تواجه أجندات التنمية العربية تحديات ملحة لأن النمو السكاني والاقتصادي السريع يجهد البنية التحتية المادية والقدرات المؤسساتية والموارد الطبيعية. والمياه على وجه الخصوص هي مورد ثمين ومحدود في العالم العربي. ويرتبط رفاه شعوب المنطقة وازدهارها الاقتصادي ارتباطاً وثيقاً بتوافر المياه ونوعيتها. وفي منطقة تعرف بمناخها الجاف وضآلة هطول الأمطار، فإن الاستعمال المتعقل للمياه هو واجب الجميع. وهناك عدد من الاستراتيجيات لادارة استعمال المياه بطريقة مستدامة، لكن أياً منها ليس أهم من التحسين المنهجي للكفاءة.
على رغم الضغط المتزايد على الموارد المائية، ما زال كثير من مستعملي ومدراء المياه غير مدركين للتحسينات العملية والقليلة الكلفة التي يستطيعون ادخالها على كفاءة المياه. وتعاني استراتيجيات تحقيق مكاسب تتعلق بالكفاءة المنهجية للمياه من نقص كبير في القطاعين العام والخاص على حد سواء. وحتى عند تنفيذ برامج كفاءة المياه، لا يعقبه في أحوال كثيرة برنامج تحسينات مستمرة. وأحياناً لا تتم الموافقة على برامج لتحسين كفاءة المياه بسبب النفقات الرأسمالية الأولية المطلوبة للتجهيزات المقتصدة. وعلى رغم أن تعرفات المياه التي تفرض على المستهلكين ضئيلة، فان حسابات العائد على الاستثمار لا تأخذ في الاعتبار الكلفة غير المستدامة التي يتحملها المجتمع والاقتصاد الوطني ككل. ويبدو أن مستهلكي المياه في المنطقة العربية فاتهم أن المياه التي تقدم لهم يتم انتاجها وتوصيلها بكلفة عالية، مادياً وبيئياً، ما قد لا تستطيع الأجيال المقبلة تحمله. وقبل أن يتم تخطيط المشاريع الكبرى لضمان امدادات المياه، ينبغي على المجتمعات العربية أن تشجع ثقافة استعمال حكيم للمياه للتقليل من الهدر غير الضروري لهذا المورد.
في العام 2010، وضع المنتدى العربي للبيئة والتنمية استدامة المياه في صلب عمله، متوجاً ذلك باصدار تقرير يتناول الادارة المستدامة للموارد المائية، ويتوجه الى تعديل السياسات المائية على نحو ملائم. واعترافاً بأهمية التدابير المتعلقة بادارة الطلب، انتج المنتدى أيضاً «دليل كفاءة المياه» (أنظر الإطار) لزيادة قدرة المنازل والمؤسسات على أن تصبح مقتصدة باستعمال المياه. ويستهدف الدليل مستعملي المياه في جميع قطاعات المجتمع الرئيسية ـ صناعة وزراعة وأبنية سكنية وتجارية.
وللتحفيز على القيام بتغييرات وممارسات سلوكية على الأرض، صمم المنتدى مجموعة من ورش العمل هدفها مساعدة الجهات الفاعلة المحلية في تحديد فرص لزيادة كفاءة استعمال المياه. ورشة العمل النموذجية التي تتكون من عروض وتمارين تفاعلية وعمليات تدقيق للمياه في الموقع، مصممة لتكملة دليل كفاءة المياه الذي أنتجه المنتدى عام 2010. وقد أقيمت ورشة كفاءة المياه الأولى في الرياض من 1 الى 4 أيار (مايو) 2011، وتم تنظيمها بالتعاون مع وزارة المياه والكهرباء في المملكة العربية السعودية، وبرعاية أكوا باور، وهي شركة رائدة في مجالي المياه والطاقة. أدار الورشة الدكتور مورات ميراتا، المستشار الدولي وأستاذ زميل في جامعة لوند وبشار زيتون مدير البرامج في «أفد».
حضر ورشة العمل مندوبون من وزارة المياه والكهرباء ولجنة المياه والأشغال العامة في مجلس الشورى السعودي، فضلاً عن ممثلين رفيعي المستوى من جهات معنية مختلفة، بما فيها المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة وجامعة الملك خالد وصندوق التنمية السعودي وشركة أكوا باور وشركة مويا بشناق ومجموعة التركي وشركة التشغيل والصيانة في الجبيل وشركة نستله للمياه.
تركزت نشاطات ورشة العمل على تحقيق الأهداف الآتية:
ـ زيادة الوعي حول أهمية التعامل بمنهجية مع تحدي كفاءة المياه.
ـ بناء القدرة حول كيفية تحسين كفاءة المياه.
