كشف حساب بيئي للقرن العشرين
البيئة بين جيلين: حسابات المـاضي وتوقعات المستقبل
يميز البيئة العالمية في بداية الألفية الثالثة اتجاهان بارزان. الأول هو الخطر الذي يتهدد النظام الايكولوجي بفعل الاختلال العظيم في الانتاجية وفي توزيع الموارد والخدمات. الثاني هو التغير المتسارع الذي يشهده العالم، حيث الادارة البيئية قاصرة عن مواكبة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وما تحققه التكنولوجيا الحديثة والسياسات الجديدة من مكاسب بيئية يتجاوزه النمو السكاني ومشاريع التنمية.
تضاعف الاقتصاد العالمي أكثر من خمس مرات منذ 1950، وبات معدل الدخل العالمي للفرد 6,2 أضعاف ما كان عليه آنذاك. وتخفي معدلات الدخل فوارق كبيرة بين المناطق وبين البلدان وبين مجموعات السكان داخل البلد الواحد. وعلى رغم بعض التحسن الملموس، يظل ربع سكان العالم في فقر مدقع. ويزيد المعدل العالمي للدخل الفردي حالياً على 5000 دولار في السنة، لكن أكثر من 1,3 بليون نسمة ما زالوا يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم.
يعيش نحو نصف سكان العالم في المدن. وينتقل عدد متزايد منهم مسافات شاسعة بالسيارات الخاصة أو الطائرات. وفي العالم المتقدم، غيرت التكنولوجيا أنماط العمل والحياة العائلية والصحة والغذاء ووسائل الاتصال والأنشطة التي تمارس في أوقات الفراغ. وتحدث تحولات مماثلة في الأجزاء الأكثر ازدهاراً في العالم النامي. وتأثيرات هذه التغيرات في البيئة الطبيعية كثيرة ومتشعبة. فالاقتصادات الصناعية الحديثة في أميركا الشمالية وأوروبا وشرق آسيا تستهلك كميات هائلة من الطاقة والمواد الأولية وتنتج كميات كبيرة من النفايات والانبعاثات الملوثة. وحجم هذا النشاط الاقتصادي يسبب ضرراً بيئياً على نطاق عالمي وتلوثاً وخللاً واسعين في النظم الايكولوجية.
وفي مناطق أخرى، خصوصاً أجزاء كثيرة من العالم النامي، يؤدي الفقر وما يصاحبه من نمو سكاني سريع الى تدهور الموارد المتجددة، وفي المقام الأول الغابات والتربة والمياه. وكثير من الناس الذين يعيشون على الكفاف، في مستوى يؤمن لهم مجرد البقاء على قيد الحياة، لديهم بدائل قليلة غير استنزاف مواردهم الطبيعية. ولا تزال الموارد المتجددة تعيل نحو ثلث سكان العالم. لذلك فان التدهور البيئي يخفض بصورة مباشرة مستويات المعيشة وفرص التطور الاقتصادي لسكان الأرياف. وفي الوقت ذاته، يسبب التوسع المديني والصناعي السريع في كثير من البلدان النامية مستويات عالية من تلوث الهواء والماء، كثيراً ما تكون أشد وقعاً على الفقراء. ويعيش فقراء المدن في أحياء مهملة، معرضين للملوثات والنفايات والأمراض، ومفتقرين الى القوة السياسية الضاغطة لادخال تحسينات على أوضاعهم المعيشية.
الجهود المطلوبة لتلبية حاجات 3 مليارات نسمة اضافية في السنوات الخمسين المقبلة ستكون هائلة. واذا استمرت الاتجاهات الحالية في النمو السكاني والنمو الاقتصادي وأنماط الاستهلاك، فستكون البيئة الطبيعية عرضة لاجهاد متزايد. وقد تنطمس المكاسب والتحسينات البيئية أمام وتيرة النمو الاقتصادي والتلوث البيئي والتدهور المتسارع لقاعدة الموارد المتجددة على الأرض. وخفض استهلاك الموارد في البلدان الصناعية ضروري على المدى الطويل من أجل توفير موارد كافية لتلبية حاجات البلدان النامية.
