كثر الكلام على التلوّث البيئي ومشكلة النفايات وضرورة ايجاد حلول مرضية للتخلص منها. غير ان مجموعة شركات خاصة في البرازيل آثرت العمل الفعلي على الوعود والتمنيات. فدعمت إعادة تصنيع النفايات وعملت على تحويلها الى نشاط اقتصادي مربح وصناعة قائمة في ذاتها.
طالما ساد الاعتقاد ان الدول النامية تحتاج الى الاستنارة بخبرة الدول المتقدمة في إعادة تصنيع النفايات. غير ان الواقع يعكس صورة مغايرة. فإعادة تصنيع النفايات في البلدان النامية نشاط اقتصادي يرقى تاريخه الى عشرات السنين ويمارسه جامعو القمامة باختطافهم أكياس النفايات من الأرصفة والمكبّات وبيعها الى المعامل لاعادة تصنيعها. ويسهّل المواطنون عمل جامعي القمامة لاعتيادهم في بعض البلدان على فرز أوراق الجرائد والزجاجات الفارغة. غير أن هذه الظاهرة تشكل حلاً بديلاً موقتاً وغير كافٍ، لانعدام التجهيزات اللازمة والخطط الشاملة التي تنظّم جمع النفايات ومعالجتها. كما أن الفوضى التي تطغى على ممارسات كثيرين من جامعي القمامة تترك آثاراً سلبية بدل أن تطرح حلاً.
وقد اعتزمت بعض الشركات الخاصة في البرازيل تشكيل جمعية تهتم بتطوير المفهوم الضيّق والمحدود لاعادة تصنيع النفايات وتحويله الى صناعة حديثة لها مكانتها ودورها. فأسست عام 1992 جمعية "كامبر" التي تضم شركات ضخمة تمارس صناعات مختلفة. وبعد خمس سنوات من الخبرة والتمرّس، توصلت كامبر الى استخلاص نقطتين أساسيتين. فقد تبين لها أولاً أن اعادة تصنيع النفايات في البلدان النامية تسلك مساراً مغايراً لذلك المعتمد في البلدان المتقدمة. واستنتجت أيضاً أن الشركات الكبيرة تضطلع بدور حافز وحيوي في تطوير عمليات اعادة التصنيع.
نفايات في الهواء الطلق
يسكن معظم البرازيليين في المدن الساحلية، مثل مدينة سان باولو (16 مليون نسمة) وريو دي جانيرو (10 ملايين نسمة) والعاصمة برازيليا وسبع مدن اخرى يتخطى عدد سكانها المليون نسمة. وتتسبب الكثافة السكانية الساحلية في تقليص المساحة المتوافرة لطمر أطنان النفايات التي ينتجها البرازيليون يومياً (نحو 100 ألف طن) وتخزينها. وأظهرت الاحصاءات الرسمية أن 86 في المئة من تلك النفايات تنقل الى المكبات والمستنقعات التي تتلقى خليطاً من أنواع القمامة) رواسب صناعية سامة، ونفايات منزلية وتجارية، وأخرى طبية غير معالجة. ولا شك في أن الهواء الطلق والمحيط المائي هما من أسوأ الاماكن وأخطرها للتخلص من القمامة.
تتضمن نفايات المدن البرازيلية نوعين رئيسيين. يتألف القسم الاول (50 في المئة) من مواد عضوية، ولا سيّما من بقايا الأطعمة الناتجة عن التقشير والتقطيع والطهو وفساد بعض الأطعمة، خصوصاً تلك المستهلكة في المناطق الفقيرة التي لا تملك الوسائل الضرورية لحفظها. ويتألف القسم الثاني (30 الى 40 في المئة) من مواد قابلة لاعادة التصنيع، كالمواد الورقية والبلاستيكية والمعدنية والزجاجية. وقد ولدت هذه الشريحة من النفايات حركة إعادة تصنيع مهمّة في جوار المدن الكبيرة، يخدمها بنوع خاص جامعو القمامة الذين ينقضّون بالآلاف على المكبات ويجرون لمّتهم في ظروف صحيّة يرثى لها. فيأخذون كميات كبيرة من النفايات القابلة لاعادة التصنيع قبل وصول شاحنات البلدية لجمعها.
