أصبحت الشكوى من شح الموارد المالية الحجة الأولى لتقصير برامج التنمية الدولية في تحقيق نتائج. والاستكانة الى هذه الحجة التبريرية لن تؤدي الى تدفق الموارد ولا الى التقدم في تحقيق برامج ناجحة. فالمشكلة الكبرى التي تتمادى المنظمات الدولية في التغاضي عنها هي القصور في الارادة والادارة. ناهيك عن محدودية الخيال.
وقد يكون من أخطر افرازات قمة الأرض في 1992 هذا السيل من البرامج المكررة التي نتجت عنها، والتي تحمل أسماء فضفاضة، تبقى مشكلتها الكبرى أن القائمين عليها أنفسهم لا يعرفون في حالات كثيرة ماذا تعني والى ماذا تهدف. فعلى أي أساس تكون المحاسبة وتقييم الانجازات؟ "شبكة التنمية المستدامة"، "بناء القدرات"، "مرفق البيئة العالمي"، "صندوق الاتحاد الأوروبي"، وغيرها عشرات من الأسماء، التي تحمل في طياتها أهدافاً نبيلة، غير أنها ضائعة في معمعة التشويش والتضارب.
لقد خلقت قمة الأرض، عن قصد أو بالمصادفة، نوعاً خطيراً من التنافس المنفلت بين المنظمات، وحتى بين البرامج المختلفة داخل المنظمة نفسها، على اقتطاع جزء أكبر من العمل البيئي. وفي خضم هذه الفوضى ضاع الهدف وأصبحت البرامج تدور في حلقات مفرغة، وكأن وجودها واستمرارها هما الانجاز المطلوب، وليس نجاحها في الوصول الى الناس وإحداث تغيير ملموس في نوعية الحياة.
كيف يحق للمنظمات أن تشكو من قلة الموارد وهي تستخدم مواردها الشحيحة في برامج مكررة بلا تنسيق ولا محاسبة؟ في أحد بلدان المنطقة، أعد برنامج أعد برنامج الأمم المتحدة للبيئة خطة وطنية للاعلام والتوعية البيئية بطلب من وزارة البيئة وبالتنسيق معها. واذا بثلاث منظمات أخرى، نطاق عملها الغذاء والزراعة والصحة، تصرف عشرات الآلاف من الدولارات لاعداد خطط في الموضوع نفسه وللبلد نفسه. وهي كلها بقيت على الرفوف وفي الأدراج.
وفي حالة أخرى، أعدّ برنامج الأمم المتحدة الانمائي، بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة، مشروع قانون بيئي وتشريعات بيئية ومبادئ لتقييم الأثر البيئي، في مجهود استمر سنتين وشارك في تطويره عشرات الاختصاصيين وراجعه مئات المسؤولين في الادارات المحلية والمنظمات الدولية المختصة، وجاوزت كلفته نصف مليون دولار. فاذا بمنظمة أخرى تكرر العمل نفسه، وتقدّمه على أنه المحاولة الأولى في هذا المجال. فهل يكون الاهتمام البيئي لهذه البرامج محصوراً في "اعادة التدوير"، التي يبدو أنها تفهمه اعادة تدوير التقارير والخطط، لتصبح اجتراراً يفقد كل مضمون ومعنى؟
وقد خلق هذا التراكم في البرامج الدولية ذات العناوين البيئية نوعاً جديداً من العرض والطلب. فتشكلت فئة من "الخبراء البيئيين" في كل مجال وبلا مجال أيضاً. فالذي أعد منذ عشرين سنة ورقة جامعية تضمنت استقصاء عن أنواع التربة مثلاً، باعها اليوم الى أحد البرامج أو الوزارات ونصّب نفسه خبيراً في "بيئة التراب". وفي حالات كثيرة يبيع الورقة نفسها الى برامج متعددة، مع تغيير العنوان. والذي حضر دورة إعدادية لخمسة أيام في "تقييم الأثر البيئي"، ولو غاب عن معظم حلقاتها، أصبح يعرّف عن نفسه كخبير في تقييم الأثر البيئي. والذي حصل على شهادة في البيئة من "جامعة" ينحصر وجودها في عنوان بريدي، أصبح يلقي محاضرات ويبيع دراسات في البيئة. ولا بأس اذا نقل المعلومات والصور، مقاطع وصفحات كاملة، عن مجلات وكتب اختصاصيين، حتى من دون ذكرهم.
هذا كله من تشعبات وافرازات مشاريع أصبحت تسمي الانسان "المستفيد" (stakeholder)، وكأنها تريد تحويله الى رقم في مجموع الفقراء وتجرده من انسانيته. وكأن هدف التنمية لم يعد الانسان ونوعية الحياة. وفي مواجهة هذا التشويش، بتنا نتساءل هل المقصود تحويل البيئة والتنمية الى ملهاة للدول النامية، وشعارات بلا "أسنان"، لتبقى القرارات الكبرى التي تغيّر مجرى الأحداث في يد منظمات التمويل والكبار الذين يملكون المال والاقتصاد والسلاح؟
وهل أصبحت المؤتمرات والتقارير هدفاً في ذاته، بلا خطة ورؤية واضحة ومحاسبة على نتائج، وكل تقرير يقترح تقريراً لاحقاً، وكل مؤتمر يقترح مؤتمراً مكمّلاً؟ وهل أصبحت الاستدامة تعني دوام المؤتمرات والتقارير والوظائف والتنفيعات؟
لقد آن لهذا الكرنفال البيئي ـ الانمائي أن ينتهي.
|