أثار ولي العهد البريطاني الأمير تشارلز جدلاً في كلمة ألقاها أمام المنتدى الاقتصادي الإسلامي العالمي في لندن نهاية شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2013، حين حذّر من أن تدهور الموارد الطبيعية وعدم إدارتها على أساس مستدام يمكن أن يسببا تأثيرات مباشرة على الأمن الغذائي وأمن الطاقة. واعتبر أن «الصراع المأسوي في سورية هو مثال واضح ومخيف على ذلك، حيث ساهم الجفاف الشديد في السنوات السبع الماضية في تدمير الاقتصاد الريفي ودفع الكثير من المزارعين خارج حقولهم إلى المدن، التي تعاني أصلاً من نقص في إمدادات الطعام».
وتابع الأمير تشارلز قائلاً: «إن استنزاف رأس المال الطبيعي كان مساهماً ذا شأن في التوتر الاجتماعي، الذي انفجر مخلفاً نتائج تبعث على اليأس كتلك التي نشهدها الآن»، مشيراً إلى أن وسائل الإعلام تناولت هذا الأمر بشكل محدود لأسباب غير مفهومة.
وكانت مجلة «البيئة والتنمية» بين قلّة من وسائل الإعلام العربية التي عرضت لهذا الطرح، بل جعلته موضوع غلاف عددها الصادر في شهر نيسان (أبريل) 2013 بعنوان «ربيع العرب خريف البيئة».
في هذا التحقيق، الذي كتبه مراسلون وخبراء من الداخل السوري، محاولة للإجابة عن مجموعة التساؤلات الآتية: ما هي العلاقة بين تغيّر المناخ والصراعات المسلحة؟ كيف ينسجم ذلك مع الحالة السورية؟ هل كان الأمر متوقعاً قبل بدء الحراك الشعبي أم أن أثر تغيّر المناخ تم افتراضه بعد حصول ما حصل؟ هل الجفاف الذي أصاب سورية في السنوات الأخيرة كان تغيّراً مناخياً بفعل الإنسان أم مجرد ظاهرة طبيعية متكررة؟ ما هي الأنشطة البشرية التي ساهمت في تغيّر مناخ سورية؟ من التالي؟
أثّرت البيئة على الدوام في سلوك المجتمعات البشرية. ويمكن اعتبار كتاب الباحث الكندي توماس هومر ديكسون الذي صدر عام 1999 بعنوان «البيئة والندرة والعنف» أول الدراسات الرصينة التي توقعت أن العالم سيواجه تراجعاً في موارده من الطاقة والأراضي القابلة للزراعة والمياه العذبة والغابات، ما يؤدي إلى نتائج اجتماعية عميقة تساهم في حصول صدامات عرقية واضطرابات أهلية، بما في ذلك العصيان المسلّح وغيره من أشكال العنف الأهلي، خصوصاً في العالم النامي.
وبيّنت الورقة العلمية التي أعدتها مجموعة من الباحثين بتكليف من البنك الدولي عام 2008، بعنوان «مضاعفات التغيّر المناخي على الصراع المسلّح»، أن التغيّر المناخي قد يزيد من مخاطر حصول الصراع المسلح فقط في ظل مجموعة من الظروف وبالتفاعل مع عوامل سياسية اجتماعية عديدة. ولقد قمنا بتطوير مخطط للمسارات المحتملة لنشوء الصراعات المسلحة نتيجة التغيّر المناخي الذي عرضته هذه الورقة العلمية، وذلك بعد الأخذ في الاعتبار مؤثرات إضافية اقترحتها مصادر أخرى ناقشت الموضوع ذاته، ولا سيما التقرير الصادر عام 2012 عن المجلس الوطني الأميركي للاستخبارات بعنوان «الاتجاهات العالمية سنة 2030: عوالم بديلة».
يظهر المخطط أدناه أن هناك على الأقل خمسة انعكاسات اجتماعية للتغيّر المناخي، ويمكن اعتبار ازدياد الكوارث الطبيعية وخسارة الأراضي وقلة الموارد عوامل وسيطة تحفّز ظهور هذه الانعكاسات.
قد يؤدي التدهور المستمر للموارد إلى البطالة وقلّة الأرزاق وتراجع النشاط الاقتصادي، وهذه كلها تؤدي إلى تراجع الدخل الوطني. كما أن ازدياد المنافسة على الموارد المتبقية ضمن المجتمعات المتنوعة قد يجتذب النخب الانتهازية، الأمر الذي يؤدي إلى «التشظّي المجتمعي» وبشكل خاص على مستوى الهوية العرقية أو الطائفية، ويجعل المجتمع أكثر قابلية للتطرف.
ومن شأن تناقص الدخل الوطني أن يعيق توفير المنتجات والخدمات العامة، مما يتسبب في اهتزاز الشرعية السياسية وصعود نجم المعارضين. وفي المقابل، فإن أي جهود لمكافحة التغيّر المناخي أو إزالة نتائجه قد تكون لها آثار جانبية سلبية تزيد من التوترات والخلافات، وهذا قد يجعل من قضية التغيّر المناخي نقطة ارتكاز لأصحاب الأجندات الخفية.
إضافة إلى ما سبق، فإن الظروف البيئية القاسية قد تجبر الناس على الهجرة بأعداد كبيرة، مما يؤدي إلى ازدياد الضغط البيئي على المناطق المضيفة وازدياد احتمالات التطرف والأحقاد العرقية أو الطائفية.
تستطيع المجتمعات المتقدمة اقتصادياً والمستقرة سياسياً التعامل مع المتغيّرات البيئية القاسية والتكيّف معها، على عكس المجتمعات الأخرى التي تتهددها عوامل صراع أخرى مثل طبيعة المجتمع الشابة وغياب الحكم الرشيد وارتفاع عدد السكان وتباين عاداتهم وعدم المساواة المجتمعية والجوار السيئ ووجود تاريخ سابق للعنف في المجتمع.