ويتسبّب ذلك بتفاوت جلي بين الدراسات الحكومية والاحصاءات الصناعية. فيتبيّن من جهة أن أقل من واحد في المئة من النفايات التي تجمعها البلديات تتم إعادة تصنيعه. وتظهر إحصاءات الجمعيات الصناعية من جهة اخرى أن إعادة التصنيع تشمل 30 في المئة من الورق المستهلك و49 في المئة من علب الالومنيوم و20 في المئة من الأوعية الزجاجية و20 في المئة من القوارير البلاستيكية الخاصة بالمشروبات.
تستهلك الطبقة الوسطى في البرازيل (15 الى 20 مليون نسمة) كميات هائلة من المأكولات السريعة والمشروبات الغازية والحلويات والمستحضرات التجميلية والمطهّرات المنزلية، متّبعة بذلك أسلوب عيش الاوروبيين والأميركيين. فتمتلئ النفايات بالأوعية والعلب الموضّبة لتلك المواد الاستهلاكية، حتى ان عددها المرتفع حثّ بعض المدن البرازيلية عام 1989 على اعتماد برامج جديدة لجمع النفايات، يبدأ تطبيقها في البيوت والمكاتب من خلال فصل النفايات القابلة لإعادة التصنيع عن النفايات العضويّة.
لاقت تلك البرامج تجاوباً شعبياً عارماً، ونجحت في توعية الرأي العام حول العلاقة الوثيقة التي تربط مهملات كل فرد بالبيئة. وبرزت خطة فرز النفايات وإعادة تصنيعها المطبقة في مدينة كوريتيبا (3،1 مليون نسمة) على انها من أهم الخطط المتّبعة في البرازيل وأوسعها. وقد منحها برنامج الأمم المتحدة للبيئة جائزة تقدير عام 1990.
في ضوء تلك المعطيات بادرت بعض الشركات الضخمة الخاصة الى إنشاء جمعية كامبر لدعم إعادة التصنيع وتحديثها. وتهدف برامج كامبر ومنشوراتها الى الترويج لمفهوم إعادة التصنيع وركائزها العملية لحثّ مختلف المرافق، من شركات ومدارس ومؤسسات وسواها، على اعتمادها. وتحولت كامبر، بفضل دراساتها وبحوثها الجديّة، مركز معلومات موثوقة ومرجعاً قيّماً تتم استشارته للتشريع البيئي.
وتساهم كامبر في تحديث إعادة تصنيع النفايات باتخاذها بوادر عدة. فتنشر سلسلة كتيّبات يتناول كل منها جانباً معيناً من برنامج إعادة التصنيع وتوزّع مجاناً. ومن المواضيع التي عالجتها تدريب عمّال المصانع على فرز المواد القابلة لإعادة التصنيع، وكيفيّة جمع الاوراق المستعملة في المكاتب والمدارس.
وأعدت كامبر عام 1993 استقصاءً عاماً شمل البرازيل عموماً لمساعدة السلطات البلدية في تطبيق برنامج فرز النفايات. ويقوم هذا الاستقصاء، الذي حمل اسم سيكلوسوفت، بتحليل البرامج المتّبعة من ثلاثة جوانب: النفايات القابلة لإعادة التصنيع من حيث كميتها وتركيبتها، البنية التحتية المستخدمة والنفقات المترتبة عنها، وقدرة السوق المحلية على استيعاب المواد القابلة لإعادة التصنيع. ولاحظت كامبر، من خلال استقصاء سيكلوسوفت، أن كمية النفايات القابلة لإعادة التصنيع والتي تجمعها شاحنات البلدية تتألف في مجملها من مواد ورقية. وتبيّن لها أيضاً أن كلفة جمع تلك النفايات في شاحنات البلدية تساوي عشرة أضعاف كلفة جمع النفايات العادية، اذ تكلف عملية الجمع 262 دولاراً للطن الواحد، في حين يتم بيع الطن من تلك النفايات بثلاثين دولاراً فقط. وكان الحلّ لتخفيض تلك النفقات تشجيع عمل جامعي القمامة الذين نظّموا صفوفهم في بعض المدن البرازيلية في اطار نقابات. فعملهم السريع والمكثف والمنظم يساهم في تخفيض كلفة جمع النفايات بالشاحنات، كما يؤمّن لهم دخلاً شهرياً ثابتاً يتعدّى مرّتين أو ثلاثاً الأجر الأدنى الذي يقل عن مئة دولار، علماً أن 50 في المئة من الشعب البرازيلي يتقاضى ما دون هذا المبلغ.