ـ تعزيز الفهم حول تدابير كفاءة المياه في ما يخص القطاعات الرئيسية، بما فيها الصناعة والأبنية السكنية والتجارية.
ـ اطلاق ومراقبة جهود المشاركين لتطوير برامج تتعلق بكفاءة المياه داخل مؤسساتهم.
ـ اجراء تدقيقات تمهيدية تتعلق بكفاءة المياه في المرافق التابعة لأعضاء المنتدى.
ـ تعزيز رؤية حول أفضل الممارسات ونشرها على نطاق واسع.
ـ جمع الجهات المعنية بكفاءة المياه وغرس بذور التعاون.
ـ استكشاف امكانات تطوير المزيد من البرامج التدريبية الشاملة للأفراد الذين يطمحون الى أن يصبحوا خبراء مهرة في كفاءة المياه.
وهنا وصف للمواضيع التي اشتملت عليها ورشة كفاءة المياه ولتدقيقات المياه التي أجريت خلالها.
ورشة كفاءة المياه في الرياض: الهيكلية والنشاطات
اليوم الأول: الكفاءة المنهجية للمياه ـ الجزء 1
ركز برنامج اليوم الأول على زيادة الوعي حول التعامل بمنهجية مع كفاءة المياه. الرسالة الرئيسية التي أُبلغت للمشاركين هي أن مقاربة منهجية تعدّ ضرورية لضمان نجاح مبادرة كفاءة المياه وجني أكبر عائد ممكن على الاستثمار. وتم التشديد أيضاً على أن اشراك الناس ودمج مفهوم كفاءة الطاقة في الثقافة المؤسساتية يؤديان أدواراً رئيسية في استمرار ونجاح برامج كفاءة المياه. ودُعي المشاركون بعدئذ الى تشكيل مجموعات صغيرة لمناقشة العوائق التي تحد من تحسين كفاءة المياه. وقدمت كل مجموعة عرضاً قصيراً للنتائج التي توصلت اليها الى المجموعة الأكبر. وخلال النقاش الذي تلا ذلك، برز اجماع على أن عدم وجود أسعار معقولة للمياه وقواعد تنظيمية ووعي جماهيري فعال وحملات تثقيفية هي من العيوب الهيكلية الرئيسية التي تمنع خلق حوافز لاستعمال المياه بمزيد من الكفاءة. وقد تم تحديد انعدام المراقبة، وانعدام المعرفة حول الكلفة الحقيقية للمياه وتصريف المياه المبتذلة، وانعدام المسؤولية عن كفاءة المياه، من جهة أخرى، على أنها عوائق رئيسية داخل المؤسسات والمنازل تحد من كفاءة المياه. ومن الأفكار التي طرحت إبلاغ المستخدمين بالقيمة الفعلية لكلفة انتاج المياه وتوصيلها، وذلك على الفاتورة نفسها التي ترسل اليهم بالسعر المدعوم، بغية معرفة القيمة الحقيقية والتشجيع على الكفاءة.
وبناء على نقاش المجموعة السابقة، قدم قائد ورشة العمل إطاراً عاماً لمباشرة وتنفيذ وتعزيز برنامج لكفاءة المياه منهجياً. واشتمل الاطار على تنفيذ دوري لعملية من خمس مراحل، كما هو مبين في الشكل 1. وفي مرحلة اعادة النظر والتخطيط، الهدف هو تطوير فهم عام حول ديناميات استعمال المياه. هنا يتم تحليل كميات ونوعيات المياه التي تستعملها وتصرفها نشاطات مختلفة، والتكاليف المتعلقة بالمياه، وروتين المراقبة. وتستعمل النتائج لوضع خطة ذات أهداف محددة ومسؤوليات واحتياجات تتعلق بالموارد وأطر زمنية. ثم تُبلغ الخطة الى صانعي قرار رئيسيين وعمال مساعدين ومقيمين لضمان الالتزام بالبرنامج. ولدى تحديد خيارات التحسين تتم دراسة نشاطات استعمال المياه بمزيد من الدقة وبتفصيل أكبر. وتقرر أن خيارات التحسين يجب تحديدها وفق التسلسل الهرمي المبين في الشكل 2، الذي يعطي أفضلية قصوى للاجراءات الوقائية التي تمكن من تجنب استعمال المياه وتخفيضه، ويقدم ارشادات مفيدة لتحديد أولويات خيارات التحسين المبنية على طبيعتها. وفي مرحلة تحديد الأولويات والتنفيذ، يتم تحليل الخيارات المحددة في ما يتعلق بفوائدها وتكاليفها ذات الصلة، لاختيار تلك التي توفر أعلى الفوائد بأدنى كلفة أو مخاطر، والتي يجب تنفيذها على المدى الأقرب. وتشمل المرحلة الأخيرة من الاطار مراقبة ومراجعة الاجراءات المنفذة من أجل ضمان تأديتها لوظيفتها حسب الأصول واتخاذ الاجراء التصحيحي عند الضرورة. ويقتضي الاطار أن يستمر العمل المتعلق بكفاءة المياه من خلال العودة الى المرحلة الأولى لتحديد وتنفيذ التدابير الاضافية.
