عندما يختفي الدخان الأسود من مداخن المصانع، يظن الناس أن التلوث انتهى ولن يعود. وعندما يختفي الضباب الداكن من السماء، يحسب الناس أنهم تخلصوا من الملوثات وأن الهواء أصبح نقياً صافياً صالحاً للاستنشاق. فهل هذه النظرة سليمة؟ وهل التلوث يعني فقط ظهور الدخان الاسود؟ ان من يتصفح التاريخ يلحظ أن التلوث في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ومطلع القرن العشرين كان مرتبطاً باللون الأسود أو الدخان، أي ان التلوث في تلك العهود الماضية كان ظاهراً، يشاهده الانسان بسبب ما يتركه من بصمات سوداء على ملابسه وجسمه ومبانيه وممتلكاته. وقد كانت لهذه الصور من التلوث الدخاني القاتم آثار واضحة على سلوكيات الأفراد والشركات، من حيث انتاج واختيار ألوان الملابس وطلاء المنازل والمكاتب. فاتجهت معامل كثيرة في البلدان الصناعية نحو صناعة ملابس ملونة خالية من الأبيض، لا تتأثر ألوانها كثيراً بالدخان السائد. وكانت معظم المنازل تدهن بألوان معتمة تخفي بصمات الدخان.
أما الآن فقد انتهى عهد الدخان الأسود والتلوث المرئي، وبدأ عصر التلوث الخفي بمواد معظمها بلا لون، أو ذات ألوان غير فاضحة كالدخان الأسود.
زائر الشتاء وزائر الصيف
من 17 الى 23 كانون الثاني (يناير) 1985، في بعض مناطق ولاية نورث راين وستفاليا في غرب ألمانيا، توقفت حركة السيارات كلياً، وشل المرور، وخفض انتاج المصانع، وأطلقت صفارات الانذار محذرة من خطر محدق يهدد حياة الانسان. وارتفع عدد الوفيات بنسبة 8 في المئة، وعدد نزلاء المستشفيات 15 في المئة، وعدد الذين أدخلوا أقسام الطوارئ 28 في المئة.
ظهرت بوادر الكارثة عندما انخفضت الحرارة الى 12 درجة مئوية تحت الصفر، وسكنت الرياح وتحولت الى حالة ركود. المناطق المزدحمة بالمصانع والمكتظة بالسيارات كانت هي الفريسة الاولى، وهي التي قدمت معظم الضحايا. ولم يلق الاتهام على ملوث واحد، فقد كانت الكارثة نتيجة التأثير الجماعي والتراكمي لعدة ملوثات. بلغ تركيز غاز ثاني اوكسيد الكبريت 2170 ميكروغراماً في المتر المكعب، وثاني اوكسيد النيتروجين 230، والكبريتات 123، وأول اوكسيد الكربون 8000، والجسيمات الدقيقة العالقة 850.
والى المصادر الذاتية للملوثات داخل المنطقة، كانت هناك مصادر أخرى انتقلت عبر الحدود الى غرب ألمانيا. فالرياح الشرقية والشمالية الشرقية حملت معها ملوثات من شرق ألمانيا وتشيكوسلوفاكيا السابقة. وغشيت الكارثة البيئية مناطق واسعة من اوروبا، خصوصاً الدول الواقعة في شمال غرب القارة مثل هولندا وبريطانيا.
هذه الحادثة ومثيلاتها، الناجمة عما يسمى ضباب الشتاء، ترتبط بالملوثات المنطلقة من احتراق الفحم ومشتقات النفط في المصانع والمنازل. أما الملوثات المسؤولة عن هذه الحوادث فهي أساساً ثاني اوكسيد الكبريت والكبريتات والجسيمات الدقيقة.
وهناك نوع آخر من الحوادث البيئية الناجمة عن تلوث الهواء، لكنها تقع في فصل الصيف، وقد سميت حوادث ضباب الصيف.
بدأت مشكلة تلوث الهواء تظهر في لوس انجلس (كاليفورنيا) في مطلع الاربعينات، وبالتحديد عام 1942، عندما ارتفعت كمية الجسيمات الدقيقة المنطلقة من المصانع. وعانى المواطنون من حساسية وتهيج في العيون والجهاز التنفسي. وجهت أصابع الاتهام الى الملوث التقليدي القديم وهو ثاني اوكسيد الكبريت. وفي مطلع 1947، وضعت أجهزة على فوهات المداخن في المصانع الملوثة لمعالجة هذا الغاز قبل انطلاقه الى الهواء. فانخفضت مستويات ثاني اوكسيد الكبريت. ومع ذلك استمرت معاناة الناس.