وارتأت كامبر تعزيز عمل جامعي القمامة بمساعدتهم في إنشاء النقابات وتنظيم صفوفهم. فرعت إعداد برنامج تدريبي يمتد على شهرين، ويهتم بتوعية جامعي القمامة على أهمية عملهم في حماية البيئة وواجبهم في الحفاظ على نظافة الطرقات وضرورة اتخاذ التدابير الصحية في عملهم، كما ينمّي حسّ الزمالة في أنفسهم مما يهيئهم لتأسيس نقابات. وتهتم المؤسسات غير الحكومية التي تعنى بالمتشردين، والدوائر الحكومية المعنية بالعمل الاجتماعي، بتطبيق هذا البرنامج التدريبي والبقاء على اتصال دائم مع المجموعات التي تتكون في إطار نقابة.
وعملت كامبر، بمؤازرة معهد البحوث التكنولوجية في البرازيل، على إعداد كتيّب من 200 صفحة يوضح كيفية التخلّص من النفايات باعتماد خطة شاملة تقوم على أربع ركائز: طمر النفايات، اعادة تصنيعها، تحويلها الى أسمدة، حرقها. وتمّ توزيع هذا الكتيّب على كل البلديات البرازيلية التي يبلغ عددها نحو خمسة آلاف.
وجمعت بين كامبر وجمعية تنمية المؤسسات التجارية الصغيرة شراكة أخرى قوامها نشر كتيّبات تدعم الاستثمار في إعادة التصنيع. وتوضح تلك المنشورات الهيكلية والاستثمارات اللازمة لتحويل النفايات الى مواد قابلة للاستهلاك. وتقام من خلال تلك الشراكة أيضاً دورات تدريبيّة للمؤسسات التجارية الصغيرة حول كيفيّة التقليل من كمية النفايات التي تنتجها.
وخصصت كامبر خطاً هاتفياً يتلقى الاتصالات نهاراً وليلاً لتزويد المرافق التي تودّ بيع نفاياتها بأسماء معامل تشتري تلك النفايات وتعيد تصنيعها. واعتمدت الوسيلة نفسها لتزويد المتصل بمعلومات دقيقة عن التجهيزات اللازمة لجمع النفايات وفرزها وتوضيبها ومعالجتها.
تجربة البرازيل في بلدان أخرى
تبيّن من خلال تجربة كامبر أن اعادة تصنيع النفايات نشاط اقتصادي يسهل تطويره وتنميته في الدول النامية لاستيعابه يداً عاملة كثيفة. فالرواتب المرتفعة في الدول المتقدمة ترفع من تكاليف الفرز والتحويل. فتصادف هذه الدول مشاكل جمّة في استيعاب نفاياتها القابلة لاعادة التصنيع، وغالباً ما تفضّل تصديرها على غرار الولايات المتحدة وألمانيا. غير أن الدول النامية تشهد وضعاً مغايراً، اذ يمكنها اعادة تصنيع نفاياتها. فلمَ لا تتكرر تجربة البرازيل في دول نامية أخرى، لا سيّما ان تحقيقها لن يقع برمته على عاتق السلطات المحلية أو مؤسسة واحدة، بل سيكون وليد جهود عدة يخفف تضافرها من الصعوبات.
فالقطاع الخاص يضطلع بدور هام في تطوير عمليات إعادة التصنيع التي لا تزال في معظم الدول النامية صناعة متخلفة.
وقد برز أيضاً من خلال نشاطات كامبر عمل المؤسسات غير الحكومية التي تساهم، بخبرتها الطويلة ومساعدتها القيّمة، في إعداد المشاريع وإنجاحها. ولا ريب في ان التعاون الحكومي على جانب كبير من الاهمية، سواء على صعيد مساهمته في إعداد الاستقصاءات والدراسات أو وضعه خطة شاملة لفصل النفايات العضوية عن تلك القابلة لاعادة التصنيع وتخصيصها بحاويات مختلفة على الارصفة.