ثم عرض قائد الورشة أدوات تطبق عموماً وتساعد برامج كفاءة المياه، وهي أيضاً مبيَّنة بالتفصيل في دليل كفاءة المياه الصادر عن المنتدى. الأدوات المذكورة هنا تتعلق بالمساعدة في انتاج البيانات الضرورية، أي القياسات (الشكل 3)، وتحليل البيانات المجمَّعة وإبلاغها، أي أدوات الابلاغ البصرية مثل مخططات التدفق أو رسوم سانكي البيانية (الشكل 4)، واجراء التقييمات المالية الضرورية، واشراك الناس وتحفيزهم.
اختُتم اليوم الأول بعرض تدابير محددة لكفاءة المياه تتعلق بالأبنية، بما فيها الأبنية السكنية وكذلك الأبنية المؤسساتية والتجارية مثل المدارس والمستشفيات ومراكز التسوق والأبنية المكتبية والمساجد والفنادق والمطاعم. استهدفت تدابير كفاءة المياه التي تمت مناقشتها الاستعمالات الرئيسية للمياه في الأبنية، بما فيها مرشات وأحواض الاغتسال والمراحيض والمطابخ وغسالات الملابس ونظم التدفئة والتهوئة وتكييف الهواء وتحسين المناظر الطبيعية.
اليوم الثاني: الكفاءة المنهجية للمياه ـ الجزء 2
في اليوم الثاني، عُرضت على المشاركين تدابير محددة تتعلق بكفاءة المياه في المرافق الصناعية. وأُدرجت نشاطات استعمال المياه الرئيسية على أنها التدفئة والتبريد، وعمليات الانتاج، وغسل المنتجات، وتنظيف المعدات والأماكن المكشوفة، والنشاطات المنزلية، وتم توضيح التدابير الخاصة بهذه المجالات. وتراوحت التدابير التي تم التطرق اليها من اجراءات قليلة الكلفة تتعلق بالسلوكيات والتخطيط الى تجهيزات تكنولوجية اقتصادية أكثر كلفة أو تغييرات في المنتجات.
ذُكر، على سبيل المثال، أنه من خلال تخطيط أفضل لجدول انتاج المنتجات المختلفة، يمكن تخفيض احتياجات التنظيف، وبالتالي كمية المياه اللازمة. وعلى مستوى مختلف، ذُكر أن هناك امكانية كبيرة بأن يخفض الغسل بالتيار المعاكس المياه المستهلكة لغسل المنتجات، بينما في الوقت ذاته يوفر أيضاً نتائج غسل أفضل.
ثم طُلب من المشاركين تطبيق المفاهيم التي تم تعلمها في ورشة العمل واستخدام الأدوات المتوافرة لتطوير ومناقشة وتقديم برامج كفاءة المياه التي يمكن تصميمها في أماكن عملهم. وعقد قادة ورشة العمل اجتماعات تشاورية وجيزة لتوجيه المجموعات حول تطوير برامجها. وتم تشجيع المشاركين على تبادل الأفكار التي يبديها أعضاء في مجموعاتهم. وقدم عدد من المشاركين نتائج عملهم الى المجموعة الأكبر وتسلموا ردهم وملاحظاتهم.
اليومان الثالث والرابع: تدقيقات مائية في الموقع
في اليومين الثالث والرابع، نُظمت زيارات الى ثلاثة أبنية مؤسساتية في الرياض، لاجراء تدقيقات تمهيديـة لبرامـج كفـاءة الميـاه. وقبل مباشرة التدقيقات، زار المشـاركون المـركز التعليمي الذي اقامته وزارة المياه والكهرباء السعودية، وأتيحت لهم الفرصة لمشاهدة الميزات التشغيلية وامكانات التوفير في التجهيزات المقتصدة بالمياه المتوافرة للمنازل.
فيما تساعد هذه المشاورات مدراء الأبنية في الاستفادة على أفضل وجه من دليل كفاءة المياه الصادر عن المنتدى، فقد وفرت معلومات متخصصة لتحسين كفاءة المياه في هذه المرافق المختارة. ولمساعدة التمرين، أُرسلت استمارات البيانات الى مدراء الأبنية لجمع المعلومات الأساسية حول المرفق المختار قبل اجراء التدقيق المائي.