في بداية الخمسينات انقشعت غمامة هذا اللغز المحير عندما اكتشف باحث أميركي اسمه آري هاغن سميث، أثناء قيامه ببعض التجارب المختبرية، غازاً ساماً جداً له رائحة قوية. انه الاوزون. ثم أخذ عينة من هواء مدينة لوس انجلس حيث كان يعمل، وقام بتحليلها. فوجد أن فيها نسباً مرتفعة من غاز الاوزون والمركبات الهيدروكربونية ومركبات الالديهايد، التي لم يكن العلماء يعرفون بوجودها في الهواء. وبعد هذا الاكتشاف، جاءت التجارب والأبحاث المستفيضة للتعرف على نوعية الملوثات في هواء لوس انجلس، وطرق تكوينها، ومصادرها الرئيسية.
توجه العلماء في البداية الى المصانع كمصادر أساسية لهذه الملوثات الجديدة. ولكن اتضح لهم أنها ليست هي أساس المشكلة الغريبة، بل السيارات بمختلف أحجامها وأشكالها والتي تصل أعدادها في المدينة الى أكثر من ثمانية ملايين. وأطلق العلماء على الضباب الذي يتكون في سماء لوس انجلس اسم الضباب الضوئي الكيميائي (photochemical smog)، لأنه ينتج من تفاعل اوكسيدات النيتروجين والمركبات الهيدروكربونية بوجود ضوء الشمس، فتتشكل مجموعة من الملوثات تسبب ضباب الصيف.
هذه المشكلة التي ظهرت في لوس انجلس انتقلت عدواها الى مدن كبرى اخرى. ففي 18 تموز (يوليو) 1970 اشتكى سكان طوكيو وكوكايدو في اليابان من أعراض مرضية حادة منها تهيج العينين والحنجرة والأنف وضيق في التنفس وصداع وغثيان. وفي أثينا عاصمة اليونان أدخل أكثر من 600 شخص الى المستشفيات في الفترة بين 12 و16 تشرين الأول (اكتوبر) 1993، وهم يعانون من أزمات قلبية وضيق في التنفس بسبب غمامة خانقة جثمت فوق المدينة خمسة أيام متتالية. كانت هذه الغمامة ناجمة عن الملوثات التي انطلقت من مصادر مختلفة أهمها السيارات، وكونت ثاني اوكسيد النيتروجين والاوزون وملوثات اخرى بتركيزات عالية جدا.
وهذه المشكلة ليست مقتصرة على المدن الصناعية الكبرى، وانما نراها أيضاً في مدن البلدان النامية التي تكثر فيها السيارات، خصوصاً في المناطق الحارة. ودول الخليج العربي من بين هذه الدول، حيث مقومات هذه الظاهرة، من ملوثات عوادم السيارات والشمس الحارة، كلها موجودة بشكل مستمر في بيئة الخليج العربي. فمن الضرورة، قبل فوات الأوان، اتخاذ ما يلزم من اجراءات وقائية صارمة، لكي لا ينزل علينا البلاء الذي نزل على لوس انجلس وغيرها من المدن. فالوقاية خير من العلاج.
العيد الحزين
استيقظ الناس في لندن يوم الخميس الموافق 4 كانون الأول (ديسمبر) 1952 واستعدوا للخروج الى الشوارع المزينة بزينة الميلاد. لكن ذلك اليوم كان مختلفاً، فقد تميز ببرودة شديدة وهواء قارس متجمد تحرك من مناطق باردة الى جنوب بريطانيا، وخصوصاً الى العاصمة لندن. وصاحبت هذا الهواء البارد سحابة بيضاء وضباب كثيف جثم فوق المدينة. وظن الناس أن الوضع الشاذ لن يستمر طويلاً وأن الضباب سينقشع حتماً بعد ساعات.
وفي صباح اليوم التالي ازداد الطقس سوءاً، وقوي الضباب حتى وصلت كثافته الى 100 متر. وفي غضون ساعات قليلة أصبحت الرؤية منعدمة. ووقعت ظاهرة جوية غريبة، فقد حدث ما يسمى "الانقلاب الحراري"، الذي يرافقه ثبات الظروف المناخية في الطبقات العليا نتيجة انعدام تيارات ورياح تحرك الهواء. وتكمن خطورة هذا الوضع في أن الملوثات التي تنطلق من المصانع والسيارات وغيرها تتركز في الهواء لعدم وجود تيارات تشتتها وتبعثرها وتمنعها من التراكم في منطقة محددة.
