لماذا لم تنشر بعد نتائج دراسة منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة العراقية؟
كاظم المقدادي
قبل أكثر من ثلاثة أعوام، في تموز (يوليو) 2010، بدأت منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة العراقية تحقيقاً بشأن الزيادة المثيرة للقلق في الولادات المشوهة في العراق، التي يرى أطباء عراقيون وباحثون أجانب أنها بسبب استخدام الأسلحة المحرمة دولياً. وقالت المنظمة إن الدراسة المشتركة، التي توقعت أن تستغرق 18 شهراً في ست محافظات، ستوضح حجم التشوهات الخلقية وتوزعها وأنماطها لدى المواليد في العراق، وتهدف رسمياً الى توفير معلومات أساسية لوضع برنامج وقاية وطني لتحسين صحة الأم والطفل.
بدأت المناقشات والتحضيرات للدراسة المطلوبة منذ منتصف 2011. وسبق ذلك نشر دراسات علمية أجنبية وجدت زيادة كبيرة في العيوب والتشوهات الخلقية، فيما أشارت أخرى الى وجود صلة بين التشوهات الخلقية في مدينة الفلوجة والملوثات المعدنية مثل اليورانيوم المستنفد المستخدمة في العامين 2003 و2004 في الذخائر من قبل الجيش الأميركي. وأشارت تقارير عالمية الى تفاقم حالات التشوهات الولادية نتيجة للعمليات العسكرية في البصرة والفلوجة. وأكدت دراسات علمية أن معدل الاصابات بالسرطان في مدينة الفلوجة هو أسوأ مما كان عليه لدى الناجين من إلقاء القنبلتين الذريتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في نهاية الحرب العالمية الثانية.
وأشارت تقارير أوروبية الى أن الأعوام الأخيرة شهدت ارتفاع نسبة التشوهات الولادية في العراق بنحو 13 مرة عن المعدل في أوروبا. وتتزايد الأدلة العلمية على العلاقة الوثيقة بين انتشار الحالات المرضية المذكورة واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً في الحروب في العراق، حيث استخدمت القوات الأميركية والبريطانية كميات كبيرة من اليورانيوم المستنفد قدرت بنحو 2000 طن.
أرقام غير عادية
التقييم الذي أجرته منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة العراقية في ست مناطق، بما فيها الفلوجة والبصرة، وهما من أخطر مناطق العراق تلوثاً، استلزم إجراء دراسات إضافية لتحديد الأسباب على نحو دقيق. وكانت دراسة علمية ميدانية شاملة أجراها عام 2010 فريق باحثين من مؤسسة Green Auditالبريطانية، وجدت في الفلوجة نسباً عالية جداً بلغت 30 ضعفاً من التشوهات الخلقية للقلب، وأيضاً تشوهات للعمود الفقري والنخاع الشوكي وغيرهما. وعدا التشوهات الولادية، كشفت الدراسة، التي شملت 711 عائلة ونحو 4800 فرد في الفلوجة، طيفاً من الأمراض السرطانية، وسجلت ارتفاع معدل الإصابة بسرطان الدم (اللوكيميا) 38 ضعفاً، وسرطان الثدي 10 أضعاف، إلى جانب الزيادة الكبيرة في أورام الدماغ لدى الكبار. ومقارنة بهيروشيما التي قصفت بالقنبلة الذرية، حيث سجل ارتفاع معدلات اللوكيميا 17 ضعفاً، فإن ما يثير الدهشة في حالة الفلوجة هو سرعة الإصابة بالسرطان بالإضافة الى انتشاره. وسجلت الدراسة أيضاً نسباً عالية من الوفيات وسط الأطفال الرضع، وفروقاً بين النسب حسب الجنس، تشبه آثار استخدام قنبلة هيروشيما. والأمر الأخطر هو ما يهدد صحة وحياة الأجيال القادمة، فسموم وإشعاعات الأسلحة التي استخدمت في الفلوجة تدمر الأجنة الذكور أكثر من الإناث، كما أوضح البروفسور باسبي.
ونشرت عام 2012 دراسة علمية أجراها فريق من الباحثين من كلية الصحة العامة في جامعة ميشيغان وكلية الطب في جامعة البصرة وكلية طب الأسنان في جامعة أصفهان وكلية الطب في جامعة تبريز للعلوم الطبية، عززت ما توصلت إليه دراسات سابقة بأن الذخائر التي استخدمت في حرب العراق أدت الى ارتفاع التشوهات الخلقية والإصابات السرطانية. وتمثل التشوهات العيوب القلبية وتلف الوظائف الدماغية وتشوه الأطراف. ووجدت أيضاً معدلات مرتفعة من الإجهاض ومستويات سامة من التلوث بالرصاص والزئبق.