إن أي شخص متابع للظروف البيئية والاقتصادية والاجتماعية في سورية، خصوصاً خلال السنوات الخمس التي سبقت بداية الحراك الشعبي في آذار (مارس) 2011، يمكنه أن يُسقط هذه الظروف على مخطط «المسارات المحتملة لنشوء الصراعات المسلحة نتيجة التغيّر المناخي»، ليصل إلى النتيجة الحتمية التي تشهدها سورية حالياً.
الجفاف الكارثي
تعرّضت سورية اعتباراً من العام 2007 لأسوأ موجة جفاف منذ خمسينات القرن الماضي، علماً أن مصادر أخرى تقول إنها الأسوأ منذ العام 1902. وبلغ الجفاف ذروته في شتاء 2007 ـ 2008 حين تراجعت معدلات الهطول المطري وتناقصت الموارد المائية السطحية والجوفية، إضافة إلى هبوب العواصف الرملية وارتفاع درجات الحرارة صيفاً بشكل كبير مما تسبب في خسارة مساحات واسعة من الأراضي الزراعية.
كارثة الجفاف التي أصابت المناطق الشرقية من البلاد بشكل خاص، ولا سيما محافظة الحسكة ذات التركيبة الديموغرافية والطائفية المتنوعة، أثّرت على نحو 1.3 مليون شخص من أصل 20.5 مليون نسمة هم عدد سكان سورية عام 2008، يُضاف إليهم نحو 1.5 مليون لاجئ عراقي. وأشارت تقديرات الحكومة السورية وبعثة تقييم الاحتياجات الموفدة من الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 800 ألف شخص من الذين تأثروا بالجفاف فقدوا معظم مصادر دخلهم وهم يعيشون في ضنك شديد. لقد أدّى الجفاف إلى هجرة ما بين 40 و60 ألف أسرة من أراضيهم إلى ضواحي المدن الكبرى مثل دمشق وحلب بعد أن فقدوا معظم أرزاقهم.
ترافق هذا الجفاف مع تراجع العوائد النفطية، حيث تحوّلت سورية منذ العام 2007 إلى مستوردٍ صافٍ للمشتقات النفطية بينما كانت أسعار النفط العالمية في أوج ارتفاعها. وفي العام ذاته فرضت السعودية وبقية دول الخليج حظراً على استيراد الأغنام السورية براً بسبب ظهور مرض الحمى القلاعية في المواشي الأردنية. وكانت تلك ضربة قاصمة لمربي الأغنام في سورية نتيجة الجفاف وارتفاع أسعار الأعلاف.
الهجرة الداخلية بسبب الجفاف، ونزوح اللاجئين نتيجة الحرب في العراق، وارتفاع فاتورة الطاقة، شكلت ضغطاً على الاقتصاد الوطني، فوصل معدّل التضخّم عام 2008 إلى 15.2 في المئة، وهو أعلى مستوى تشهده البلاد منذ 1994.
أدّت هذه الأوضاع إلى الإضرار بأمن سورية الغذائي الذي كانت تفاخر به لسنوات طوال، حيث كانت بين قلّة من الدول المكتفية ذاتياً بمحصولها من القمح لأكثر من عشرين عاماً مضت، فإذا بالجفاف يضرب ثلاثة أرباع الأراضي المنتجة للقمح في سورية، مما جعل حصاد عام 2008 منخفضاً بمقدار 38 في المئة عن حصاد عام 2007.
تسريبات ويكيليكس
تضمّنت برقيات السفارة الأميركية في دمشق وفق ما أظهرته تسريبات ويكيليكس في الوثيقتين DAMASCUS94907 وDAMASCUS11107 تحليلاً للوضع الاقتصادي في سورية خلال العام 2007، بتأثير توجّه الدولة نحو «اقتصاد السوق الاجتماعي» الذي تم إقراره سياسياً في منتصف عام 2005. فقد لاحظت السفارة أن ارتفاع الطلب على الطاقة نتيجة الاستثمارات الجديدة، والانفتاح على استيراد السيارات بمعدلات قياسية بعد تقييد طويل، إضافةً إلى تهريب الوقود المدعوم حكومياً إلى بلدان مجاورة، شكلت ضغطاً على احتياطات البلاد من النقد الأجنبي وساهمت في زيادة الدين العام وأضعفت استقرار الليرة السورية.
أظهرت التسريبات أيضاً أن ارتفاع معدل التضخّم في سورية، مترافقاً مع الزيادات غير المسبوقة في أسعار العقارات نتيجة ارتفاع الطلب عليها، أسفر عن ارتفاع عام في الأسعار وتراجع القوة الشرائية للمواطنين.
من ناحية أخرى، أدّى انفتاح السوق السورية على المنتجات التركية والعربية والصينية بشكل غير مدروس إلى إلحاق الضرر بالصناعات المحلية، خصوصاً الصناعات النسيجية والغذائية والمفروشات، وتسبب ذلك في تراجع فرص العمل واستنزاف النقد الأجنبي.
عند هذه المرحلة بدأت العوامل السياسية الاجتماعية بالتفاعل في ما بينها. فمع تراجع الدخل الوطني وضعف الإدارة، لم تعد الحكومة السورية قادرة على الإيفاء بواجباتها أمام المواطنين. فبدأت الأزمات بالظهور الواحدة تلو الأخرى. وكان أولها صعوبات الحصول على رغيف الخبز، ثم تفاقمت المشاكل مع أزمات المازوت (الديزل) والكهرباء والغاز والسكن وارتفاع الأسعار عموماً.
قامت الحكومة، تحت غطاء «التحول نحو اقتصاد السوق الاجتماعي»، برفع الدعم الحكومي عن الوقود بهدف إعادة توزيع الدعم على الفئات الأكثر فقراً حسب التصريحات الرسمية. لكنها فعلياً كانت تسعى إلى تغطية العجز المالي المتصاعد نتيجة استيراد المشتقات النفطية. وجاءت هذه المعالجة بنتائج خطيرة للغاية، فقد زادت من ارتفاع الأسعار على المواطن البسيط نظراً للعلاقة الطردية بين أسعار المشتقات النفطية وتكاليف النقل والإنتاج الزراعي والصناعي. وبنتيجة ارتفاع التكاليف فقدت الصناعة السورية ميزة التنافسية أمام البضائع المستوردة، وارتفعت معدلات البطالة إلى حدود غير مسبوقة.
