«يجب النظر إلى التنمية المستدامة من وجهة نظر العالم الثالث. إنها مقاربة تزيل مشاكل أساسية، مثل الفقر والجوع والبطالة، وتشرك كل شخص في الاقتصاد بشكل منتج، بحيث لا يؤذي البيئة وبحيث يحصل الجميع على جزء محترم من الكعكة. التنمية المستدامة تجمع العدالة والبيئة والتمكين، وتجعل الناس فخورين بمجتمعهم. لكنها أيضاً يجب أن تشمل أولئك الذين أخذوا الكثير جداً من أمنا الأرض ولم يشعروا بالحاجة الى إعادته، مثل البلدان الصناعية. التنمية المستدامة تعني تعديل أنماط الحياة المترفة، والتأكد من أن كل شخص يحصل على حصة كافية لتلبية الحد الأدنى من حاجاته الأساسية، والعيش في انسجام مع الطبيعة وما فيها»
أشوك خوسلا
أشوك خوسلا مشاركاً في مؤتمر المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) حول البصمة البيئية للدول العربية عام 2012. وإلى يساره أمين عام «أفد» نجيب صعب ورئيس شبكة البصمة البيئية العالمية ماتيس واكرناغل
راغدة حداد
حين مُنح أشوك خوسلا جائزة ساساكاوا البيئية عام 2002، وصفه المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) آنذاك كلاوس توبفر بأنه «أسطورة في مجال التنمية المستدامة، يجسد آمال وأحلام البلايين العالقين في هوان الحرمان الشديد».
وعندما تم الاعلان عن منحه جائزة زايد الدولية للبيئة في شباط (فبراير) 2014، نوه وزير البيئة في الإمارات الدكتور راشد أحمد بن فهد بمجموعة «بدائل التنمية» التي أسسها خوسلا وساعدت في دفع الاستراتيجيات الوطنية للتنمية في بلدة الهند نحو مراعاة الجوانب البيئية والاجتماعية. ومن إنجازات هذه المجموعة ابتكار وترويج تقنيات صديقة للبيئة وذات جدوى تجارية، وتوفير 300 ألف وظيفة في مجال التنمية المستدامة في الهند وحدها. وسوف يتسلم خوسلا الجائزة في حفل يقام في دبي في 7 أيار (مايو) برعاية حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم.
وُلد أشوك خوسلا في كشمير عام 1940، وهو يعمل بلا كلل منذ عقود في تصميم وتطبيق أساليب وتكنولوجيات تجعل النشاط الاقتصادي منسجماً مع سلامة البيئة والعدالة الاجتماعية. يقول: «الاستدامة البيئية متأصلة في حمضي النووي، لقد ولدت بها، ورحلتي معها انطلقت منذ نشأتي. كانت عائلتي تعيش في منطقة البنجاب وكشمير قبل تقسيمها. وعندما حدث التقسيم أصبحنا لاجئين، وانتهى بنا الأمر في دلهي. وعمل والدي ديبلوماسياً، لذلك أمضيت معظم صباي وشبابي خارج البلاد. درست في الخارج، لكنني كنت دائماً فخوراً بأنني هندي، وواظبت على زيارة موطني من حين إلى آخر».
حصل خوسلا على درجة ماجستير في العلوم الطبيعية من جامعة كامبريدج البريطانية، وعلى دكتوراه في الفيزياء الاختبارية من جامعة هارفارد في الولايات المتحدة. وفي العام 1964، قبل أن تصبح البيئة قضية عالمية، أعدّ مع البروفسور روجر ريفيل أول مقرر تعليمي عن البيئة في جامعة هارفارد، وتولى تدريسه. ومن خلال هذا المقرر، استُكشفت عوامل كثيرة في التفاعل المعقد بين النظم الاقتصادية والاجتماعية والموارد الطبيعية. وتم توثيق بعض تأثيرات هذا التفاعل في كتاب «الأرض في توازن» الذي ألفه أحد تلاميذ خوسلا، نائب الرئيس الأسبق للولايات المتحدة آل غور.