ومع انخفاض درجة الحرارة ازدادت حاجة الناس الى التدفئة، وازداد احتراق الفحم لتوليد الكهرباء. فارتفعت نسبة الملوثات المنطلقة الى الهواء، مثل ثاني اوكسيد الكبريت والجسيمات الدقيقة والدخان الأسود، فتراكمت في طبقات الجو المستقرة حتى وصلت الى درجة الخطر. وكانت لندن تحرق في ذلك الوقت نحو 170 ألف طن من الفحم يومياً، وهذه تطلق الى الهواء نحو 1000 طن من الجسيمات السوداء والدخان و140 طناً من حمض الهيدروكلوريك و2000 طن من ثاني اوكسيد الكبريت و14 طناً من مركبات الفلورين.
وازدادت حالة الطقس سوءاً، وارتفع تركيز الملوثات، حتى بات المرء لا يستطيع ارتداء قميصه أكثر من نصف ساعة حتى يسود لونه. فقد بلغ تركيز الدخان 4460 ميكروغراماً في المتر المكعب، وتركيز ثاني اوكسيد الكبريت 3750، وأول اوكسيد الكربون 180 الفاً، وحمض الكبريتيك 4500.
ولم يمض يوم الجمعة الا وقد ازدحمت المستشفيات بالمرضى وظهرت العلل والأسقام: تهيج في الجهاز التنفسي، واحمرار في العيون، وحريق في الحنجرة، وسعال شديد مستمر، وآلام في القلب. توفي 110 أشخاص في اليوم الأول، و200 في اليوم الثاني، و280 في اليوم السادس، و500 في اليوم السابع. وفي اليوم العاشر انقشع الضباب، لكن الوفيات لم تعد الى معدلها الطبيعي الا بعد اسبوعين. وأسفرت الكارثة عن 4000 وفاة.
وهكذا انقلب شهر العيد مناحة.
ان هذه الكارثة لم تحدث بين عشية وضحاها، ولم تكن نتيجة وضع مناخي ليوم واحد، ولا بسبب انطلاق الملوثات الى الهواء في ذلك الاسبوع فقط، وانما كانت نتيجة انبعاث الملوثات عبر سنين طويلة، مما أدى الى تركيزها وتراكمها وتشبع الهواء بها. وقد وقعت حوادث مشابهة ولكن أقل ضراوة من هذه المأساة الجماعية، في كانون الأول (ديسمبر) 1873 وكانون الثاني (يناير) 1880 وشباط (فبراير) 1882 وكانون الأول (ديسمبر) 1891 و1892 وكانون الثاني (يناير) 1948. أما الظروف المناخية السيئة فكانت عاملاً مساعداً لوقوع هذه المصيبة، ولم تكن هي السبب.
بعد هذه الحادثة مباشرة اجتمع البرلمان البريطاني وشكل "لجنة بيفر" لدراسة المسألة. وتلخصت توصيات اللجنة في تقليل استخدام السيارات وحرق الفحم أثناء الضباب، واطلاق تحذيرات للمواطنين عند حلول الضباب، والبقاء في المنازل أو ارتداء أقنعة تمنع دخول الملوثات الى الجهاز التنفسي. وبادر البرلمان عام 1956 الى سن قانون لتحسين نوعية الهواء يعرف بقانون الهواء النظيف (Air ActClean).
دونورا
دونورا مدينة صغيرة في ولاية بنسلفانيا الأميركية، تتميز بموقع فريد وطبيعة جميلة، اذ تقع في واد تحيط به الجبال من كل جهة، ويجري في وسطها نهر موننغاهيلا. وكانت تشتهر بكثرة مصانعها، ومنها مصنع حمض الكبريتيك ومصاهر الحديد. واكتظت طرقاتها بالسيارات والقطارات. فقد كانت قلب المنطقة النابض بالحياة والنشاط.