لقد أظهرت بعض الاتجاهات البيئية خلال نصف القرن المنصرم أهمية التنظيم والتوعية وسياسة الأسعار في تشجيع الاستعمالات الأكثر كفاءة والأقل تلويثاً للطاقة والمواد. ووفرت التكنولوجيا الحديثة تحسينات مذهلة في اداء المنتجات، لكن تحسين انتاجية الموارد ظل قاصراً. وسيكون التحدي أمام واضعي السياسة في القرن المقبل استنباط سبل تشجع قطاعات الانتاج على الاستعمال الاكثر كفاءة وعدلاً ومسؤولية للموارد الطبيعية، وتشجع المستهلكين على دعم هذه التغييرات والمطالبة بها، مما يؤدي الى استعمال أكثر تكافؤاً للموارد من قبل سكان العالم أجمع.
وضع البيئة في العالم
ما زالت القضايا البيئية طاغية عالمياً، وتزداد خطورتها وضوحاً يوماً بعد يوم. وأهمها قلة المياه العذبة، وتلوث الهواء والماء، والتصحر، والنفايات الخطرة، وخسارة التنوع البيولوجي، وتغير المناخ، واستنزاف الأوزون، والمطر الحمضي.
وكان العام 1998الاعلى حرارة على الاطلاق. وترافقت مشاكل التغيرات المناخية في تلك السنة مع تأثيرات ظاهرة النينيو التي كانت الأشد في التاريخ، مما خلف خسائر كبيرة في الأرواح وأضراراً اقتصادية هائلة.
بلغت المنفوثات العالمية من ثاني أوكسيد الكربون مستوى قياسياً عام 1996مقداره نحو 23900مليون طن، أي نحو أربعة أضعاف المجموع عام1950. ولولا بروتوكول مونتريال المتعلق بحماية طبقة الأوزون لبلغت مستويات المواد المستنزفة لطبقة الأوزون سنة 2050 خمسة أضعاف ما هي عليه اليوم. وفي 1996، كان 25في المئة من أنواع الثدييات التي يبلغ عددها نحو4630 نوعاً في العالم، و11 في المئة من أنواع الطيور التي يبلغ عددها 9675 نوعاً، معرضة لخطر الانقراض التام. واذا استمرت أنماط الاستهلاك الحالية، فان اثنين من كل ثلاثة أشخاص على الأرض سيعانيان من شح المياه بحلول سنة 2025. وقدسبب التعرض للمواد الكيميائية السامة والنفايات الخطرة أضراراً كثيرة للبشر راوحت بين عيوب وراثية وأمراض السرطان. ويؤدي استعمال المبيدات الى اصابة ما بين5،3 و5 ملايين شخص حول العالم بحالات تسمم حادة كل سنة. ويتعرض نحو 20في المئة من الاراضي الجافة الهشة لانجراف التربة بسبب نشاطات بشرية، مما يهدد معيشة أكثر من بليون نسمة.
ويبدو أن حرائق الغابات أصبحت أكثر حدوثاً وأشد قوة، نتيجة أحوال الطقس غير المؤاتية وسوء استغلال الاراضي الذي يجعل المناطق السريعة التأثر أكثر تعرضاً للحرائق، التي تهدد الغابات وصحة السكان في مساحات تبلغ ملايين الهكتارات. وازداد حدوث الكوارث الطبيعية وازدادت قوتها. والخسائر الناتجة عنها خلال الفترة 1986 - 1995 كانت أعلى ثمانية أضعاف مما كانت في الستينات.
وأدى نشوب حروب جديدة ليس فقط الى تهديد بيئة البلدان المتورطة وانما بيئة البلدان المجاورة أيضاً. وترتبط بهذه المسألة قضية بيئية مهمة هي مشكلة اللاجئين الذين يجبرهم وضعهم المعيشي على استهلاك الموارد الطبيعية بلا حدود ولا ضوابط للبقاء على قيد الحياة.
