرات تغير المناخ، فإن هذه البذور التي تتحمل الضغوط المناخية قد تثبت أنها أداة تكيف مفيدة جداً.
كثير من الحكومات وصانعي السياسة والشركات وحتى منظمات المجتمع المدني باتت تروج بشكل متزايد لاستعمال التكنولوجيا الحيوية وخصوصاً الهندسة الوراثية في الزراعة. وتعتبر تأثيرات تغير المناخ غير مسبوقة وخطيرة إلى درجة تتطلب البحث عن تدابير تكيف جديدة وأكثر فعالية تتعدى تقنيات الاستيلاد التقليدية. ولكن على رغم الأمل بصمود البذور التي تتحمل الضغوط المناخية وتتم هندستها وراثياً، فهناك أيضاً انتقادات ضد استخدامها كاستراتيجية تكيف مع تغير المناخ. وتدعي الأصوات الناقدة أن شركات البذور الكبرى تستغل الأزمات المناخية والغذائية لتحقيق مكاسب تجارية. فمجموعة ETC، وهي من منظمات المجتمع المدني المؤثرة، وصفت ترويج «البذور الجاهزة لتغير المناخ» من قبل الشركات بأنه «استغلال مناخي».
هل تنتج محاصيل أكثر؟
تواجه البذور التي تتحمل الضغوط المناخية انتقادات متعددة الأشكال. فبعض العلماء يجادلون بأنه لم يثبت أن هذه البذور تنتج محاصيل أكثر من البذور التي تتم هندستها لا وراثياً. فمثلاً، اعتبر «اتحاد العلماء المهتمين» أن بذور الذرة المقاومة للجفاف لم يثبت أنها تنتج محاصيل أكثر من بذور أصناف أخرى من الذرة. ويؤكد العلماء أنه من الصعب جداً تطوير سلالات من البذور تتحمل الضغوط المناخية، نظراً لتعقيد هذه السلالات الوراثية. كما يجادلون بأنه من شبه المستحيل تطوير مقاومة ضد أحوال مناخية مثل الجفاف، وسبب ذلك أساساً أن الأحوال المناخية لا يمكن التنبؤ بها. فكل حادثة جفاف تختلف عن حادثة الجفاف التالية، وتطوير مقاومة ضد إحداها لا يضمن المقاومة ضد الأخرى.
ومن الانتقادات أيضاً أن شركات البذور تركز أبحاثها على المحاصيل الرائجة تجارياً، مثل الذرة، وهي ليست بالضرورة المحاصيل اللازمة لإطعام العالم النامي. وفي المنطقة العربية، الرز من المحاصيل الرئيسية، لكن إنتاجه يتطلب مقداراً كبيراً من المياه. وبدلاً من الرز الذي تتم هندسته وراثياً لكي يكون قادراً على النمو بقليل من المياه، قد يكون من المفيد أكثر التحول الى إنتاج محاصيل أخرى تتطلب طبيعياً مياهاً أقل. وهناك انتقاد إضافي هو أن البذور التي تتم هندستها وراثياً وتتحمل الضغوط المناخية غالباً ما ترخص لها شركات البذور ببراءات. وبما أن ما تقوم به من أبحاث وتطوير يحتاج الى استثمارات كبيرة، يُنظر إلى الحقوق الممنوحة ببراءة على أنها مكافأة وحافز لتلك الشركات.
لكن الحقوق الممنوحة ببراءة تمنع غالباً وصول السكان المتأثرين إلى البذور، إذ أنهم غير قادرين على تحمل دفع تكاليف الحصول عليها. لذلك فإن الانتقاد ليس موجهاً في المقام الأول ضد تطوير هذه البذور بذاتها، بل الى مسألة قدرة هذه البذور على التحمل ووصولها الى مزارعين «من غير الشركات».
قد يكون الانتقاد الأساسي للبذور التي تتحمل الضغوط المناخية، كاستراتيجية لتكييف الزراعة مع تغير المناخ والحؤول دون انعدام الأمن الغذائي، هو التشكيك في ما إذا كانت زيادة الإنتاج الغذائي التي تحققها كافية. وإذا كانت البذور التي تتحمل الضغوط المناخية قـادرة على زيادة الإنتاج الغذائي في مواجهة تغير المناخ، فهل يكون السكان الأكثر تعرضاً لانعدام الأمن الغذائي والذين يحتاجون بإلحاح إلى هذه البذور قـادرين على الاستفادة منها؟ إن الأمن الغذائي يعتمد ليس فقط على توافر غذاء كاف، وإنما أيضاً على الوصول الكافي إلى الغذاء. وإذا تم تطوير البذور التي تتم هندستها وراثياً لتتحمل الضغوط المناخية، فإن السكان في العالم العربي قـد لا ينتفعون من أداة التكيف هذه إذا عجز المزارعون عن تحمل نفقات هذه البذور.
إطار قانوني أيضاً
تحمل البذور التي تتم هندستها وراثياً لتتحمل الضغوط المناخية أملاً كبيراً وجدلاً كبيراً في آن. وبإمكانها أن تقدم مساهمة قيمة في تكييف الزراعة حول العالم مع تأثيرات تغير المناخ ومحاربة انعدام الأمن الغذائي. ولكن في الوقت ذاته، يجب أخذ الانتقادات على محمل الجد. هذه المعضلة تنطبق على جميع استراتيجيات التكيف مع تغير المناخ وتقدم تحديات صعبة الى صانعي السياسة.
إن تأثيرات تغير المناخ تطاول المجتمع على مستويات مختلفة، بيئية واجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية وسواها، والحلول الممكنة يجب أن تأخذ جميع هذه الأبعاد في الحسبان. ويجب أيضاً أخذ الإطار القانوني في الحسبان. فالقانون الدولي المعني بالتكيف مع تغير المناخ، والحقوق التي تمنح ببراءات، وحقوق الإنسان في شكل الحق في الغذاء، والقوانين الإقليمية والمحلية، هي جميعاً وثيقة الصلة بالموضوع في نقاشات حول البذور الجاهزة لتغير المناخ.
كيف يمكن استعمال هذه القوانين على أفضل وجه لتحقيق نتائج التكيف الأكثر فعالية؟ الأمر ليس واضحاً دائماً. ولكن قد يكون تحديد التعقيدات والاعتراف بها منطلقاً جيداً.
الدكتورة آن صعب أستاذة القانون الدولي في المعهد العالي لدراسات التنمية في جنيف، سويسرا.