بعد فترة أمضاها في التعليم في الولايات المتحدة، عاد خوسلا إلى بلاده ليصبح في العام 1972 المدير المؤسس لمكتب التخطيط والتنسيق البيئي التابع للحكومة الهندية، الذي كان أول وكالة بيئية وطنية في بلد نام. وخلال السنوات الأربع التالية، قاد عملية تصميم وتشغيل النظم والهياكل الأساسية لدمج البيئة في عملية تطوير الاقتصاد الهندي النامي، ووضع الأهداف البيئية الوطنية والعمل على تحقيقها. وفي 1976، التحق بـ «يونيب» مديراً لشبكة Infoterra الدولية لتبادل المعلومات البيئية، حيث أشرف على تصميمها وتنفيذ عملياتها، ما مكن «يونيب» من إبراز أهمية المعلومات الموثوقة وضرورة إنشاء هيئات بيئية في أكثر من مئة بلد.
يقول الدكتور مصطفى كمال طلبه، الرئيس التنفيذي الأسبق لـ «يونيب»، في مذكراته التي تنشرها مجلة «البيئة والتنمية»: «أشوك كان أذكى من عمل معي في يونيب من الموظفين. وهو مثال يقتدى به لحب الوطن وخدمته. بدأ من الصفر ووصل إلى القمة».
شغل خوسلا منصب رئيس الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة (IUCN) من 2008 الى 2012، ونائب رئيس ورئيس نادي روما من 2000 الى 2012، والرئيس المشارك للهيئة الدولية للموارد في «يونيب» منذ 2008. وهو يقول: «حماية البيئة بالنسبة إلي ليست مجرد إقامة أسيجة لإنقاذ بضعة أنواع حية، إنها موازنة الموارد مع الناس حولها».
وفي الهند، عمل في المجلس الاستشاري للأمن القومي، والمجلس الوطني للبيئة، والمجلس الاستشاري للعلوم لدى مجلس الوزراء، وفي مجالس كثير من المنظمات غير الحكومية والهيئات الأكاديمية. وهو راعي مؤسسة الريادة في البيئة والتنمية (LEAD)، وزميل أعلى في مؤسسة أشوكا للمخترعين من أجل الجمهـور، التي تضـم مستثمرين صغاراً رياديين يقدمون حلولاً ابتكارية للمشاكل الاجتماعية ويعملون على تغيير الأنماط غير المستدامة في المجتمع. وكان المستشار الخاص للجنة برونتلاند، ورئيس منتدى المنظمات غير الحكومية في قمة الأرض في ريو دي جانيرو عام 1992، والمستشار الخاص لأمين عام مؤتمر ريو +20. وعمل في مجالس عدة منظمات تعنى بالبيئة وحماية الطبيعة، مثل «مركز مستقبلنا المشترك» و«إنرجي غلوب» و«معهد استوكهولم للبيئة» وشبكة «أبحاث ومبادرات صفر انبعاثات» (ZERI). وهو حائز على وسام الإمبرطورية البريطانية.
بدائل التنمية
في العام 1982، أسس خوسلا مجموعة «بدائل التنمية»، ومقرها دلهي، وهي تضم منظمات غير حكومية تعمل على جعل استراتيجيات التنمية الوطنية في الهند أكثر استدامة بيئياً واجتماعياً. وتحت إشرافه، استنبطت المجموعة نماذج ملائمة لدمج التنمية الاجتماعية والرفاه الاقتصادي وحماية البيئة في المجتمع، وطبقتها بنجاح في الاقتصاد الريفي الهندي. وسرعان ما اكتسبت اعتباراً واسع النطاق محلياً وعالمياً، وأدخلت الى السوق أكثر من 15 تكنولوجيا جديدة صديقة للبيئة ومجزية تجارياً، بينها ماكينات لحياكة الأقمشة بطريقة النول اليدوي، وصنع ورق معاد تدويره، ومواد تسقيف رخيصة للأبنية، وأجهزة للطبخ والإضاءة بالطاقة المتجددة، وإنشاء مساكن منخفضة الكلفة.
