طلبت منا إحدى وزارات البيئة في بلد عربي ابداء الرأي في مسوّدة مشروع يموله المرفق العالمي للبيئة. والمرفق هو هيئة التمويل البيئي التي أنشئت عقب قمة الأرض في 1992، ويضم البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الانمائي وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة. المشروع يلحظ انشاء هيئة ادارية في اشراف وزارة البيئة، ويقوم على تدريب قدرات محلية في مجال حماية الطبيعة، لتمكين الوزارة والهيئات المحلية من متابعة العمل بقدراتها الذاتية خلال ثلاث سنوات.
الى هنا، بدت الخطة جيدة ومنطقية، اذ لحظت تسليم مشروع قابل للحياة بعد سنوات ثلاث، تتولى السلطات المحلية ادارته. غير أن المشروع حدد في موازنته أرقاماً مبالغاً فيها لا تتوافق مع السوق المحلية، منها مبلغ مئة وخمسين ألف دولار سنوياً تكاليف للمدير، وألف دولار معاشاص شهرياً لسائق، اضافة الى أرقام مشابهة لوظائف أخرى. وكان يفترض أن يعمل هؤلاء في وزارة لا يتجاوز الراتب الشهري لأكبر موظف فيها السبعمئة دولار. فيكون ما يتقاضاه سائق المشروع أكثر من راتب رأس الهرم الوظيفي في الوزارة، الذي يفترض به أن يكون رئيساً لمدير المشروع نفسه. واذا افترضنا أن جميع العناصر الفنية الأخرى للمشروع جيدة، فكيف يمكن لمدير عام أو وكيل وزير أن يتمتع بسلطة الرئيس على مدير مشروع يتقاضى راتباً ومخصصات تفوق عشر مرات ما يتقاضاه هو؟ وكيف يتعامل اختصاصي يحمل دكتوراه مع سائق يتفوّق عليه راتباً؟ هل يمكن أن نتصور العلاقات التي ستنشأ بين هؤلاء والحزازات التي لا مفر منها؟
واذا كتب للمشروع أن يحقق نتائج، على رغم الحزازات والمتاريس التي لا بد أن تقوم، فكيف يمكن للسلطات المحلية أن تؤمّن له الاستمرار بعد سنوات، حين تتسلمه ويطلب منها تمويله؟ فهذه السلطات ملزمة بجداول الرواتب المحلية، ولن يمكنها أن تدفع للسائق، ناهيك عن الفنيين الذين يكون قد تم تدريبهم في نطاق المشروع، رواتب تبلغ أضعاف تلك المعمول بها محلياً. وأمام هذا الوضع، سيتحتم اما ايقاف العمل واهدار جهد ومال، واما اللجوء الى ادارة جديدة غير مدربة تقنع بالرواتب السائدة، وفي هذا هدر للتدريب الذي يكون قد حصل عليه الفنيون الذين تم توظيفهم ببدلات لا تتوافق والواقع المحلي.
ولا تقتصر المفارقات على الرواتب والمخصصات. ففي حالات كثيرة، تقتطع المنظمات والهيئات المانحة نسباً كبيرة من قيمة المشاريع كمصاريف ادارية، قبل أن يصل الى المستفيدين أي مبلغ. وقد روى لنا وزير صديق أن احدى المنظمات أعلنت عن تقديم مبلغ لمشروع في وزارته، وعممت الخبر على وسائل الاعلام، وحين جاء وقت التنفيذ حسمت المنظمة من المبلغ أكثر من نصفه مصاريف سفر وادارة لتحضير المشروع. ولم يكن سهلاً للوزير أن يبرر لزملائه ولا للمستفيدين هذا النقص في المبلغ الموعود.
نحن نفهم أن استقطاب خبرات في اختصاصات معينة يستدعي دفع رواتب تتوافق مع سعر السوق العالمية، لأن مجالات العمل لبعض الخبراء أصبحت عالمية. غير أن الاعتماد على هؤلاء يجب أن ينحصر في مهمات استشارية محدودة لمصلحة المنظمات المانحة. وليس هناك أي مبرر لتوظيف أشخاص بخبرات متوافرة محلياً، لمهمات تمتد سنوات، داخل المؤسسات الرسمية، برواتب لا تتناسب اطلاقاً مع سعر السوق المحلية، ليعملوا جنباً الى جنب مع أشخاص يماثلونهم علماً وشهادات وخبرة، ويتقاضون جزءاً زهيداً من رواتبهم. وفي هذه الأجواء، يتصرف أصحاب الرواتب المرتفعة المدعومة من البرامج الدولية، داخل الادارات التي يعملون فيها، وكأنهم كائنات من كوكب آخر. وهذا يخلق حساسيات ليست في مصلحة المشاريع، ويزعزع سوق العمل. فالأجدى لضمان الاستمرارية تدريب موظفين داخل المؤسسات المستفيدة وضمن أطرها الوظيفية الثابتة، مع امكان اعطائهم بعض العلاوات التشجيعية، حفاظاً على التوازن. وهذا ما تعتمده دول عدة في العالم الثالث وتشترطه في المشاريع ذات التمويل الخارجي. وفي جميع الحالات، يمكن الاستعانة بخبرات استشارية لفترات محددة ومهمات متخصصة.
ان توفير وظائف محلية محدودة تعد على أصابع اليد، بتمويل دولي، وبرواتب تساوي أضعاف سعر السوق، يخلق بلبلة. ففي بلدان حيث معدل المعاش الشهري للمهندس في مؤسسة رسمية يوازي مئتي دولار، لا يجوز توظيف مهندس بالمؤهلات نفسها، جنباً الى جنب معه، بمعاش يصل الى خمسة آلاف دولار. فهذا وضع غير طبيعي، يولد شعوراً بالغبن والظلم، ويخلق عند بعض الطامحين للوظائف أحلاماً من سراب.
واذا كان على الهيئات الدولية مسؤولية كبرى في تصحيح هذا الوضع والتعامل بحساسية مع الدول كمجموعة بشر لا كتلة أرقام، فالمسؤولية الأساسية تقع على الدول المستفيدة نفسها. اذ على حكوماتها التفاوض على شروط محددة للمشاريع، تضمن وصول الفوائد الى الناس المعنيين، بدل هدر الموارد في مراسم الفولكلور الدولي. فالمشاريع النافعة يتم تخطيطها على مقاس الدول والشعوب المستفيدة لا على مقاس المنظمات.
|