ففي البصرة التي دخلتها القوات البريطانية بلغ عدد الأطفال المولودين بعيوب خلقية 37 في كل ألف ولادة حية. وانتهت أكثر من 45 في المئة من حالات الحمل بالإجهاض خلال عامي 2005 و2006، وصولاً إلى حالة إجهاض واحدة من كل 6 حالات حمل بين 2007 و2010. وفي الفلوجة، التي تعرضت لعمليتين عسكريتين عنيفتين، ولد بعيوب خلقية أكثر من 50 في المئة من أطفالها الذين شملهم المسح بين 2007 و2010. وحلل الباحثون عينات من شعر أطفال يعانون تشوهات خلقية في الفلوجة، فوجدوها تحتوي على مستويات رصاص تعادل خمسة أضعاف مثيلاتها في شعر الأطفال الأصحاء. أما مستويات الزئبق فهي أعلى ست مرات. وقال أستاذ علوم السموم والبيئة في جامعة ليدز البريطانية البروفسور ألستير هاي إن الأرقام التي ظهرت في تلك الدراسات غير عادية، وتتطلب الزيادات في معدلات التشوهات الخلقية لدى الأطفال دراسات لمعرفة السبب.
وتتطابق نتائج هذه الدراسات مع النتائج التي توصل إليها فريق العالمة الايطالية باولا مندوكا في دراسته لأطفال الفلوجة المصابين بالسرطانات والتشوهات، حيث وجد في أنسجتهم تركيزات عالية من المعادن الثقلية، ضمنها الرصاص والزئبق ومشتقات أخرى سامة ومسببة للسرطان والتشوهات الخلقية.
أين النتائج؟
أشارت تقارير الى أن الدراسة المرتقبة أنجزت في تشرين الأول (أكتوبر) وشملت 10800 عائلة من ست محافظات عراقية. وهي كشفت عن وجود تشوهات خلقية وأمراض سرطانية لدى الأطفال بشكل متزايد. وحسب صحيفة «إندبندنت» البريطانية، كان يفترض أن تنشر منظمة الصحة العالمية تقريراً عن الدراسة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، لكنها لم تفعل.
في آذار (مارس) 2013 أجرت محطة BBC لقاء مع ممثل لوزارة الصحة العراقية كشف خلاله أن جميع الدراسات التي نشرها العراق حتى ذلك الوقت أثبتت زيادة التشوهات الخلقية والسرطان عند الأطفال، وأن التقرير المخبأ للمنظمة الدولية كشف التأثير الواسع لاستخدام السلاح السام من جانب قوات الحلفاء على الأجيال القادمة، خاصة في المحافظات التي استخدم فيها بشكل أكبر.
وذكر تقرير لوكالة الأنباء العالمية IPS أن نتائج الدراسة التي طال انتظارها يتوقع أن تكون واسعة جداً بشأن العيوب الخلقية، وكان من المقرر الاعلان عنها في وقت مبكر من السنة الجارية، ولكن لم يتم نشرها على الملأ حتى الآن. وهذا ما أثار توجيه انتقادات من علماء وخبراء صحة دوليين، متسائلين عن سبب تأخير نشر الدراسة. وتبين أن فيها مدعاة للقلق، لأنها لن تشير الى الصلة بين انتشار العيوب الخلقية في العراق واستخدام اليورانيوم المستنفد والفوسفور الأبيض خلال الحرب واحتلال البلاد. وأكد رئيس بعثة العراق إلى منظمة الصحة العالمية جعفر حسين أن الدراسة لا تتضمن أيضاً ملوثات مثل الرصاص والزئبق كعوامل متغيرة. ووفقاً لتبرير المنظمة، فإن «اقامة صلة بين انتشار العيوب الخلقية والتعرض لليورانيوم المستنفد يحتاج الى مزيد من البحث من قبل الوكالات والمؤسسات المتخصصة».