مع ظهور هذه الأزمات، بدأت «النخب الانتهازية» في استغلال حاجات المواطن المتزايدة، وانتشرت ظاهرة التهريب على نطاق واسع. ومع تفشي البطالة وانقطاع الأرزاق وارتفاع الأسعار ازداد الفساد وتفاقمت الرشوة، وأخذت الفوارق الطبقية بالتعمق، وازداد الإحساس بغياب العدالة الاجتماعية.
الانتشار الواسع لظاهرة نابشي القمامة أجبر وسائل الإعلام السورية على تناولها، لكن بشكل سطحي لم يغص في الأسباب الحقيقية. هذه الظاهرة الاقتصادية الاجتماعية كانت تقرع جرس الإنذار بشكل مدوٍ لافتة إلى وجود مجتمع منقسم طبقياً، فيه الغني الذي يستهلك الأطايب والكماليات ويرمي بمخلفاتها في الحاويات، وفيه المعدم الذي يبحث عن هذه المخلفات ليعتاش هو وأسرته منها أو من بيعها.
في مجتمع يتكوّن بمعظمه من الشباب المتحمّس الذي لا يجد فرص عمل لائقة، ومع استشراء الفساد، في بلد يشتهر بتنوعه العرقي والطائفي، كان تفجّر الأوضاع في سورية مسألة وقت.
زوال الاستقرار كان متوقعاً
قبل 28 شهراً من تفجّر الحراك الشعبي في سورية، وجهت السفارة الأميركية في دمشق برقية سريّة عاجلة إلى وزارة الخارجية الأميركية وعدد من البعثات الديبلوماسية ووكالات الأمن الوطني والاستخبارات العسكرية والمركزية بتاريخ 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008.
تضمّنت البرقية التي تم نشرها ضمن تسريبات ويكيليـكـس تحت رقـم DAMASCUS847 08 معلـومات موجزة عن «النداء حول الجفاف في سورية 2008» الذي أطلقه مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية بهدف جمع مساعدات لدعم المتضررين من آثار الجفاف. وتحت فقرة في البرقية بعنوان «احتمال حصول دمار اجتماعي وفقدان الاستقرار السياسي»، أشارت السفارة إلى تصريح وزير الزراعة السوري الدكتور عادل سفر أمام ممثلي الأمم المتحدة بأن التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للجفاف «تفوق قدرة الدولة على التعامل معها». وأوردت البرقية توصيف ممثل الفاو للوضع على أنه «العاصفة الكاملة (Perfect Storm) التي اجتمعت فيها ظروف الجفاف مع الضغوط الاقتصادية والاجتماعية مما قد يؤدي إلى تقويض الاستقرار في سورية».
وأشارت البرقية إلى توقعات عبداللـه بن طاهر يحيى ممثل منظمة الأغذية والزراعة (فاو) بحصول هجرة جماعية من المناطق الشمالية الشرقية التي يضربها الجفاف في سورية، مما قد يضاعف الضغوط الاجتماعية والاقتصادية القائمة ويؤدي إلى تقويض استقرار البلاد.
وقد أبدى يحيى خشيته من فشل نحو 15000 مزارع سوري في زراعة المحاصيل في موسم 2009، سواء لعدم وجود بذار نتيجة كارثة محصول 2008 أو بسبب ترددهم في اقتراض ثمن البذار نتيجة مخاوفهم من تكرار موجة البرد التي قضت على الشتول في موسم 2007 ـ 2008. ومما يعزز نظرة يحيى المتشائمة دخول عامل آخر على الموضوع هو زيادة سعر المازوت نتيجة استمرار الحكومة السورية بخفض الدعم المخصص لأسعار الوقود.
ونشرت صحيفة «فاينانشال تايمز» في 3 شباط (فبراير) 2010 تحقيقاً بعنوان «سورية قلقة من حصاد سيئ بسبب الجفاف» أعدّه أندرو إنغلاند عن الآثار الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن الجفاف. وتضمّن التقرير لقاءات مع عدد من المزارعين والخبراء، منهم عبداللـه يحيى والخبير الاقتصادي السوري نبيل سكّر.
ما توقعه يحيى وصرّح عنه بشكل غير معلن توقعه أيضـاً نبيل سكّر. فقد جاء في تحقيق إنغلاند: «لعبت فترات الجفاف بالفعل دوراً في خلق المتاعب السياسية في سورية. ويعيد السيد سكّر إلى الأذهان أن الجفاف عمّ في أواخر الخمسينات عندما كانت القومية العربية تمرّ في أوج ازدهارها وانضمّت سورية إلى مصر لتشكّلا الجمهورية العربية المتحدة. لكن الوحدة بينهما استمرت من 1958 إلى العام 1961 لتدخل سورية في فترة عدم استقرار. يعتبر السيد سكّر أن الجفاف والمتاعب الاقتصادية التي نتجت عنه ربما كانت عاملاً في زوال الوحدة، ويقول: الآن لدينا جفاف، وآمل ألا يفضي هذا إلى ظهور مشاكل سياسية».
الأسد: لدينا مشاكل وستكون لدينا هجرة
تشير جميع المعطيات إلى أن مخاطر الجفاف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كانت معروفة للحكومة السورية، وبشكل خاص ما أظهره لقاء الرئيس السوري بشار الأسد مع صحيفة «وول ستريت جورنال» الذي نشرته في 30 كانون الثاني (يناير) 2011، قبل تفجّر الأوضاع بأسابيع قليلة.