وتشمل انجازاتها أيضاً استصلاح أكثر من 20 ألف هكتار من الأراضي المتدهورة، من خلال عمليات التحريج وإدارة مستجمعات الأمطار وتغذية المياه الجوفية. وطورت مرفقاً كامل التشغيل لنظام المعلومات العالمي (GIS) يقدم البيانات والخدمات اللازمة للتخطيط الإقليمي. وقامت بإنشاء وتشغيل عدة محطات لإنتاج الطاقة بالكتلة الحيوية المتجددة، ما حقق فوائد بيئية كثيرة. وهي ساهمت في تمكين أكثر من ستة ملايين شخص يعيشون في فقر مدقع، وساعدت في خلق 300 ألف فرصة عمل في عدة ولايات هندية.
تعمل المجموعة على تطوير وترويج الابتكارات المؤسسية المستدامة، عن طريق دمج الأهداف الاجتماعية والبيئية مع المناهج التجارية. وتتجسد رؤيتها في «عالم يعيش فيه كل مواطن حياة آمنة صحية منتجة وعلى انسجام مع الطبيعة». وتتلخص استراتيجيتها في تصميم تكنولوجيات ملائمة ونشرها على نطاق واسع، ووضع وتطبيق نظم عقلانية لإدارة الموارد البيئية، وقيام مؤسسات وسياسات عادلة تخدم الناس. وهي تنشط على المستويات المحلية والوطنية والعالمية. ومن شركائها وزبائنها عائلات ومجتمعات قروية، ومنظمات في المجتمع المدني، وسلطات محلية ووزارات في الحكومة الهندية، ومنظمات متعددة الأطراف ومؤسسات في القطاع الخاص في الهند وجنوب وشرق آسيا وأفريقيا.
وبهدف ترويج ابتكارات «بدائل التنمية»، تم إنشاء مؤسسة التكنولوجيا والعمل للتقدم الريفي «تارا» (TARA) التي تقدم الدعم الإرشادي وتقوم بتسويق منتجات وخدمات وتكنولوجيات صديقة للبيئة. ومنها تكنولوجيات تحويل النفايات الى ثروة (مثل القرميد المصنوع من رماد حرق الفحم، والورق المعاد تدويره)، وتكنولوجيات البناء الرخيصة الكلفة والقليلة الاستهلاك للطاقة (بما في ذلك ألواح الجدران والتسقيف والأبواب والنوافذ الجاهزة)، وتكنولوجيات للبنى التحتية والحياة اليومية (مثل معالجة مياه الصرف وتنقية مياه الشرب وتخزينها وتوفير مراحيض جاهزة ومواقد للطبخ بلا دخان)، فضلاً عن خدمات التدريب والتصميم الصديق للبيئة. وهي تستثمر في مشاريع محلية لإنتاج الطاقة من مصادر متجددة، من أجل تخفيض الفقر المتأصل في الأرياف وخلق فرص عمل وتأمين مداخيل.
ومن أهم مبادرات «بدائل التنمية» برنامج لتعليم الأشخاص الأميين القراءة والكتابة والقيام بعمليات حسابية بسيطة، ما يؤهلهم للعمل في مجالات إضافية وتأسيس مشاريع صغيرة خاصة بهم.
التكنولوجيات يجب أن تكون عبيداً للناس لا أسياداً
تتجلى مساهمة أشوك خوسلا المتميزة، تفكيراً وعملاً، في تركيزه على التعامل مع الأسباب الجذرية للمشاكل البيئية من خلال توفير حلول تكنولوجية ومؤسساتية متكاملة وملائمة محلياً، مع تعزيز مشاركة المؤسسات الحكومية، بشكل قل نظيره في الدول النامية وحتى في الدول المتقدمة.