رداً على هذه التبريرات الواهية، أعلنت العالمة ميزيجان سافابي أصفهاني، خبيرة السموم البيئية في كلية الصحة العامة بجامعة ميشيغان الأميركية، أن «هناك أدلة دامغة تربط بين الأعداد المتزايدة للعيوب الخلقية وحالات الإجهاض وبين العمليات العسكرية. لقد قام فريقنا بنشر بحث عن التشوهات والعيوب الخلقية في العراق يؤكد ذلك، وإن نظرة منظمة الصحة العالمية الى الملوثات والعناصر المعدنية مثل اليورانيوم المستنفد هو أمر مثير للقلق». وأضافت: «أعتقد أن هذه ستكون احدى نقاط الضعف الكبيرة في التقرير، نظراً لأن الدراسات السابقة أظهرت ترابطاً بين الملوثات والتشوهات الولادية». وقد أشارت دراسات أخرى الى أنه تم العثور على مادة اليورانيوم المستنفد وغيرها من الملوثات في شعر آباء الأطفال الذي يعانون من التشوهات الخلقية في مدينة الفلوجة».
واعتبر العالم كيث بافرستوك، كبير خبراء الاشعاع في منظمة الصحة العالمية سابقاً، أن «إغفال دور أليورانيوم المستنفد هو تجاهل كبير». وقال كازو إيتو، الأمين العام لمنظمة حقوق الانسان: «التشوهات الخلقية في العراق بحاجة الى عناية دولية فورية»، مضيفاً أن «استخدام اليورانيوم المستنفد يعتبر واحداً من الأسباب المحتملة، حتى لو لم يثبت أنه السبب الرئيسي للمشكلة. ومنظمة الصحة العالمية بحذفها لهذا السبب لا تقدم تفسيراً معقولاً، ولذا من الانصاف بالنسبة إليها الانسحاب من هذه العملية».
ثمة رأي واسع بأن حذف الأسباب من الدراسة المذكورة جاء بضغط من الإدارة الأميركية. وذكر هانس فون سبونك، المساعد السابق للأمين العام للأمم المتحدة، في صحيفة «الغارديان»، أن الحكومة الأميركية منعت منظمة الصحة العالمية من العودة الى جنوب العراق حيث سيكون لليورانيوم الذي استخدمته نتائج خطرة على البيئة والسكان. واعتبرت كريستين ديلان أن عدم نشر تقرير منظمة الصحة العالمية الذي شاركت فيه يُعد فضيحة.
وقد توجه 58 عالماً وطبيباً ومحامياً عن حقوق الإنسان، عراقيين وغير عراقيين، بمذكرة لمنظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة العراقية، مطالبين إياهما بنشر التقرير فوراً. وبمبادرة من الدكتورة سميرة العاني، وهي طبيبة أطفال تعمل في مستشفى الفلوجة العام منذ 1997 وقد لاحظت عقب الحرب انتشار العيوب الخلقية والحالات السرطانية لدى الأطفال في الفلوجة وسجلتها، انطلقت في آب (أغسطس) 2012 حملة تواقيع على شبكة الإنترنت تطالب منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة العراقية بالافراج عن البيانات والنتائج التي توصلت إليها الدراسة.
وكان خبراء منظمة الصحة العالمية أنجزوا عام 2004 تقريراً حول التأثيرات الصحية الطويلة الأمد الناجمة عن أسلحة اليورانيوم المستنفد على سكان العراق المدنيين. وهو تضمن نتائج دراسة رصينة أجراها ثلاثة علماء رواد بالإشعاع، بقيادة العالم الفنلندي كيث بافرستوك كبير خبراء الإشعاع في المنظمة. وجدت الدراسة أن استنشاق ذرات غبار اليورانيوم المستنفد يولد آثاراً سمية جينية على الحمض النووي (DNA)، تنتشر من الرئة إلى أجزاء الجسم عن طريق الدم وتتسبب بأضرار بالغة في نخاع العظم والجهاز اللمفاوي والكليتين. وقد تم حجب التقرير ومنع نشر الدراسة من قبل منظمة الصحة العالمية. حيال ذلك ترك بافرستوك العمل فيها.
وبعد تسع سنوات، ها هي المنظمة تكرر فعلتها، وترفض نشر التقرير الخاص بنتائج دراسة أمراض السرطان والعيوب الخلقية في العراق، التي أجراها خبراؤها بالتعاون مع وزارة الصحة العراقية.
يحق لنا أن نتساءل: أين هي المصداقية العلمية لمنظمة الصحة العالمية؟ ولماذا تشارك وزارة الصحة العراقية في التعتيم على الأسباب الحقيقية لانتشار السرطانات والتشوهات الولادية في العراق؟
الدكتور كاظم المقدادي أكاديمي عراقي مقيم في السويد.