اعتبر الأسد في هذا اللقاء أن مواجهة آثار الجفاف هي في طليعة أولوياته، مشيراً إلى أنه في بداية عهده «كان الاقتصاد هو الأمر الأكثر إلحاحاً، لأنك أينما ذهبت كان هناك فقر والوضع يزداد سوءاً يوماً بعد يوم. والآن لدينا خمس سنوات من الجفاف، وهذه هي السنة الخامسة حيث لا نملك ما يكفي من المياه، ولذلك سيكون لدينا إنتاج أقل من القمح. لقد اعتدنا تصدير القمح والقطن كل عام، ولكن هذا العام لدينا مشاكل وستكون لدينا هجرة. في هذا العام سيتأثر ثلاثة ملايين سوري من أصل 22 مليون سوري بالجفاف، ولذلك فإن هذه هي أولويتنا الآن».
وعاد الأسد ليؤكد على قضية الجفاف في جزء آخر من اللقاء عندما قال: «يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن 60 في المئة من مجتمعنا فلاحون، وبذلك فإن نحو 60 في المئة من اقتصادنا يعتمد على المياه، وعندما يكون لديك نقص في المياه يكون لديك نقص في النمو». وأضاف في المقابلة مع «وول ستريت جورنال»: «تعلم أنني كنت طبيباً وأتذكر أنه في العام 1992 ذهب أحد أصدقائي الأطباء إلى منطقة زراعية وعاش هناك، وعندما أتى لزيارتي سألته: كيف حال عملك؟ قال لي: ليس جيداً لعدم هطول الأمطار. قلت: كيف ذلك؟ أنت طبيب! قال: نتيجة عدم هطول الأمطار يؤجل الكثير من الناس كل شيء، بما في ذلك عملياتهم الجراحية، للسنة المقبلة. وهكذا تستطيع أن تتخيل كم يؤثر المطر في كل ناحية من اقتصادنا. إن أربع سنوات من الجفاف أثّرت في اقتصادنا على نحو مثير. لهذا السبب من الصعب أن أقول إن لدي خطة واضحة في كل شيء. كما ترى، هناك الكثير من العوامل المعقدة المؤثرة».
لكن الوقائع على الأرض ربما كانت أبعد من تصورات الأسد، وفق ما تظهره إحدى تسريبات ويكيليكس التي حملت الرقم 2105484 ضمن مجموعة «الملفات السورية». ففي رسالة بتاريخ 12 شباط (فبراير) 2011 وجّهها الأسد إلى وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية منصور عزّام وكان موضوعها «الموارد المائية وزراعة القطن أرقام مرعبة»، طلب منه التدقيق في ملف الزراعة والري بشأن رسالة وردته تؤكد دور الخطط الزراعية ولا سيما زراعة القطن في استنزاف المصادر المائية، بالإضافة إلى أن سد الطبقة، وهو أكبر سدود سورية على نهر الفرات، كان كارثة اقتصادية على البلاد.
وقد رأى مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما الأميركية جوشوا لانديز أن الأسد التقط هذه الرسالة وقام بالاستفسار عن المعلومات الواردة فيها باعتبار أن «سورية كانت في خضم الجفاف الذي امتد لخمس سنوات، وهو علم بالأزمة المائية الكارثية التي تواجهها سورية وكان يحاول معرفة كيفية عكس الأمر. ولكن، كما حصل في العديد من المشاكل التي واجهتها سورية، فشل الأسد في التعامل مع هذه المسألة لأنها كانت تستلزم تكسير الكثير من البيض (أي تدمير العديد من النظم القائمة) والتفكيك المحتمل لنظامه وسيطرته».
في عين العاصفة
تم تقسيم سورية إلى ست مناطق استقرار زراعي بحسب معدل هطول الأمطار. على سبيل المثال، الأراضي التي يزيد فيها المعدل السنوي عن 600 مليمتر هي منطقة استقرار أولى وتشمل المناطق الساحلية والجولان، أما الأراضي التي يقل فيها المعدل عن 200 مليمتر سنوياً فهي منطقة استقرار خامسة وتشمل معظم أراضي البادية والمناطق الشرقية.
في تصريحه إلى مجلة «سيريا توداي» المنشور بتاريخ 26 كانون الثاني (يناير) 2012، أشار وزير الزراعة السوري جورج صومي إلى وجود دراسة لوضع الجفاف سورية تم إنجازها بتحليل الهطول المطري على مدى 45 عاماً، من خلال استقراء أرقام 450 محطة رصد جوي. وقد بينت أن منطقة الاستقرار الرابعة، التي تتصف بمعدل هطول مطري يتراوح بين 200 و250 مليمتراً سنوياً واحتمالية هطول مقدارها 50 في المئة قد امتدت باتجاه منطقة الاستقرار الثانية. وهذا يدل على أن منحى الهطول المطري يعطي مؤشرات حول توسع المناطق الجافّة إلى منطقتي الاستقرار الثالثة والثانية وبشكل خاص في المنطقة الشمالية الشرقية من سورية.
عام 2007، توقع تقييم مفصَّل لمستقبل منطقة الهلال الخصيب في ظل تغير المناخ أن يهبط تدفق نهر الفرات بنسبة 73 في المئة. وحذر أكيو كيتو، من معهد أبحاث الأرصاد الجوية في اليابان الذي أعد التقرير، من أن «الهلال الخصيب القديم سوف يزول خلال هذا القرن، وقد بدأت عملية الزوال فعلاً».
الجفاف الذي أصاب منطقة الهلال الخصيب ترك أثره على المياه الجوفية أيضاً. فقد أظهرت دراسة جديدة تم نشرها في شباط (فبراير) 2013 ضمن مجلة «أبحاث المصادر المائية»، التي يصدرها الاتحاد الجيوفيزيائي الأميركي، أن أجزاء من تركيا وسورية والعراق وإيران على امتداد حوضي الفرات ودجلة فقدت 144 كيلومتراً مكعباً من مخزوناتها المائية العذبة خلال سبع سنوات اعتباراً من العام 2003، وهذا يعادل كمية المياه في البحر الميت. وعزا معدّو الدراسة نحو 60 في المئة من هذه الخسارة إلى ضخ المياه الجوفية، خصوصاً نتيجة الجفاف الذي أصاب المنطقة.