يقول خوسلا: «تتمتع منظمة «بدائل التنمية» بالقدرة على استنباط تكنولوجيات جديدة وتسويقها. فيداك وحدهما لا تنتجان ما يكفي أسرتك من مأكل وملبس. الإنتاجية تتحسن عندما تستعمل التكنولوجيا، التي قد تكون آلة أو أداة أو نظاماً أو تقنية لتنظيم مواردك». ويضيف: «تتعامل المنظمة مع نوعين من الزبائن: الأم في أسرة قروية، وأمنا الأرض. منذ سنين أعلن هذان الزبونان الحرب أحدهما على الآخر، ونحن نعمل على استكشاف وسائل لابقائهما في سلام ووئام وإيجاد حلول لهما. بالنسبة إلى الأم الريفية، الحلول في الغالب مبنية على التكنولوجيا، مثل حصاد المياه والمواقد المحسَّنة والإضاءة وتنقية المياه وكفاءة الطاقة وسواها. ومن أجل أمنا الأرض، نستخدم تقنيات إدارة الموارد التي تجعل النظم الطبيعية أكثر إنتاجية للناس. هذان هما الأمران اللذان نسعى إلى تنفيذهما بطريقة مجزية تجارياً».
لكنه يستشهد بقول غاندي إن التكنولوجيات يجب أن تكون عبيداً لك لا أسياداً، مضيفاً: «الواقع أن الناس يصبحون عبيداً للتكنولوجيا. المرأة تحتاج مثلاً إلى تكنولوجيا لإحضار الماء من أماكن تبعد أربعة كيلومترات. ولكن اذا حصلت على كثير من التكنولوجيا، فقد تصبح عبدة تكنولوجيات أخرى. لذلك يجب الحصول على التكنولوجيا بالقدر الصحيح والملائم».
وهو يأسف لأن الحكومات لا تبدي اهتماماً بالكنولوجيات الملائمة: «لديهم مهندسون لشق الطرق وبناء المنشآت والسدود وغير ذلك. ولسوء الحظ، هم يظنون أن التكنولوجيات الجيدة هي دائماً الكبيرة والمركزية والمكلفة. ولكن ليس هذا هو المطلوب بالضرورة، لأن التكنولوجيا يجب أن تكون في أيدي الناس، وأن يقدروا على التحكم فيها، فعندما يفقد المجتمع السيطرة على التكنولوجيا ينتهي أمره».
يبدي خوسلا قلقه من فداحة استنزاف الموارد الأساسية في الهند. فخلال السنوات الخمسين الماضية دمرت مساحات كبيرة من الأراضي الخصبة، وجفت أنهار، وتدهورت التربة بوتيرة غير اعتادية. وإذ يؤكد على وجوب التعامل بقوة وحزم مع هذه الأمور، يرى أن جميع هذه المشاكل تكمن في النموذج الاقتصادي الذي ابتلاه التضخم السكاني: «من السهل القول إن إنجاب المزيد من الأطفال يعني المزيد من الأيدي العاملة، لكنه يعني أيضاً أفواهاً إضافية يتوجب إطعامها. هذه الأمور تفرض ضغوطاً عظيمة على موارد الأرض. وقد فشلت سياساتنا في تشجيع الفقراء على تكوين أسر أصغر. لذلك فإن المشكلة الكبرى هي نمط التنمية الذي همَّش كثيراً من الناس الى حدّ جعل وسيلتهم الوحيدة لكسب المال هي امتلاك أسر كبيرة. وإذا استمرت الهند في النمو بهذه الوتيرة، فسوف تنفجر الفقاعة الاقتصادية ـ الاجتماعية مدمرة جميع الآمال بتنمية مستدامة».
يؤمن خوسلا بأن الهند، مثل بقية دول العالم، هي ملك جيل الشباب. لكنه يحذر من أن السنين المقبلة ستكون صعبة بالتأكيد: «الجيل القديم يخلف وراءه اقتصاداً مشلولاً. وما لم يحدث تغيير إيجابي جذري، فستعلو صرخة الناس المطالبين بالغذاء والماء والخدمات الصحية. وستكون الحال أسوأ خلال السنوات المقبلة، فمن الصعب أن نتصور كيف ستطعم البلاد أكثر من 1.2 بليون نسمة. إن لم ينصر جيل الشباب بلادنا وأمنا الأرض لحمايتها من الناهبين، فلن يحدث تقدم».