بثلاث كلمات لاتينية بسيطة cogito, ergo sum أي «أنا أفكر، إذاً أنا موجود»، أسس الفيلسوف والعالم الرياضي الفرنسي رينيه ديكارت قبل نحو 400 عام مدرسة فلسفية رسمت معالم العلم الحديث. النتيجة المنطقية لهذه الفلسفة انعكست في إنجازات حضارتنا التكنولوجية، حتى في هذه الأيام. إن إصرار فكر ديكارت على الحقيقة الفردية، والفصل بين العقل والجسد، والاختزال إلى أجزاء، والتحليل الدقيق المكثف، أتاحت قهر الآفات التقليدية للجنس البشري على نطاق واسع، وهي الحرمان والمرض والموت. ونحن الآن بصدد مواجهة تحديات أكبر، بما في ذلك أساس الوجود والفضاء والزمن.
ديكارت، ربما أكثر من أي مفكر آخر، هو الذي تحدد فلسفته كل ما نعني بكلمة «حديث» أو «عصري».
أليس من السخرية إذاً أن هذه الإنجازات التكنولوجية ذاتها خلقت عالماً أصبحت فيه فلسفة العيش نقيض الفرضية الديكارتية؟ اليوم، بعد أربعة قرون قصيرة على إبداعات ديكارت الفكرية، وبنتيجة نجاحاتها المادية، أصبحت الفرضية النافذة هي: «أنا أملك، إذاً أنا موجود».
اليوم، بالنسبة الى أعداد متزايدة منا، ما نملكه وليس ما نفكر فيه أو من نحن، هو الذي يحدد هويتنا وقيمتنا الذاتية.
وهذه ليست المفارقة الوحيدة في إرث ديكارت. فالاختزالية والمادية في الطريقة الديكارتية هما أيضاً، بشكل مباشر أو غير مباشر، في صميم كثير من إخفاقاتنا البيئية والاجتماعية. إن التركيز الضيق والأحادي البعد للاستقصاء العلمي والعمل الاجتماعي وصنع السياسة أبعدنا عن المنظور الشمولي الذي نحتاج إليه لكي ندير أنفسنا ومواردنا بطريقة مستدامة. لذلك جاءت الردّة القوية: إدراك ضرورة العودة إلى المناهج المتكاملة المتعددة الاختصاصات في الأبحاث والعمل والسياسة.
لكن المفارقة الكبرى في تراثنا الديكارتي، أو بالأحرى في التراث الغربي الديكارتي، تأتي من تعظيمه الضمني للحرية الفردية على حساب عدالة التوزيع. هذا الاختلال في التوازن هو الذي أحدث التباينات الاقتصادية والاجتماعية والتهديدات البيئية والإخفاقات المنهجية، التي ستحد في نهاية المطاف من التقدم غير المحدود الذي وعد به مفهوم «الحداثة».
النزعة الاستهلاكية هي إذاً سبب ونتيجة الإنتاج المتسارع للسلع والخدمات الذي أتاحته براعتنا التكنولوجية. أما الاستهلاك غير المنضبط، حتى عندما تبرره حجج فلسفية أو ارتباك اقتصادي، فلا يؤدي إلى أي مكان، حتى على المدى القصير نسبياً.
التنمية المستدامة هي ببساطة مسألة نمط عيش مستدام. وهي تحتاج الى شيئين فقط: نظم إنتاج مستدامة، وأنماط استهلاك مستدامة.
التنمية لا يمكن أن تكون مستدامة عندما تبنى على إفراط في الاستهلاك أو على نقص فيه. والحجج المناهضة للاستهلاك المفرط يسوقها الآن عدد متزايد من الجماعات السياسية. أن تكون أخضر اليوم يعني أن تكون مناهضاً للنزعة الاستهلاكية الحالية. أما الاستهلاك الناقص فلا ينظر إليه عادة على أنه تهديد واضح للاستدامة، حتى من قبل «الخُضْر»، لكنه يشكل خطراً كبيراً على رفاهية الناس والحياة على الأرض مثل الإفراط في الاستهلاك. وتتكشف تأثيراته من خلال الاقتصاد والسياسة وديموغرافيا الحرمان، وكثيراً ما تؤدي الى أشكال من الدمار الاجتماعي والبيئي.
المفهوم الغربي للحداثة، الذي جلب فوائد وأرباحاً لكثيرين، يزرع الآن بذور دماره ما لم يعدل سريعاً أهدافه واستراتيجياته المجتمعية لتلبية حاجات الجميع وتجديد قاعدة الموارد. وهذا يعني أنه، فيما ينبغي على الأغنياء الحد من شهياتهم للمنتجات والخدمات التي تدمر الطبيعة، يجب أن يتاح للفقراء المزيد من قدرة الوصول الى الأشياء التي تعزز مكانتهم في المجتمع بينما هم يساهمون في تجديد البيئة.
المهم ليس فقط أن نملك المال والموارد، بل أيضاً أن نعرف وأن نفكر: Cogito, ergo sum
أشوك خوسلا رئيس منظمة «بدائل التنمية» DevelopmentAlternatives في الهند. وكان رئيس الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة ورئيس نادي روما. وقد نال تقديرات عالمية، بينها جائزة ساساكاوا البيئية وجائزة زايد الدولية للبيئة. وهـو يكتب سلسلة مقالات خاصـة بـمجلة «البيئة والتنمية».