افريقيا: سكان قليلون وفقراء
الفقر هو السبب الرئيسي للتدهور البيئي واستنزاف الموارد اللذين يهددان النمو الاقتصادي في القارة الافريقية حاضراً ومستقبلاً، وهو أيضاً نتيجة لهما. وما زالت افريقيا قليلة السكان نسبياً، حيث الكثافة السكانية نحو 250 نسمة لكل 1000 هكتار، بالمقارنة مع المعدل العالمي الذي يبلغ نحو 445. وتشمل التحديات البيئية الرئيسية زوال الغابات وانجراف التربة والتصحر وتراجع التنوع البيولوجي والموارد البحرية وشح المياه وتردي نوعية الماء والهواء. والتوسع المديني قضية ناشئة في افريقيا تسبب مشاكل صحية وبيئية باتت معروفة في مدن العالم. وتشكل الديون عبئاً كبيراً على كثير من البلدان الافريقية التي يتعين عليها أن تنفق على خدمة ديونها أكثر مما تنفق على توفير الخدمات الاجتماعية الأساسية. وقد باتت "الديون البيئية" المتنامية مشكلة رئيسية، لأن كلفة العلاج تفوق كثيراً نفقات الوقاية.
تعتبر افريقيا القارة الوحيدة التي يتوقع ازدياد الفقر فيها خلال القرن المقبل. ويقدّر أن 500مليون هكتار من الاراضي تأثرت بانجراف التربة منذ العام 1950، بما في ذلك نحو 56في المئة من الاراضي الزراعية. ونتيجة تراجع الأمن الغذائي، تضاعف عدد السكان الذين يعانون سوء التغذية من 100مليون في أواخر الستينات الى نحو 200مليون عام 1995. وفقدت افريقيا 39مليون هكتار من الغابات الاستوائية خلال الثمانينات و10 ملايين هكتار أخرى مع حلول عام 1995. ويعاني 14 بلداً افريقياً ضائقة مائية أو شحاً في المياه، وسيلحق بها 11 بلداً آخر بحلول سنة 2025. ولا تنفث أفريقيا الا 5،3 في المئة من مجمل انبعاثات ثاني اوكسيد الكربون العالمية، ويتوقع أن تزيد هذه النسبة الى8،3 في المئة فقط بحلول سنة 2010.
آسيا والمحيط الهادئ: أخطار التنمية السريعة
تواجه منطقة آسيا والمحيط الهادئ تحديات بيئية خطيرة. فالكثافات السكانية العالية تضيف ضغوطاً بيئية هائلة. وينتظر أن يسبب النمو الاقتصادي والصناعي السريع مزيداً من الاضرار، اذ تصبح المنطقة أكثر تدهوراً طبيعياً وأقل غابات وأسوأ تلوثاً وأدنى تنوعاً بيولوجياً.
يعيش 75في المئة من فقراء العالم في آسيا. وهناك ضغط كبير على موارد الاراضي في المنطقة، حيث يعتمد السكان، الذين يبلغون نحو 60 في المئة من سكان العالم، على 30في المئة فقط من مجمل مساحة الأراضي. ومن العوامل التي تحد من انتاج مزيد من الغذاء في المستقبل نقص امدادات المياه العذبة، خصوصاً في المناطق المكتظة والقاحلة. وقد أبيد نحو مليون هكتار من غابات اندونيسيا بفعل الحرائق التي ظلت مستعرة عدة أشهر منذ أيلول (سبتمبر) 1997. وفي 1996، احترق أكثر من 3ملايين هكتار من غابات منغوليا. وأدى تشتت الموائل الطبيعية في جنوب شرق آسيا الى استنزاف منتجات الغابات التي كانت المصدر الرئيسي لغذاء السكا ودوائهم ودخلهم.
ويشكل نقص المياه معضلة خطيرة. فهناك واحد من ثلاثة أسيويين لا يحصل على مياه شرب مأمونة. وسيكون شح المياه العذبة عاملاً رئيسياً للحد من انتاج مزيد من الغذاء في المستقبل. ويرتفع الطلب على الطاقة بسرعة أكبر من أي جزء آخر من العالم، اذ يتوقع ان يتضاعف كل 12سنة، بينما المعدل العالمي هو كل 28سنة. وتزداد نسبة سكان المدن سريعاً وتتركز في مدن قليلة، مما يزيد الضغط البيئي والاجتماعي.
أدى القلق حيال التلوث والموارد الطبيعية في المنطقة الى وضع قوانين للحد من الانبعاثات والمحافظة على الموارد. وبدأ اعتماد سياسات اقتصادية لحماية البيئة وفرض غرامات على من يتسبب بالتلوث. ووضعت خطط لاعادة تدوير النفايات. ويزداد الاستثمار المحلي في القطاع البيئي في معظم البلدان الآسيوية، خصوصاً في ما يتعلق بامدادات المياه وتقليل النفايات واعادة تصنيعها. ومن أكبر التحديات التي تواجهها المنطقة تعزيز التجارة الحرة مع الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية.