لكن تكرار موجات الجفاف واشتدادها في سورية لا يمكن نسبهما بشكل كامل إلى تغير المناخ العالمي. فقد أدّت الأنشطة البشرية في سورية منذ مطلع القرن الماضي إلى تراجع الغطاء النباتي وزوال معظم الغابات وانتشار التصحر، نتيجة تملح التربة والانجراف الريحي والمائي واستنزاف موارد المياه السطحية والجوفية بشكل غير عقلاني وسوء إدارة الأراضي الزراعية والمراعي. ويمكننا أن نسجّل خلال المئة عام الماضية ثلاثة أنشطة بشرية أساسية نعتقد بوجود أثر معتبر لها على تغيّر المناخ في سورية، وهي: القضاء على غابات الجبال التدمرية وجبال لبنان الشرقية، وتجفيف مستنقع الغاب، والمشاريع المائية على نهر الفرات. (راجع المقال المرافق ص 28 ـ 29).
من التالي؟
بدأت تظهر تحليلات كثيرة تعتبر سورية حالة نموذجية عن مساهمة تغيّر المناخ ـ مع مجموعة من العوامل الاجتماعية والسياسية ـ في نشأة الصراع المسلّح وتطوره. بل إن البعض يعتبر أن جميع التحركات الشعبية التي شهدتها دول الربيع العربي تأثرت بالتغير المناخي بشكل أو بآخر.
إن مخاطر عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي التي ينطوي عليها تغيّر المناخ، كما ظهر في الحالة السورية، جعلت الرئيس الأميركي باراك أوباما يتجاوز الكونغرس ليصدر أمراً تنفيذياً في تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 بتشكيل فريق عمل للتأهب ورصد تأثيرات التغيّر المناخي بهدف تحديد احتياجات المجتمعات المحلية المتضرّرة. كما تضمّن هذا الأمر التنفيذي تعليمات إلى الوكالات الفدرالية بتحديث البرامج والسياسات لإعادة تأهيل المجتمعات المتضرّرة، وإدارة الموارد المائية والأراضي بما يتناسب مع التخفيف من آثار التغيّر المناخي، وتوفير المعطيات والمعلومات والتخطيط لمواجهة المخاطر ذات الصلة.
وكما ذكرنا سابقاً، قد تستطيع المجتمعات المتقدمة اقتصادياً والمستقرة سياسياً التعامل مع المتغيّرات البيئية القاسية والتكيّف معها، على عكس المجتمعات التي تتهددها عوامل صراع أخرى. وإذا أخذنا في الاعتبار «المسارات المحتملة لنشوء الصراعات المسلحة نتيجة التغيّر المناخي»، نجد أن العديد من الدول مؤهّلة لتشهد حراكاً شعبياً مدفوعاً بالعوامل البيئية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية الخاصة بكل دولة.
إن دولاً مثل هندوراس وميانمار ونيكاراغوا وبنغلادش وفيتنام والفيليبين ومنغوليا وغواتيمالا هي من بين أكثر دول العالم التي عانت من التغيّر المناخي خلال الفترة بين 1993 و2012.
أما في منطقة الشرق الأوسط، فتعاني إيران بشكل خاص من مشاكل عميقة ترتبط بالتغيّر المناخي، ولا سيما ما يتصل بانخفاض منسوب المياه الجوفية وجفاف البحيرات الطبيعية والتصحر، إلى درجة جعلت وزير الزراعة الإيراني السابق عيسى قلانطري يصرّح بأن «مشكلة المياه التي تتهددنا هي أكثر خطورة من إسرائيل والولايات المتحدة والنزاعات السياسية، إنها مسألة بقاء الأمة، فأرض إيران تصبح غير صالحة للسكن».
ويزيد الوضع الاقتصادي من مخاطر عدم الاستقرار في إيران. ويوجز قلانطري التحديات الصعبة التي يواجهها الرئيس روحاني إذ «يرث بلداً فرغت مخازنه وموانئه وخزانته ومصرفه المركزي». فهل يكفي انتخاب رئيس من المعارضة الإصلاحية لإدارة إيران تحت وطأة الأزمات التي تتراكم عليها، إضافة إلى خطوات التسوية مع الغرب في ما يخص البرنامج النووي، لتفادي ما لا تحمد عقباه؟
وهناك العراق، الذي تتطور أزماته إلى صراع مسلح نشهده حالياً. موضوعياً، ما سبق عرضه عن سورية يصلح بشكل كبير لشرح ما يحصل في العراق.
البلد الثالث الأكثر عرضةً لمخاطر تغيّر المناخ في الشرق الأوسط هو الأردن الذي، وفق ما صرّح به الملك عبداللـه الثاني لصحيفة «الحياة» في حزيران (يونيو) 2013، «يتحمل عبئاً هائلاً يتمثل في الضغط على البنية التحتية والموارد الطبيعية، خاصةً المياه والطاقة. والأهم الصدمات التي يتسبب بها تدفق اللاجئين للاقتصاد الوطني، مثل التشوهات في سوق العمل ومزاحمة الأردنيين على المتوفر من الفرص، فضلاً عن التعليم والرعاية الصحية».
في الأردن، الذي يعاني أصلاً من ندرة المياه الصالحة للزراعة والشرب ومحدودية الموارد الطبيعية والاقتصادية، أصبحت قضية اللاجئين إليه تشكل واقعاً ضاغطاً قد يتسبب في خلق أزمات جديدة تؤثر على الاستقرار العام للبلاد وفقاً لمخطط «المسارات المحتملة لنشوء الصراعات المسلحة نتيجة التغيّر المناخي» كما سبق عرضه. وهذا يفسّر بشكل صريح مضمون رسالة الحكومة الأردنية إلى الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي تحيطهم علماً بأن موضوع اللاجئين السوريين بات يشكل تهديداً للأمن القومي الأردني.
