اذا كان مسموحاً ومطلوباً أن يحتج الناس العاديون على تردي الأوضاع البيئية، فمن غير المقبول أن تكتفي المؤسسات الرسمية المكلفة شؤون البيئة بالاحتجاج وسرد المشاكل. فليس الناس المتضررون حائط مبكى للمسؤولين، ولا البكاء يعوض عن حلول عملية وخطة عمل.
وفي حين يعكس ازدياد الكلام عن البيئة في وسائل الاعلام وتصريحات المسؤولين الحكوميين تصاعد الاهتمام بهذا الموضوع الحيوي، غير أن هذه الطفرة الكلامية، اذا بقيت في العموميات، تحمل خطر تغطية العناوين لصلب الموضوع.
فالمؤتمرات الصحافية والبرامج التلفزيونية والمقالات، ناهيك عن تصريحات السياسيين، تحفل بعناوين لمشاكل بيئية متفرقة، تبقى في معظمها في إطار السرد الانتقائي للمشاكل، بلا اتجاه نحو خطة لحلول. والخطير في الأمر أن بعض المشكلات البيئية يتم طرحها وكأنها تكتشف للمرة الأولى، وتدور نقاشات لاستنباط حلول افتراضية لها، بينما يعرف الاختصاصيون أنها مشاكل تقليدية معروفة في العالم، بات لمعظمها حلول حاسمة يمكن الاطلاع عليها في أي كتاب مختص يدرسه طلاب الفروع المعنية في الجامعات.
وفي حين لا نجد مهندساً أو صيدلياً أو محامياً يتنطح فوق الأطباء المختصين كخبير في مرض السرطان، نجد بعض الهواة وقد نصبوا أنفسهم خبراء في مواضيع بيئية مختصة جداً، مثل تقنيات معالجة النفايات. وأصبحت وسائل الاعلام تستسهل إغداق لقب «خبير بيئي» من دون أن نعرف أي بحث علمي قام به صاحبه في المجال المعني، أو أي مشروع بيئي هندسي ناجح صممه أو نفذه، ناهيك عن معرفة الجامعة التي تخرج منها في الاختصاص الذي يدّعي فيه لقب الخبرة.
لقد شاع خلال السنوات الأخيرة اعتماد دول كثيرة في العالم الثالث على تقارير منظمات دولية وكأنها الكلام الفصل في السياسات البيئية، وتقاعست الهيئات المحلية بالتالي عن تطوير قدراتها الذاتية في البحث والتحليل والادارة البيئية. وأخطر ما حصل لبعض وزارات البيئة المستحدثة انصرافها الى التأثيث بدل التأسيس، واهمالها بناء مؤسسة في وزارة البيئة، تقوم على خبراء في اختصاصات البيئة والادارة البيئية. فهؤلاء فقط يشكلون الضمانة لاستمرارية العمل البيئي الوطني. ولا يمكن لكل مستشاري المنظمات الدولية، ونحن منهم، الحلول مكان الأجهزة الفنية والادارية الوطنية العاملة في إطار الكادرات الوظيفية الثابتة. كما لا يمكن الاستعاضة عن المؤسسات بفريق من المستشارين والمساعدين الموقتين، الذين يجيئون مع التعيين السياسي ويذهبون معه. فصفات الاندفاع والولاء التي تحكم هذه التعيينات لا تعوّض عن الاختصاص العلمي والخبرة. واذا كان الاندفاع شرطاً مهماً للعمل في الجمعيات البيئية الأهلية، فهو لا يكفي في إطار بناء مؤسسات وطنية. وكما أن المعارك الوطنية تحسمها الجيوش النظامية وليس المرتزقة، فبناء المؤسسات الوطنية يقوم على الأجهزة الفنية والادارية النظامية وليس على فلول المستشارين الموقتين.
ونتيجة للاندفاع نحو تحقيق أي «انجازات» للاستهلاك الاعلامي، تحت ضغط الكلام العمومي على شؤون البيئة، تختصر بعض الحكومات برامجها من مرحلة تحديد المشاكل البيئية الى مرحلة التنفيذ الانتقائي لبعض تدابير المعالجة، لاغيةً بذلك مرحلة أساسية تتمثل في وضع خطة وتحديد أولويات. وهذه إحدى نتائج الاستيعاب الانتقائي لتقارير المنظمات الدولية والخبراء، في غياب مؤسسات بيئية وطنية. فمهما حفلت هذه التقارير بالافكار المفيدة، تبقى بلا جدوى ما لم يتأمن لها خبرة محلية هي بمثابة المعدة التي تهضم. وكم نلاحظ العسر الفكري عند الذين يكتفون بمقتطفات التقارير.
لقد طلبت منا احدى منظمات الأمم المتحدة منذ فترة مراجعة مشروع لمساعدة هيئة بيئية رسمية في واحدة من دول المنطقة على بناء قدراتها. فكانت ملاحظتنا الأولى ان هذه الهيئة حوت أثاثاً بلا أساس. فهي كانت خالية من الموظفين الذين يمكن تدريبهم على ادارة البيئة وعلومها. واقترحنا بالتالي تقسيم المشروع الى مراحل، بحيث يشترط الانتقال من مرحلة الى أخرى تعيين موظفين كفوئين وبناء مؤسسات فنية وإدارية. غير أن المشروع بدأ بلا شروط حقيقية ورقابة مرحلية، وانتهى بعدما تم صرف مئات الألوف على التقارير، وبقيت الهيئة المعنية بلا موظفين ولا مؤسسات.
إن الاستمرار في الاجترار الانتقائي لتقارير المنظمات، مهما كانت دقيقة وصائبة، لن يجدي نفعاً في غياب التنظيم المؤسسي، الفني والاداري، الكفيل وحده باستيعاب الحاجات وتحديد خطة عمل قابلة للحياة. فان حفظ لائحة العقاقير عن ظهر قلب لا يصنع طبيباً، واستظهار عناوين التقارير لن يجدي في وضع سياسة وطنية للبيئة.
في عالمنا العربي مشاكل بيئية كثيرة، غير أنها متواضعة جداً إذا ما قيست بالمعضلات البيئية التي تواجهها الدول الصناعية. وحل هذه المشاكل في متناول اليد إذا اعتمدت الحكومات سياسات وطنية واضحة للبيئة، وسحبت الموضوع من أيدي الهواة لتضعه في أيدي الاختصاصيين المحترفين.
|