اوروبا: البيئة وسط التغيرات السياسية
بقيت مستويات الاستهلاك عالية جداً في اوروبا الغربية، حيث معدل الناتج المحلي الفردي عشرة أضعاف المعدل في بقية القارة. لكن الاجراءات التي اتخذت للحد من التدهور البيئي أثمرت تحسناً كبيراً في بعض المجالات البيئية وان لم يكن في كلها. وتشكل المواصلات البرية المصدر الرئيسي لتلوث الهواء في المدن. وفي الاقاليم الاوروبية الأخرى، أدت التغيرات السياسية الى هبوط حاد، ربما موقت، في النشاط الصناعي، مما خفف كثيراً من الضغوط البيئية.
يستغل نحو 60في المئة من المدن الكبيرة في أوروبا موارد المياه الجوفية بما يتجاوز طاقة تجددها. وتعاني هذه المياه في كثير من البلدان تلوثاً كبيراً بالنيترات والمبيدات والمعادن الثقيلة والهيدروكربونات. والمناطق البحرية والساحلية عرضة أيضاً لأضرار ناتجة من مصادر مختلفة.
ما زالت أوروبا تنتج نحو ثلث الانبعاثات العالمية من ثاني اوكسيد الكربون الذي يعتبر أهم غازات الدفيئة المؤثرة في تغير المناخ. وانخفضت انبعاثات ثاني أوكسيد الكبريت أكثر من النصف خلال الفترة 1985- 1994. ومن 10بلدان تطلق أعلى نسب من انبعاثات ثاني اوكسيد الكبريت للفرد الواحد، هناك سبعة في اوروبا الوسطى وواحد في اوروبا الشرقية واثنان في اميركا الشمالية. وينتشر على نطاق واسع تلوث الاراضي بفعل الاستعمال المفرط للأسمدة والمبيدات الكيميائية وملوثات أخرى كالمعادن الثقيلة والملوثات العضوية.
ازدادت مساحة الغابات في اوروبا الغربية والوسطى بما يربو على 10 في المئة منذ الستينات، لكن أضراراً كبيرة لحقت بنحو 60في المئة من الغابات بفعل التحمض أو التلوث أو الجفاف أو الحرائق. ومن أخطر أشكال تلوث الانهار وجود تركيزات عالية من المغذيات تعزز نمو الطحالب مما يؤدي الى نقص الاوكسيجين في البحيرات والبحار التي تصب فيها. وتعاني غالبية الموارد السمكية المستغلة تجارياً في بحر الشمال وضعاً خطيراً، حتى بات من الضروري خفض عدد سفن أسطول الصيد هناك بنسبة 40 في المئة لكي يتناسب مع الثروة السمكية المتاحة.
ارتفع انتاج النفايات للفرد الواحد في اوروبا الغربية بنسبة 35في المئة منذ 1980. وفيما تزداد اعمال اعادة التصنيع، ما زالت نسبة 66 في المئة من النفايات تنتهي في المطامر. وقد تحقق نجاح كبير في تنفيذ برامج للانتاج النظيف ووضع ملصقات ومواصفات بيئية على المنتجات. ومن أولويات الاتحاد الاوروبي فرض «الضرائب الخضراء» والتقليل من الآثار الضارة للدعم الحكومي لأسعار الموارد.
وتحتاج البلدان الاوروبية التي هي في طور التحول الاقتصادي الى تقوية قدراتها المؤسساتية وتحسين فرض الرسوم والغرامات وبناء قدرات الشركات على ادخال نظم الادارة البيئية في عملياتها. والتحدي الرئيسي للمنطقة ككل هو دمج السياسات البيئية والاقتصادية والاجتماعية.
أميركا اللاتينية: توسيع المدن وتدمير الغابات
تبرز في أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي قضيتان بيئيتان رئيسيتان. الأولى هي ايجاد حلول لمشاكل بيئة المدن التي يقطنها نحو ثلاثة أرباع السكان، خصوصاً المدن الكبرى حيث تلوث الهواء يهدد الصحة البشرية ويشيع نقص المياه. والقضية الثانية استنزاف وتدمير موارد الغابات، خصوصاً في حوض الأمازون، وما يرافق ذلك من تهديد للتنوع البيولوجي.