إن موسم الشتاء الحالي، الذي قارب على نهايته، يبدو في سوء موسم شتاء 2007-2008 من حيث الجفاف وقلة الهاطل المطري، الأمر الذي ينذر بعواقب اقتصادية واجتماعية قاسية لا يمكن التخفيف من مخاطرها إلا بمبادرات فاعلة وذات تأثير معتبر على معيشة المواطنين. وبغير هذه المبادرات الجريئة قد يجد الربيع العربي طريقه إلى الشعوب العطشى إلى الماء والعدالة الاجتماعية. ■
كادر
أسطورة «بعل» و«موت»
في كتابه الشهير «مغامرة العقل الأولى» الذي صدر عام 1976، يتناول المفكّر السوري فراس السوّاح أسطورة «هبوط بعل إلى العالم الأسفل». ففي آرام وفينيقيا كان بعل يمثّل قوى السحاب والمطر والندى مدعومة بقوة البرق والصاعقة والرعد، في حين تمثل قرينته عناة أو أنانا قوى الخصوبة.
ولأن قوى الخصوبة لا تستطيع أن تكون فاعلة من دون مساعدة الأمطار في الشتاء والندى في الصيف، فإن علاقة عناة ببعل لا تنفصم، ووثاقهما ضرورة لا غنى عنها للحياة الزراعية. ولقد غذت نوعية المناخ والطبيعة في سورية هذه الفكرة، حيث لا غنى عن الأمطار للزراعة، وحيث لا تشكّل الأراضي المروية بواسطة الأنهار إلا نسبة ضئيلة على عكس وادي النيل ووادي الرافدين، وحيث معظم الأراضي هي ملك لبعل يسقيها كيفما يشاء وعندما يشاء. ولذلك لا تزال «بعل» الكلمة المستعملة في سورية لوصف الأرض التي تسقى بمياه الأمطار فيقال إنها «أرض بعل».
في مقابل بعل كان هناك «موت»، سيّد العالم السفلي الذي يمثل مع مملكته الموت والجفاف والدمار والفوضى. وسيكون على هاتين القوتين الكبيرتين أن تتصارعا طويلاً قبل أن يُكتب لإحداهما الانتصار. وسيجد بعل نفسه في المعركة مراراً لا حصر لها، ففي كل سبع سنوات سينبري له «موت» ويتحداه، فيسلم بعل نفسه له ويهبط إلى العالم السفلي، ولكنه يعود منتصراً إلى الحياة بعد معركة عنيفة بين بعل وعناة من جهة و«موت» وأتباعه من جهة ثانية، وبهذا الانتصار تنبعث الطبيعة من جديد وتعود الأمطار لتروي الأرض المجدبة وترجع الحياة الزراعية إلى سيرتها الأولى.
وهكذا يخلص السوّاح إلى أن «هذه الأسطورة لا تهدف بالدرجة الأولى إلى تفسير الدورة الزراعية السنوية، بل إلى تفسير التناوب الدوري للخصب والجفاف الذي يميز مناخ المنطقة، والذي لا نزال حتى الوقت الحاضر في سورية نعاني من آثاره. ويبدو أن هذا التناوب كان واضحاً في أرض كنعان قديماً لدرجة كان يمكن معها حصره في سبع سنوات خصيبة تليها فترة من القحط تطول أو تقصر ثم تعود الحالة إلى سيرتها الأولى، وهكذا».
إلا أن دورات الجفاف والخصب المعاصرة أخذت تشهد تبدلاً بازدياد شدة فترات الجفاف وتواترها. وفي تشرين الأول (أكتوبر) 2011 نشرت الإدارة الوطنية الأميركية للمحيطات والجو (NOAA) دراسة تحليلية أكّدت فيها أن تغيّر المناخ الناتج عن البشر مسؤول إلى حد ما عن ازدياد تواتر الجفاف وشدته خلال الشتاء في منطقة البحر المتوسط، وقد عانت الأراضي المحيطة بالبحر في غضون السنوات العشرين الماضية 10 فصول شتاء هي الأكثر جفافاً من أصل 12 فصلاً الأكثر جفافاً التي شهدها العالم.
بيّنت الدراسة أن الجفاف الذي أصاب هذه المنطقة هو من الشدة والتكرار بحيث لا يمكن نسبه إلى التغيّرات الطبيعية وحدها، واقترحت أن غازات الدفيئة يمكن أن تكون مسؤولة عن نصف الزيادة الحاصلة في شدّة الجفاف وتكراره خلال الفترة من 1902 إلى 2010. ولكن ثمة أسباب أخرى لم تحددها الدراسة تساهم في ذلك، ومن الملاحظ وجود انحراف مفاجئ نحو الزيادة في ظروف الجفاف اعتباراً من سبعينات القرن الماضي.
وقد قامت NOAA بإعداد مخطط توضيحي لاتجاهات الزيادة أو النقصان في الهاطل المطري على الأراضي في حوض البحر المتوسط بين 1971 و2010، مقارنةً بالمعدل الوسطي خلال الفترة بين 1902 و2010. ويظهر المخطط تراجع الهاطل المطري بمقادير تزيد عن 50 مليمتراً سنوياً في دول شرق المتوسط، وبشكل خاص في سورية ولبنان والأردن، وكذلك في جنوب تركيا واليونان ووسط إسبانيا والبرتغال وشمال المغرب.