صباح الاثنين 25 تشرين الأول (اكتوبر) 1948، ذهب العمال كعادتهم الى مصانعهم والموظفون الى مكاتبهم. كانت الظروف المناخية غريبة، فالجو شديد البرودة والرؤية شبه منعدمة بسبب الضباب الكثيف الذي جثم فوق الوادي، والرياح ساكنة كأنها لم تستيقظ من سباتها. وبدت المدينة كأنما فوقها كابوس هامد لا يتزحزح. واستمرت درجة الحرارة في الانخفاض، وتراكم الضباب وتكثف فوق رؤوس السكان. وفي اليوم الثالث ازداد الوضع سوءاً. وتحركت سحب باردة من سفوح الجبال الى قلب الوادي مكونة طبقة كثيفة من الضباب. وانعدمت الرؤية بحيث أصبحت القيادة مستحيلة في شوارع المدينة. وكانت طبقة ضبابية مماثلة ظهرت للمرة الاولى في منطقة صناعية في وادي ميوز، بلجيكا، عام 1930، وأدت الى مرض مئات الأشخاص ووفاة ستة.
كانت الحياة تسير كعادتها. فالمصانع دائرة، ينطلق من مداخنها الدخان الأسود المليء بالمواد الكيميائية السامة التي كانت تشوب بياض الضباب وتعكر رائحته وتعطيه طعماً غريباً. فقد بلغ تركيز غاز ثاني اوكسيد الكبريت 5500 ميكروغرام في المتر المكعب.
ومع استمرار انطلاق الملوثات من المصانع والسيارات، وثبات طبقات الجو واستقرارها، وصل تركيز السموم الى النقطة الحرجة. واشتكى نحو نصف السكان البالغ عددهم 14 ألفاً من سعال شديد وصداع مستمر وتهيج في الأنف والعينين وضيق في التنفس وتدهور في أداء القلب وحمى شديدة.
ويذكر أحد الأطباء الذين عاصروا ذاك الاسبوع الحزين أن هاتفه ظل يرن باستمرار من الرابعة عصر الجمعة حتى مساء الأحد. وقال إن الحالات التي عاينها كانت متشابهة. فقد شكا الجميع من الأعراض نفسها: ألم في البطن، صداع قوي، تقيؤ وغثيان، صعوبة في التنفس وسعال مصحوب بالدم. ويروي الطبيب أنه في البداية ظل هادئاً، لأن الناس الهستيريين يجعلونه يشعر بالهدوء. ثم ازدادت الحالة سوءاً، وتعذر على الطبيب الوصول الى عيادته. فالشارع تحول معمعة من دخان أسود كثيف يحجب الرؤية، ولم تعد أضواء السيارة مجدية، لا بل إن الخط الأبيض في منتصف الطريق لم يعد ظاهراً للعيان. وما إن ترجل من سيارته حتى شعر بتصلب في صدره وتذوق مرارة السخام في فمه. وراح يسعل من دون أن يستطيع كبت نفسه حتى انقلبت أحشاؤه وبدأ يتقيأ. وهكذا كانت حال معظم الأشخاص. فوضعوا مناديل على أنوفهم وأفواهم لمنع الدخان من الدخول الى أجسامهم. ولكن على رغم ذلك كان الجميع يسعل بشدة. وقالت سيدة من سكان المدينة: "لم يكن الضباب مجرد سخام وغبار، بل كان رماداً رطباً زبدياً أبيض اللون"
وأعلنت حالة الطوارىء في المنطقة، وفتحت مراكز للاسعافات الاولية ولاستقبال الأعداد الكبيرة من المرضى. وبثت الاذاعات أخبار الضباب القاتل الذي غزا المنطقة برمتها وسبب حالة ذعر بين المواطنين.
وفي ظهيرة الأحد 31 تشرين الأول (اكتوبر) تحركت الرياح بتثاقل وأزاحت الغمام المخيم والضباب القاتل. وصفا الجو وتبعثرت الملوثات. وقامت دونورا تحسب ضحاياها. توفي 22 شخصاً، وبلغ عدد المرضى نحو 6000 ونفق نحو 800 حيوان داجن، وتضررت مساحات واسعة من الأراضي الزراعية.
استمر التحقيق في الكارثة لمدة سنة تقريباً. وهو لم يكن فقط أول فحص عالمي شامل لمشكلة تلوث الهواء، وإنما كان أيضاً أحد أكثر التحقيقات المضنية التي عرفتها البشرية في مجال الصحة العامة.
د. اسماعيل محمد المدني، استاذ تلوث البيئة في جامعة الخليج العربي ـ البحرين