بدأت كل مرحلة سابقة للتدقيق باجتماع قصير مع مدير المبنى لمعرفة كل ما هو ممكن عن استعمال المياه وادارتها في المبنى. هذه الاجتماعات تساعد المدققين في تكوين فهم حول معدلات استهلاك المياه، والبنية التحتية لمراقبة المياه، وبرامج الكفاءة المعمول بها، ومصادر المياه، وتفاصيل استعمال المياه، وأي تسرب مائي محتمل. ثم أعقبت الاجتماع معاينة المرافق الموجودة في المبنى التي تستهلك المياه لتدوين ملاحظات حول أنماط استعمال المياه. وتم ابلاغ النتائج الرئيسية لهذه التدقيقات التمهيدية الى مدراء الأبنية في شكل تقرير موجز.
في ما يأتي بعض الاستنتاجات الرئيسية التي برزت على أثر التدقيقات:
ـ الاجراءات الروتينية الوافية التي تمكن من استعمال المياه بمزيد من الكفاءة كانت غائبة في الأغلب.
ـ في بعض الأبنية، كانت التجهيزات المقتصدة بالمياه تستعمل على نطاق واسع.
ـ بسبب انعدام المراقبة، لم تكن كمية المياه المستعملة في مرافق مختلفة معروفة وهذا منع الحوافز من أن تأخذ مجراها.
ـ كانت المياه تهدر على نحو غير ضروري نتيجة التسرب أو انعدام الصيانة. فمن خلال الصيانة المنتظمة، يمكن تجنب هذا الهدر.
ـ لم ينفذ في معظم المواقع اجراء بسيط وقليل الكلفة، مثل وضع أكيـاس لتقليل حجم الميـاه في خزانات المراحيض.
ـ تم تحديد امكانات تحسينية قد توفر ما مقداره 1500 متر مكعب من المياه و2400 دولار سنوياً في أحد المواقع.
نشاطات مستقبلية
يواصل المنتدى العربي للبيئة والتنمية اجراء نقاشات مع أكبر عدد ممكن من الأطراف في القطاعين الخاص والعام لاستكشاف امكانات اقامـة ورش عمل اضافية تتعلق بكفاءة المياه وتعزيز الاستخدام الفعال لدليل كفاءة المياه الصادر عنه، وتطوير برامج أكثر تخصصاً لبناء قدرات الموظفين والبلديات والمنافع العامة ومصـالح المياه الحكومية والمجتمعات المحلية وطلاب الجامعات. كما يعمل المنتدى على تطوير موقـع الكتروني خاص بكفاءة المياه ليكون مركز معلومات وتواصـل للذين يريدون تحسين كفـاءة استعمال المياه.
كادر
دليل كفاءة المياه
تم وضع هذا الدليل لمساعدة مستعملي المياه في تحديد فرص كفاءة المياه القليلة الكلفة وترتيب أولوياتها. وهو يستهدف استعمال المياه في الأبنية السكنية والتجارية والمعامل الصناعية والمزارع. ويقدم الدليل طرقاً عملية ومثبتة لتخفيض استهلاك المياه، وتكاليف المياه، من دون التضحية بالانتاج أو الموثوقية أو الراحة. ومن خلال نشر هذا الدليل، ستكون لدى مستهلكي المياه في المنازل ومدراء المياه في الأبنية المؤسساتية والمواقع الصناعية والمزارع معلومات أفضل عن فرص تحديث كفاءة المياه، ولذلك سيكونون أفضل استعداداً لوضع خطة للاستفادة من الوفورات المائية.
إن اجراء تحول الى اقتصاد كفوء بالمياه يجب ألاّ يعتبر بعد الآن هدفاً قليل القيمة يصعب بلوغه. والحواجز التي تعوق اقتصاداً كفوءاً بالمياه ليست تكنولوجية أو مالية. ولا ريب أن الابتكارات والبنى المالية لا غنى عنها لخطة تتعلق بكفاءة المياه. ويبدو أن العائق الرئيسي يتعلق بمواقف حسية. فالمطلوب إذاً ثقة راسخة بقدرة كل منزل وكل مؤسسة على تغيير طريقة استهلاكها للمياه واتخاذ خطوات صغيرة لتصبح كفوءة بالمياه. هذا الدليل يشرح التغيرات والممارسات السلوكية التي يمكن تبنيها.
نأمل أن يقدم هذا الدليل مساهمة في كفاءة المياه في العالم العربي، مع تحسين أداء اقتصاداته ومؤسساته. إن هدفنا النهائي لا يقل عن تعزيز أخلاقيات جديدة تعتني بالمياه وتتعامل معها بمسؤولية. إن صحتنا تعتمد عليها. واقتصادنا يعتمد عليها. ومستقبلنا يعتمد عليها. وهذا هو الشيء الصحيح الذي يجب أن نفعله.