------------------------------------------------------------------------------------------
3 نشاطات بشرية غيرت مناخ سورية
هناك العديد من العوامل البشرية التي ساهمت في تغير المناخ في سورية واشتداد دورات الجفاف التي أصابتها وازدياد تواترها وارتفاع مخاطرها. في ما يأتي ثلاثة عوامل أدّت منذ مطلع القرن الماضي إلى تراجع الغطاء النباتي وزوال معظم الغابات وانتشار التصحر والجفاف
تعرية غابات الجبال التدمرية وجبال لبنان الشرقية
يروى أن الخليفة هارون الرشيد كان يأتي مصطافاً تحت ظلال الأشجار في الطريق من بغداد إلى الرصافة في بادية الشام قرب الرقة. وتشير المصادر التاريخية إلى أن مساحات واسعة من أراضي بادية الشام كانت مغطاة بالغابات حتى وقت قريب، بما في ذلك آلاف الهكتارات من غابات البطم في جبل البلعاس والشاعر وعبدالعزيز واللجاة. فكيف تم القضاء على هذه الغابات؟
في كتابه «جولة أثرية في بعض البلاد الشامية» الذي صدرت طبعته الأولى عام 1934، يصف أحمد وصفي زكريا قطع الأشجار في جبل البلعاس في الثلث الأول من القرن العشرين، متوقعاً النتائج، حيث كتب: «إلا أن يد القطع والاستئصال نالت منها ويا للأسف، وبعُدت المسافة بين الشجرة والثانية مئات الأمتار، وما برح أهل سلمية وعقيربات وضواحيها يقطعون أحطاب هذه الأشجار وينقلونها على عجلاتهم وجمالهم ويبيعونها في حمص وحماة وسلمية، ناهيك عما يحرقه الأعراب الذين ينزلون فيه (جبل البلعاس) في فصل الشتاء أو يمرون به أثناء التشريق والتغريب، مما يقدر مجموعه في كل عام بأربعين ألف قنطار ونيف (نحو ستة آلاف طن من الأخشاب). وقد خلا معظم الهضاب الغربية في البلعاس من أشجاره بسبب هذا القطع المستمر ولا رادع ولا وازع. وسوف لا يمضي على ما رأيت عشرون سنة حتى يتجرد هذا الجبل الجميل من أشجاره بالكلية، كما تجرد جبل الشومرية (منطقة المخرم في حمص) وجبل القلمون (سلسلة جبال لبنان الشرقية في منطقة القلمون بريف دمشق) وغيرها من جبال الشام، فاختل نظام الأمطار وتوالت أعوام المَحْل من جراء هذا التجريد والتخريب».
ويضيف زكريا في كتابه الآخر «عشائر الشام»، الذي صدرت طبعته الأولى عام 1945، أن شركة نفط العراق IPC ساهمت أيضاً في تجريد جبال البادية الشامية من أشجارها: «... وما فعله عمّال شركة النفط العراقية حينما كانت تمد أنابيبها في سنة 1351 هـ (1930 م) وبعدها وترسل سيّاراتها ومناشيرها الميكانيكية تفتك بتلك الأشجار العظيمة التاريخية فتكاً ذريعاً».
إلى ذلك، أدّى مدّ الخط الحديدي الحجازي بين دمشق والمدينة المنورة خلال الفترة 1900 ـ 1908 إلى قطع أعداد كبيرة من الأشجار لاستخدام أخشابها عوارض للسكة الحديد، ولاحقاً كحطب لتشغيل القطارات، مما أدى إلى تراجع الغطاء الشجري على طول مسار الخط كما هي الحال في غابات جبال لبنان الشرقية التي تضم أشجار السنديان واللزاب والملول والبلوط والزعرور.
وأدّت الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) وانتشار المجاعة وغزو أسراب الجراد اعتباراً من ربيع 1915 إلى ازدياد التحطيب كمصدر للرزق، كما أصبح قطع الأشجار سياسة خلال الحرب لتدفئة جنود الجيش العثماني.
تجفيف مستنقع الغاب
تقع منطقة الغاب وطار العلا غرب مدينة حماه على مسافة خمسين كيلومتراً، يحدّها من الشمال جسر الشغور في محافظة إدلب ومن الغرب سلسلة الجبال الغربية في محافظة اللاذقية ومن الجنوب مصياف. تُعد هذه المنطقة من أهم البقاع الإنهدامية في سورية، حيث بدأت عملية خسف هذا الغور في عصر البليوسين المبكر واستمرت عبر الرباعي وما زالت مستمرة.
نتيجة وجود «العتبة البازلتية» التي كانت تشكل سداً طبيعياً قرب قرية القرقور في الناحية الشمالية من منطقة الغاب، كان قسم من أراضيها مغموراً بالمياه، مما شكّل مستنقعاً من مياه نهر العاصي وينابيع المنطقة الغزيرة والأمطار شتاءً. وكان طول المستنقع الأقصى يتراوح بين 60 و70 كيلومتراً وعرضه الأقصى بين 12 و15 كيلومتراً بمساحة مغمورة قدرها 35 ألف هكتار من أصل 141 ألف هكتار هي كامل مساحة منطقة الغاب وطار العلا.
برزت فكرة تجفيف الغاب في العهد الروماني حين تم تحويل مجرى نهر العاصي في القسم الأسفل من الغاب بفتح قناة مستقيمة شمال القرقور طولها 1100 متر. لكن الفكرة لم تنفذ كلياً، وبرزت من جديد خلال حكم السلطان عبدالحميد أواخر العهد العثماني، لكنها أيضاً لم تكتمل، إلى أن تم إحداث مؤسسة لإدارة مشروع الغاب عام 1951 بعد حصول سورية على استقلالها.
في نيسان (أبريل) 1952 قامت مؤسسة إدارة مشروع الغاب بإجراء الدراسات اللازمة لتجفيف مستنقع الغاب. وبنتيجة هذه الدراسات تم استكمال كسر العتبة البازلتية في القسم الأسفل من الغاب عام 1956 بعرض 11 ـ 30 متراً وعمق 4 ـ 6 أمتار، وتم تصريف المياه تماماً عام 1958. فتحول مستنقع الغاب إلى سهل خصب تم توزيع أراضيه لاحقاً على الفلاحين عام 1969 بموجب قانون الإصلاح الزراعي.
على رغم النتائج الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة لتجفيف مستنقع الغاب، إلا أنه أدى إلى انخفاض كبير في الرطوبة النسبية في وسط البلاد نتيجة انخفاض معدل التبخر، مما جعل مناخ المنطقة شبه جاف صيفاً. كما أدّى التجفيف إلى تراجع تغذية الطبقة العليا من المياه الجوفية الصالحة للزراعة والشرب التي تمتد على عمق 50 ـ 70 متراً عن سطح الأرض، وتحتها طبقة المياه الجوفية الغنية بالمياه الكبريتية. وقد امتد هذا التأثير على مساحة تصل إلى 100 كيلومتر شرقاً ولأكثر من 125 كيلومتراً جنوباً وشمالاً. وهذا يعني أن أضرار الجفاف من نقص المياه الجوفية وانخفاض الرطوبة الجوية يعادل ثلاثة أضعاف مساحة سهل الغاب وطار العلا، أي نحو 425 ألف هكتار.
