اخترت هذا الصيف أن أجمع في عطلتي بين زيارة بلد جديد أتعرف إلى تاريخه وجغرافيته وتراثه وحياة أهله، وممارسة هوايتي في تسلق الجبال والمشي في الطبيعة. فكانت وجهتي أرمينيا، في رحلة نظمتها مجموعة Vamos Todos المتخصصة بهذه الرحلات.
أرمينيا بلاد جبلية في جنوب منطقة القوقاز، تحدها تركيا من الغرب وجورجيا من الشمال وأذربيجان من الشرق وإيران من الجنوب. وكانت جمهورية ضمن الاتحاد السوفياتي السابق حتى استقلالها عام 1991.
أصبحت أرمينيا مقصداً سياحياً منذ أوائل التسعينات، يزورها نحو نصف مليون سائح سنوياً، معظمهم من الأرمن المنتشرين في أنحاء العالم. وبدأت تحتل مرتبة عالمية في السياحة البيئية. فهي تتيح لهواة المغامرات استكشاف 85 جبلاً يزيد ارتفاعها على 1500 متر، أعلاها جبل أراغاتس الذي يرتفع 4095 متراً. ولمحبي استكشاف المغاور يحتضن جوف الأرض أكثر من عشرة آلاف كهف في أنحاء البلاد. ومتى شئت يمكنك المشي في الطبيعة واستكشاف مناطق نائية تشعر فيها أنك وحيد في العالم، أو التجوال في القرى والاستمتاع بمباهج الحياة الريفية.
بدأت رحلتنا في العاصمة يريفان العابقة بالتاريخ. ومن أبرز معالمها متحف ماتنادران للمخطوطات والكنوز العلمية الأرمنية، وفيه نحو 14 ألف مخطوطة يعود بعضها إلى القرن الخامس. وبعد يومين من التجوال في شوارع المدينة وساحاتها ومتاحفها ومعابدها، توجهنا جنوباً إلى مدينة إشميادزين حيث كاتدرائية من القرن الرابع هي من مواقع اليونسكو للتراث العالمي، وبعدها زفارتنوتس حيث موقع آخر للتراث العالمي. ووصلنا إلى خور فيراب على الحدود التركية، حيث يطل جبل أرارات المهيب الذي يعتبر رمزاً لأرمينيا التاريخية، علماً أنه الآن ضمن الأراضي التركية. لكن ضبابية تغشاه معظم الصيف. من هنا أيضاً يطلّ الناظر على نهر أراكس، أكبر الأنهار في أرمينيا، الذي يمتد 440 كيلومتراً على طول الحدود مع تركيا وإيران وأذربيجان.
مشينا في الجبال الزهرية، التي بنيت بحجارتها صروح وقلاع ومعابد ميزت بألوانها العمارة الأرمنية. وعبرنا كروم عنب، وقرى صغيرة يسكنها فلاحون ورعاة، هي نموذج للغالبية الريفية في البلاد. وتوجهنا شرقاً إلى مدينة غوريس، شبه الريفية هي أيضاً، ومنها إلى جبال تاتيف المترامية. المشي والتسلق في تلك الجنّات متعة تريدها ألا تنتهي، يكمِّلها «تلفريك» هو الأطول في العالم، حلَّق بنا مسافة ستة كيلومترات فوق الوادي السحيق لنهر فوروتان والتلال المكسوة بالغابات، ليهبط بنا في دير من القرن التاسع لعب دوراً رئيسياً في تاريخ المنطقة كمركز ديني وتراثي وعلمي، وهو مقصد رئيسي للسياح.
من هناك انطلقنا عبر «ممر سليم»، الذي كان جزءاً مهماً من طريق الحرير القديمة التي امتدت من الصين إلى البحر المتوسط. مشينا على درب القوافل سهلاً وجبلاً. وتوجهنا شمالاً إلى بحيرة سيفان التي ترتفع 1900 متر عن سطح البحر وتغطي مساحة 1250 كيلومتراً مربعاً، وهي من أكبر البحيرات الجبلية في العالم.
في الماضي، كانت مملكة أرمينيا تمتد من بحر إيجه إلى البحر المتوسط. أما اليوم فلا تتجاوز عُشر مساحتها التاريخية، نحو 30 ألف كيلومتر مربع، ولم يعد لها أي منفذ على البحر. وهذا يشكل نكسة لمحبي السباحة والاستلقاء على الرمال تحت أشعة الشمس. لكن بحيرة سيفان تعوض بعض هذه الخسارة، وقد وصفها الكاتب المسرحي الروسي مكسيم غوركي بأنها «قطعة هابطة من السماء الزرقاء».
بلدة ديليجان التاريخية إلى الغرب بنيت بين القرنين العاشر والرابع عشر في قلب غابة كبيرة هي الآن جزء من متنزه ديليجان الوطني.
مشينا على الدروب القديمة في الغابة، بين أشجار السنديان والزان والأرز على ارتفاع نحو ألفي متر، تطالعنا هنا وهناك أزهار السوسن والأوركيديا والقرنفل البري. تلك الغابة، بجبالها ووهادها وبحيرتها الرائعة، ملاذ لأنواع من الحيوانات البرية كالأيل الأحمر والثعلب والغرير والسحالي والأفاعي والضفادع.
انتقلنا إلى هاغبات في أقصى الشمال، قرب الحدود مع جورجيا، الرابضة فوق تلة تشرف على مشهد خلاب لهضبة عظيمة تحف بها الجبال والوديان وتتناثر فيها القرى. الناس هناك، كما في معظم الريف الأرمني، فقراء، يعيشون حياة هادئة قانعة بعيداً إلى حد عجيب عن صخب المدينة ومتطلباتها، مكتفين بقطعة أرض يزرعونها أو بضعة رؤوس غنم وبقر وماعز.
في رحلة العودة الطويلة جنوباً إلى العاصمة، كانت لنا محطة في غارني، التي كانت منتجعاً صيفياً لملوك أرمينيا قبل نحو ألفي عام. وفيها معبد بات معلماً للتراث العالمي. تسلقنا إليه من الوادي حيث يعبر نهر في محاذاة جدران من الصخور الشاهقة اللامعة بتشكيلات معدنية عجيبة.
قريباً من هناك تتدرج محمية غابة خوسروف، إحدى أقدم المناطق المحمية في العالم، التي أسسها الملك خوسروف كوتاك في القرن الرابع. وهي تؤوي ثروة نباتية وحيوانية. وفيها 283 نوعاً من الفقاريات، بينها الدب البني والخنزير البري والنمر الأرميني والوشق الأوراسي وتيس الجبل والسلحفاة الأرمينية و192 نوعاً من الطيور.
أرمينيا بلد جميل يملأ قلبك بروعة براريه وكنوزه المعمارية والتاريخية، حتى لتكاد تشعر أنك في متحف مفتوح. ■