"النفايات ثروة. الصناعة النظيفة تقلل من إنتاج النفايت الملوثة، غير أنه لا يمكن إلغاء النفايات كلياً من النشاطات الصناعية والاستهلاكية. والتكنولوجيات الصناعية الحديثة تعيد تصنيع النفايات لانتاج مواد مفيدة. النفايات قد تخلق فرصاً استثمارية مربحة وصديقة للبيئة في الوقت ذاته. في المملكة العربية السعودية اليوم منشآت تعيد صناعة الألومنيوم والحديد والبطاريات والورق. والصناعي الذكي يخطط للقرن الحادي والعشرين بأفكار بيئية".
أهمية هذا الكلام أنه صادر عن المهندس عبدالعزيز الزامل، وزير الصناعة والكهرباء السعودي لاثنتي عشرة سنة، ورئيس إحدى أكبر المجموعات الصناعية في الشرق الأوسط. قاله لنا، مدعوماً بالبراهين والأرقام، ونحن على رحلة من الرياض الى بيروت. والزامل، الذي أشرف على تطوير أنجح البرامج البيئية في مدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين في المملكة العربية السعودية، يطبق نظرياته البيئية في القطاع الخاص أيضاً: فشركة الزامل للمكيفات أوقفت استعمال الكلوروفلوروكربون في أجهزة التبريد التي تنتجها، حفاظاً على طبقة الأوزون. وتتولى مجموعة الزامل الصناعية برامج متعددة لاعادة التصنيع.
غير أن المبادرات الفردية، على أهميتها، لا تكفي للحفاظ على البيئة. فالسياسات البيئية الناجحة تحتاج الى حوافز وروادع، تفرض تطبيق برامج محددة ولا تترك تنفيذها لأسلوب الاتفاقات بالتراضي. وإذا كانت الضرائب شراً لا بد منه، فقد تكون "الضرائب الخضراء" أفضلها، لأنها استثمار في المستقبل. والعدالة تقتضي أن يتم تمويل برامج الحفاظ على البيئة من الصناعات المسببة للتلويث ومن مستعملي التكنولوجيات الملوّثة عامة، وصولاً الى أصحاب السيارات ذات المحركات الكبيرة والاستهلاك المفرط. وما فرض رسوم تصاعدية على استهلاك الماء والكهرباء إلا إحدى الوسائل الضرورية للحفاظ على الموارد.
لقد أحدثت دول أوروبية عدة، في طليعتها الدنمارك والنروج وهولندا، ضرائب على التلويث. وفي المقابل، أطلقت هذه البلدان حوافز لتشجيع الانتاج النظيف ومصادر الطاقة غير الملوّثة. ففي أسوج، أمكن تخفيف تلوث هواء المدن بالكبريت بنسبة 95 في المئة، عن طريق تخفيضات في أسعار المحروقات ذات المحتوى القليل من الكبريت. وفي هولندا، أمكن تعميم استعمال البنزين الخالي من الرصاص، قبل أن يصبح قانوناً على مستوى الاتحاد الأوروبي، عن طريق تدابير ضريبية خفضت سعر هذا النوع من البنزين ورفعت كلفة البنزين بالرصاص.
في هولندا اليوم، كل من يلوث البيئة يدفع الثمن بمقدار الضرر الذي يسببه، من الصناعات الكبيرة، التي تتحمل معظم العبء، الى الناس العاديين الذين يدفعون ضريبة تتناسب مع حجم النفايات الصادرة من بيوتهم. وليست هولندا، على أي حال، مجتمعاً غير مبال بشؤون البيئة. فمعظم الناس، ان لم نقل جميعهم، ملتزمون بتدابير فردية صارمة جعلت الحفاظ على البيئة أسلوب حياة.
لا يرمي الناس في المجتمعات المتطورة اليوم قطعة زجاج، ولو مكسورة، في القمامة. إنهم يجمعون الزجاج غير المستعمل في منازلهم، ويرمونه دورياً في مستوعبات خاصة للزجاج موزعة على الأحياء والقرى. وتجمع هذا الزجاج شاحنات خاصة، لاعادة تصنيعه واستعماله.
البطاريات المستعملة في الأدوات الالكترونية أو المصابيح أو حتى لعب الأطفال، لا ترمى في القمامة أيضاً. فلأن محتوياتها، ولو بعد الاستعمال، تعتبر نفايات كيميائية ضارة، يتم تخزينها في أكياس خاصة تجمع من البيوت دورياً. وينطبق الشيء نفسه على علب الأدوية الفارغة. أما الورق المستعمل، من صحف ومجلات ونشرات، فلا يرمى في القمامة، بل يوضع في مراكز تجميع خاصة، كثير منها ملحق بالمدارس، حيث يتعود التلاميذ من عبر أربع سنوات على جمع الورق التالف لاعادة تصنيعه واستعماله.
قد لا تكون القيمة التجارية لاعادة تصنيع الورق والزجاج في حجم الجهد المبذول للحفاظ عليهما، خصوصاً في بلدان متطورة وغنية اقتصادياً. غير أن العبرة في عادات كهذه أنها تنمي الالتزام الفردي والجماعي بقضية الحفاظ على البيئة، وتجعل من السهل على المجتمع فهم الشؤون البيئية الكبرى واستيعابها، لأن الحفاظ على البيئة، أساساً، طريقة حياة.
أما الشركات الغربية الخاصة، من منتجي السيارات إلى منتجي المواد الاستهلاكية، فهي تتنافس في حملاتها الاعلانية لاقناع الجمهور بأن انتاجها "صديق للبيئة". لقد أصبح اقتناء سيارة لا تستهلك كثيراً من الوقود وتنفث كمية أقل من الغازات الضارة ممارسة شائعة ودليل وعي حضاري.
انها رسالة صريحة الى الصناعيين والتجار العرب: استثمروا في حماية البيئة، لئلا يفوتكم القطار! وقد تكون رسالة الى غير التجار والصناعيين أيضاً. ففي عالم اليوم، تنهار حكومات ويسقط سياسيون بسبب البيئة.
واستجابة لدعوة معالي المهندي عبدالعزيز الزامل، ستبدأ "البيئة والتنمية" قسماً مختصاً بالفرص الاستثمارية الصناعية في مجال البيئة، مساهمة منا في ألا يفوت العرب القطار.