أما تقنيات تحويل النفايات الى مواد قابلة للاستهلاك فمتوافرة في السوق العالمية. لكن لا أمل في تكرار تجربة البرازيل إن افتقرت الدول النامية الى عنصرين اساسيين: الاقتناع العميق والجرأة في المبادرة.
إعداد: لينا أصفر
كادر
جمع القمامة في القاهرة
في القاهرة مقاولون ورثوا جمع القمامة عن أجدادهم الذين هجروا الواحات البحرية منذ نحو مئة عام، وهم أول من فكر في التعاقد على جمع قمامة القاهرة. وورثوا أيضاً الأحياء والبنايات التي كان يتعاقد عليها أجدادهم، يأخذون النقود من سكانها في نهاية كل شهر. أما فقراء الصعيد فقد قدموا الى القاهرة منذ خمسين عاماً آملين في تحسين أوضاعهم الحياتية. فبدأوا العمل زبالين، وما زال دخلهم قليلاً.
ولدى المقاول أكثر من عشرة زبالين، لا يدفع لهم أجراً وإنما يأخذ منهم مبلغاً شهرياً في مقابل الزبالة (القمامة) التي جمعوها، إضافة الى ما يأخذه من أصحاب الشقق. ويعتمد المبلغ الذي يأخذه المقاول من الزبال على طبيعة المنطقة التي تأتي منها زبالته. فزبال الأحياء الراقية يدفع للمقاول أضعاف المبلغ الذي يدفعه زبال الأحياء الشعبية. وفي المقابل، يكون المستوى الاجتماعي لزبالي المناطق الراقية أفضل من مستوى زبالي المناطق الشعبية. والسبب في ذلك أن الزمالك مثلاً حي يسكنه أغنياء المصريين الذين تحتوي زبالتهم على علب وزجاج وثياب أكثر. وربما يجد فيها جامع القمامة أشياء ذات قيمة. لذلك قد يرفض المقاول التعاقد مع الأحياء الفقيرة جداً في القاهرة، لأن سكانها لا يستطيعون دفع المبلغ الشهري، كما أن زبالتهم لا تحتوي على شيء يمكن استخدامه.
وثمة مقاولون يحتكرون الزبالين. فيأخذون كل المنتجات الصلبة مثل البلاستيك أو المعادن ويبيعونها لحسابهم ولا يعطون الزبالين إلا بقايا القمامة التي لا يوازي بيعها التعب الذي تكبدوه.
ويقوم الزبالون بفرز النفايات، فيضعون البلاستيك وصفائح الألومنيوم والقماش كلا على حدة لبيعها الى المصانع التي تعيد تدويرها. وهم يعيشون في بيوت بنوها من دون ترخيص في أسفل جبل المقطم في منطقة قاحلة حيث لا ماء ولا كهرباء، بعدما طردتهم السلطات من الأحياء الشعبية في القاهرة. وتحاول المنظمات غير الحكومية رفع المستوى المعيشي لهذه الفئة التي تفيد كثيرين ولا تستفيد، عبر بناء مدارس للأولاد ودور لتعليم الأشغال اليدوية والحياكة للسيدات.
ومن مشاكل الزبالين أن الدولة تريد أن تبيعهم الأرض التي أقاموا عليها بأسعار اليوم، وهي كانت صحراء قاحلة عندما أتوا إليها قبل ثلاثين عاماً، فمهدوا الأرض وبنوا عليها بيوتاً من الصفيح في البداية. ويعيش أهالي هذه المنطقة محرومين من المرافق. تنبعث رائحة الزبالة قبل دخول الحي بعشرات الأمتار، وتغوص قدماك في الطين المجبول بروث الحيوانات ومياه المجاري في طرقات الحي وأزقته. وتغطي المنطقة سحابة من الدخان الاسود المنبعث من المحرقة، تعمي العيون وتقطع النفس. ولا يجد الزبال مفراً من حياته هذه لأنها الخيار الوحيد الذي يوفر له لقمة العيش.