تكاد مقررات بعض المؤتمرات الدولية المعنية بالبيئة أن تكون دعوة الى الدول الفقيرة للموت عطشاً وجوعاً ومرضاً. فهي تدعو الى التوفير في استهلاك المياه وفرض رسوم مرتفعة عليه، في بلدان يعاني الملايين من سكانها أصلاً نقصاً هاماً في امدادات المياه النظيفة، ويوازي استهلاك الفرد السنوي للماء فيها الاستهلاك الأسبوعي لمواطن في دولة صناعية. وهي تدعو الى وضع قيود على الزراعة وانتاج الغذاء حفاظا على التنوع البيولوجي وسلامة التربة، في بلدان يعاني سكانها نقص الغذاء ويموت أطفالها جوعاً ومرضاً.
صحيح أن مشكلة المياه كبيرة جداً. فأحدث الأرقام تشير الى أن أكثر من مليار شخص، أي 02 في المئة من سكان العالم، يعانون نقصاً خطيراً في مياه الشرب النظيفة، بينما يفتقر 05 في المئة من الناس الى المياه الكافية لتأمين الحد الأدنى من النظافة والصحة العامة. ومن المتوقع أن تتفاقم هذه المشكلة خلال السنوات الـ52 المقبلة، حيث سيواجه ثلث سكان العالم أزمات ماء.
وصحيح أن العالم يخسر كل سنة ملايين الهكتارات لمصلحة الصحراء، بسبب الاستغلال المكثف وغير السليم للأراضي، وأن الأنواع الحية تنقرض بسبب زحف العمران وانتشار الصناعة والاستغلال غير المتوازن للغابات والموارد، ناهيك عن مجموعة كبرى من المشاكل البيئية الملحة مثل تلوث الأنهار والمحيطات والهواء والأرض.
هذه كلها مشاكل حقيقية وثابتة وتحتاج الى حلول سريعة. ولكن السؤال يبقى كيف يمكن أن نضع قيوداً على تأمين الماء والغذاء للعطشان والجائع، بلا توفير بدائل. ولماذا يتم تسويق مبدأ التوفير في الاستهلاك على أنه الحل الوحيد؟
ان الحرص في استخدام الموارد الطبيعية عمل ضروري. لكن الاكتفاء بهذا القدر من المعالجة لن يؤدي الا الى زيادة العوز والفقر، عن طريق توزيع القليل المتوفر من الموارد المتناقصة على العديد من الناس المتكاثرين. وفي هذا التوجه استخفاف بكرامة الانسان وحقوق الفقراء وقدرة العقل البشري.
ما نأمل من مقررات المؤتمرات الدولية إقامة برامج لنقل التكنولوجيا وتطويرها في الدول النامية نفسها، بحيث يترافق الحفاظ على البيئة مع احترام كرامة الانسان، ويترافق الحرص على الموارد مع استنباط أساليب انتاج نظيفة جديدة.
الدول العربية التي تعاني شحاً في المياه العذبة تقع جميعها على بحار غنية بالمياه المالحة. وكثير من الدول النفطية يعمد الى تحلية مياه البحر عن طريق التقطير أو التناضح العكسي. وجميع تقنيات التحلية المعتمدة حالياً مكلفة جداً ولا يمكن تعميمها، وهي قائمة كلياً على تكنولوجيات مستوردة تم تطويرها في بلدان لا تعاني شحاً في المياه العذبة ولا تحتاج الى تحلية مياه البحر. فماذا يمنع ضخ موارد مالية كبيرة في برامج أبحاث تستخدم طاقات علمية محلية وعالمية، من أجل تطوير تكنولوجيات رخيصة الكلفة لتحلية مياه البحر؟ كيف يمكن الاستفادة من الطاقة الشمسية ومساحة الصحراء الشاسعة، مثلا، والاثنتان موجودتان بوفرة في المنطقة؟ هل يمكن اقامة برك تجميع واسعة في الصحراء، وضخ المياه في الرمال لسحبها وقد فقدت جزءاً من الملوحة قبل تحليتها؟ أسئلة كثيرة يطرحها العلماء، وتحتاج الى دراسات جدية. ففي هولندا، مثلا، تجارب ناجحة في تنقية المياه عن طريق ضخها في باطن الأرض عبر كثبان الرمال.
وبدل الاكتفاء بالتحذير من سوء استخدام الأراضي في الزراعة، يجدر العمل الجدي، وبموارد ضخمة للأبحاث أيضاً، على استنباط أساليب ملائمة لاكثار انتاج الغذاء، مع المحافظة على سلامة البيئة. ولا بد من تطوير فصائل جديدة تتأقلم مع الظروف المناخية والطبيعية في المنطقة. وهل يعجز العلم الذي توصل الى استنساخ خلايا حية عن تطوير فصائل من الحبوب يمكن زراعتها في المياه المالحة بكلفة مقبولة؟
والى جانب التكنولوجيات الموجهة الى انتاج كميات كبيرة على مستوى جماعي، ما هي الجهود المبذولة في تطوير تكنولوجيات محلية ملائمة يمكن من خلالها تطوير الانتاج وتحسين نوعية الحياة بجهود فردية؟
على الدول النامية أن ترفض نظرية العدالة المزعومة القائمة على توزيع القليل الذي لديها، وتتجه الى تطوير تكنولوجيات الانتاج الملائمة والنظيفة والمبتكرة التي تؤمن الكثرة. فالتوزيع العادل في مفهوم التنمية المستديمة هو توزيع غنى لا توزيع فقر.