ظهرت آثار تجفيف مستنقع الغاب خلال المراحل الأولى من تنفيذ المشروع، حيث تراجع هطول الأمطار اعتباراً من منتصف الخمسينات ولعدة أعوام متتالية في المناطق الوسطى والشرقية من البلاد، وتحديداً شرق حماة حتى وادي العزيب وأثرية على أطراف البادية السورية. وعمّ الجفاف مما أدى إلى القحط وعدم نمو المحاصيل البعلية من قمح وشعير، ويباس الأشجار والشجيرات، وعدم تجدد النباتات الرعوية السنوية. فانعكس ذلك على الثروة الحيوانية ونفوق أعداد كبيرة من الأغنام، وعم الفقر والعوز في وسط البلاد مما استدعى طلب المساعدات الغذائية من الخارج.
وتتميز تربة سهل الغاب بأنها رسوبية لحقية، كما هي التربة في الأراضي المجاورة لنهري الفرات والخابور. وتجود في هذا النوع من الترب معظم أنواع الزراعات إذا توفر لها الري الكافي. والواقع أن الأراضي الرسوبية اللحقية هي التي تزود العالم بمعظم الإنتاج النباتي، ولكن تجب مراقبتها إذ أن الملوحة غالباً ما ترافق استثمار هذه الأراضي في المناطق الجافة. وهذا ما حدث فعلاً في الغاب وحوضي الفرات والخابور، حيث انتشر تملّح الأراضي نتيجة قلة مياه الري وضعف تصريفها وارتفاع درجات الحرارة، مما أدى إلى صعود الأملاح وتركزها في الطبقة السطحية من التربة بسبب التبخر والخاصية الشَعْرية (capillarity).
في دراسة علمية نُشرت عام 2012، بيّن باحثون من جامعة تشرين والهيئة العامة للبحوث الزراعية أن العجز المائي الحالي في الموازنة المائيـة لسهل الغاب يبلغ 137 مليون متر مكعب في السنة. وهـو ناتج عن خفض تدفق نهـر العاصي إلى النصف نتيجة بناء السدود عليه، إلى جانب تغيير الخواص المائية والبيئيـة لحوض العاصي بفعل تجفيف مستنقع الغاب ومشاريع الري التي تبعته، وانخفاض كفاءة شبكات الري إلى 40 في المئة بسبب قدمها، وازدياد الطلب على المياه لأغراض الزراعة والصناعة، وازدياد حفر الآبار الارتوازية حيث يوجد أكثر من 5200 بئر عاملـة في العاصي الأوسط، ما أدى إلى انخفاض غزارة تدفق الينابيع وجفاف بعضها وانخفاض منسوب المياه الجوفية.
المشاريع المائية على نهر الفرات
كانت ضفاف نهر الفرات، بالإضافة إلى ضفاف نهر دجلة، وما بينهما، المهد الأساسي لابتكار الزراعة المروية قبل نحو 12 ألف عام. كما مارست الشعوب المقيمة على ضفافه صيد الأسماك والنقل النهري والتجارة البينية. وتتابعت الأنشطة البشرية الاقتصادية وبنيت آلاف المدن والقرى على تلك الضفاف عبر آلاف السنين.
هناك خمسة سدود على الفرات ضمن الأراضي السورية. وقد بدأ إنشاء أهمها، وهو سد الطبقة أو سد الثورة، عام 1968 وتم الانتهاء من بنائه عام 1973، محتجزاً خلفه بحيرة اصطناعية كبيرة اسمها بحيرة الأسد تقع في محافظة الرقة قرب مدينة الثورة، تستوعب كمية من المياه تصل إلى 11.6 بليون متر مكعب قبل مدينة الرقة.
وتعود أهمية حوض الفرات إلى كون أراضيه الزراعية تشكّل ما يزيد عن 55 في المئة من المساحات المروية في سورية، يعمل فيها أكثر من 50 في المئة من القوى العاملة في الزراعة. وتمثل موارده المائية أكثر من 60 في المئة من مجمل الموارد المائية السورية.
إلا أن سوء سياسات التخطيط الزراعي، ولا سيما إدخال زراعة القطن كمحصول صيفي، وضعف إدارة مياه الري وخصوصاً الضياع من شبكات الري بنسبة تتراوح بين 55 و60 في المئة واستخدام أسلوب الغمر وسوء تصريف المياه الفائضة، وحجز السدود للطمي الخصب ومنع وصوله إلى الأراضي الزراعية، إضافةً إلى سرعة الرياح التي ساهمت في حركة الحبيبات الرملية على مدار السنة نتيجة جفاف التربة وتفككها بسبب الحراثة وانحباس المطر، قادت جميعها إلى تملّح التربة وإفقار الأراضي الزراعية وتصحّرها، وانعكست في هجرة المزارعين لأراضيهم.
وتشير تقارير مديرية حوض الفرات إلى أن نسبة خروج الأراضي من الاستثمار الزراعي بسبب الملوحة الزائدة تبلغ نحو 17.6 في المئة، وأن نسبة الأراضي الشديدة الملوحة تشكل 50.4 في المئة من الأراضي المتملّحة.
إلى جانب مشكلة التملح، يواجه حوض الفرات في الأراضي السورية مشكلة خطيرة هي انخفاض تدفق النهر بشكل كبير نتيجة السدود التي أنشأتها تركيا ضمن مشروع جنوب شرق الأناضول GAP. فقد كان تدفق النهر حتى عام 1975 بحدود 1000 متر مكعب في الثانية، فانخفض إلى 480 متراً مكعباً في الثانية عام 1989. وقد انخفض إلى أدنى من ذلك مؤخراً، إذ يُعد تصريف النهر وفق الدفق من جرابلس عام 2009 البالغ 416 متراً مكعباً في الثانية هو الأسوأ منذ العام 2000. ■