كنت في طريقي إلى محطة تلفزيونية لتسجيل مقابلة حول تطورات الأوضاع البيئية، حين داهمتني زحمة سير خانقة. وفي مثل هذا الموقف نستمع الى الإذاعات لتمضية الوقت. وللصدفة تبع البرنامج الموسيقي الذي كنت أصغي اليه خبر عن إنجازات وزارة البيئة، فأوقفت السيارة جانباً لتدوين بعض المعلومات والأرقام، كي أشير اليها في حديثي كمؤشر على تطور إيجابي في العمل البيئي.
وصلت أخيراً الى الاستوديو. وبعد السلام والكلام بدأت المقابلة بتقرير مفصَّل ومؤثِّر أعدته المحطة عن وضع البيئة. أظهر التقرير أن الأوضاع البيئية في البلد تدهورت في جميع المجالات خلال العقود الأخيرة. فمقالع الصخور والرمول والتمدد العمراني العشوائي والحرائق قضت على نصف المساحات الحرجية والغطاء الأخضر. وارتفع تلوث الهواء إلى مستويات غير مسبوقة. وتناقصت كمية المياه التي تصل إلى الناس مع تفاقم تلوّثها. أما التلوث في مياه البحر فوصل إلى حدود مرعبة، بسبب ازدياد كميات المجارير والنفايات المنزلية والصناعية التي ترمى فيه بلا معالجة. وما زال البلد يفتقر الى خطة وطنية لمعالجة النفايات، التي يتم التعاطي معها على نحو موضعي وفق برامج طوارئ موقتة. كما تحدث التقرير عن التلوث الغذائي بسبب ضعف الرقابة على المبيدات المستخدمة بلا حدود، وبعضها ممنوع في بلدان العالم. وعرض للتنظيم العمراني العشوائي، الذي سمح بإنشاء أبراج شاهقة في مناطق لا تتوافر فيها البنى التحتية الملائمة، ما يخلق اختناقات في السير وتلوثاً خطيراً في الهواء يقضي على الطابع المميز للأحياء التراثية.
كنت أتابع التقرير وأراجع في الوقت نفسه مع مقدم البرنامج الملاحظات التي دوّنتُها حول إنجازات وزارة البيئة. فاحترت لوهلة أولى كيف أوفق بين ما جاء في الاثنين. سألني الاعلامي المضيف: "ما رأيك؟" وفاجأه جوابي أن الطرفين على حق. فالتقرير الذي أعدَّتهُ المحطة دقيق وصحيح، كما بيان وزارة البيئة. صحيح أن الوزارة، منذ تأسيسها قبل ربع قرن، وقّعت مئات الاتفاقات وعقدت آلاف الاجتماعات وشاركت في آلاف المؤتمرات، ونفذت مئات البرامج بتمويل دولي، تحت عناوين الماء والهواء والبحر والتراب والنفايات والأحراج. لكن الصحيح أيضاً أن المياه ازدادت ندرةً وتلوثاً، ونوعية الهواء تدهورت، وتحوَّل البحر الى بحيرة من المجارير، وتلوَّث التراب بالأسمدة والمبيدات الممنوعة، وتفاقمت مشكلة النفايات، واختفى نصف الغطاء النباتي الأخضر.
مهما تكن نيات القائمين على البرامج الدولية والوزارات صادقة وصافية، فهي تبقى حراكاً في حلقة مفرغة، في غياب خطة وطنية واقعية تحدد الأهداف والأولويات. وإذا كان البعض يعتقد أن "الأعمال في النيات" وفق المقولة الشائعة، فالأجدى تحويل هذه المقولة الى اعتبار أن "النيات في الأعمال". فالنتائج المحققة يجب أن تكون المقياس الواقعي للإنجازات، لأن الذي ينتظره الناس القابعون في قبضة التدهور البيئي هو جردة حساب حول كيف كان عليه وضع المياه والهواء والبحر والتراب والنفايات والأحراج قبل البرامج التي تعددها لوائح الانجازات، وكيف أصبح بعدها.
سألني محدثي عن مسؤولية الوزارات والإدارات الرسمية في ضوء التغيّرات التي يسببها تغير المناخ. المناخ يتغير بالفعل، قلتُ، لكن من غير المقبول استخدامه حجة لعدم قيام المسؤولين بواجباتهم الأساسية في الإدارة البيئية. فالهدر في المياه وتلويثها واقع حاصل، بغض النظر عن تغير المناخ. ولا علاقة لصب المجارير في البحر والتمدد العمراني العشوائي بتغير المناخ. أما قطع الأحراج وتلويث الهواء من المصانع ومن انبعاثات السيارات، فهي المسببات الرئيسية لتغير المناخ وليست نتيجة له. ليس تغير المناخ، اذاً، "قميص عثمان" يمكن استخدامه غطاء للتقصير.
بغض النظر عن تغير المناخ، فالموارد المائية نادرة وتحتاج الى إدارة رشيدة. وأضرار الانبعاثات الغازية من وسائل النقل وتوليد الكهرباء والمصانع تصيب أولاً صحة البشر في بلداننا، قبل أن تؤثر في تغير المناخ. لذا فنحن أصحاب المصلحة الأساسيين في إدارة مواردنا، أتغيَّر المناخ أم لم يتغير.
واللافت اعتبار بعض المسؤولين أن الجمهور "حائط مبكى" يشكون اليه همومهم ويذرفون عليه دموعهم. فهم يحذّرون الناس من موجات حر وجفاف، مثلاً، بدل أن يطلعوهم على الخطط التي يفترض أن يكونوا أعدّوها ونفذوها لمعالجة ما يحذرون منه. فما هي الخطط لمواجهة نقص المياه وازدياد الجفاف، وما هي المصادر البديلة، أو الفصائل النباتية التي تم تطويرها لتتحمل الحر والجفاف وقلة المياه؟ وما هي الخطط الوطنية للتعامل مع حرائق الغابات المنتظرة؟ أم أن المسؤولين ينتظرون من الناس إطفاءها بماء ينقلونه من مطابخهم بالطناجر؟ وماذا أعدَّ المسؤولون من خطط لمواجهة المضاعفات الصحية لتغير المناخ، من الآثار المباشرة لارتفاع الحرارة إلى الأمراض المستجدة التي ستنتقل الى مناطق لم تكن تعرفها سابقاً؟
في انتظار خطط تتصدى لتحديات المستقبل، لا حجة للتقاعس عن مواجهة مشاكل الحاضر. ولما كنا في بداية موسم الصيف والسباحة، فلنبدأ بقضية سهلة التنفيذ، وهي أن تكلِّف وزارات البيئة مختبرات مختصة إجراء فحوصات دورية لمياه الشواطئ التي يستخدمها السابحون في البحر، وتنشرها أسبوعياً على الجمهور، فلا يسبح الناس في بحار المجارير، تمهيداً لمنع تلويث البحر من الأساس.
لوائح الإنجازات، مهما طالت، لا تغني عن تحقيق نتائج ملموسة تعطي الناس نوعية حياة أفضل.
nsaab@afedonline.org
www.najibsaab.com
|