تحتوي المنطقة على أكبر احتياطات الاراضي الصالحة للزراعة في العالم، لكن انجراف التربة يهدد الاراضي المزروعة. وخلال الثمانينات، زادت أميركا الوسطى انتاجها الزراعي بنسبة 32 في المئة، لكنها ضاعفت استهلاكها للمبيدات. ويواصل الغطاء الغابي الطبيعي الانخفاض في جميع بلدان المنطقة. وقد تمت تعرية 8،5 ملايين هكتار من الغابات سنوياً خلال الفترة 1990 - 1995، بخسارة اجمالية نسبتها 3 في المئة. وتعرض معظم الغابات في شرق وجنوب حوض الأمازون لمواسم جفاف حاد، خصوصاً خلال ظاهرة النينيو في الفترة 1997 - 1998، علماً أن هذه الغابات تعتمد على نظام ماطر ضروري لمقاومة الحرائق. وتشكل خسارة الموائل تهديداً كبيراً للتنوع البيولوجي في هذه المنطقة التي تحتوي على 40 في المئة من الأنواع النباتية والحيوانية في العالم. وتعاني مدن كثيرة تلوثاً حاداً للهواء. ففي مدينتي ساو باولو وريو دي جانيرو في البرازيل، يقدر أن تلوث الهواء يتسبب في 4000 وفاة قبل الأوان كل سنة. ويشكل التخلص من النفايات مشكلة كبرى في المدن.
وثمة اتجاه مشجع الى تعاون اقليمي، خصوصاً حول القضايا البيئية المتنقلة عبر الحدود. فقد وضعت، مثلاً، آلية اقليمية للاستجابة للكوارث الطبيعية، مع شبكات اتصال تربط بين الجهات الرئيسية المختصة، بحيث يمكنها اجراء تقديرات سريعة للأضرار وتحديد الاحتياجات وحشد الموارد اللازمة لتقديم الاعانات الاولية للمجتمعات المتأثرة.
أميركا الشمالية: مجتمعات استهلاكية
يستهلك سكان أميركا الشمالية من الطاقة والموارد للفرد الواحد أكثر مما يستهلك سكان أي منطقة أخرى. لكن المنطقة نجحت في خفض كثير من التأثيرات البيئية من خلال وضع قوانين أكثر تشدداً وتحسين الادارة البيئية. وفيما خُفضت بصورة ملحوظة ملوثات هوائية كثيرة خلال السنوات العشرين المنصرمة، ظلت المنطقة المساهم الأكبر في غازات الدفيئة بالنسبة الى الفرد بسبب الاستهلاك العالي للطاقة. ولكن جاء في تقرير حديث أصدره "معهد اوستراليا" أن اوستراليا باتت تحتل المقام الأول في انبعاثات غازات الدفيئة بالنسبة الى الفرد.
إن مسرح السياسة البيئية يتغير في أميركا الشمالية. ففي كندا، ينصبّ معظم التركيز على الاصلاح التنظيمي والتوفيق بين السياسات الاتحادية والاقليمية والمبادرات الطوعية. وفي الولايات المتحدة، تم تطوير سياسات بيئية جديدة تواكب تطورات السوق، كمقايضة الانبعاثات وتعديل نظام الدعم الزراعي.
وتستهلك أميركا الشمالية كميات كبيرة من الوقود. ففي 1995، بلغ معدل الاستهلاك أكثر من 1600 ليتر للشخص الواحد في مقابل نحو 330 ليتراً في اوروبا. وباتت «المنطقة الميتة» المستنزفة من الاوكسيجين، التي تظهر كل صيف قبالة ساحل خليج المكسيك في ذروة تسرب الأسمدة الكيميائية من حزام زراعة الذرة، تغطي مساحة 20 ألف كيلومتر مربع. وشارفت مصائد الأسماك في الساحل الشرقي على الانهيار. وانخفضت كميات الصيد في المحيط الاطلسي من 5،2 مليون طن عام 1971 الى أقل من 500 ألف طن عام 1994. وارتفاع حرارة جو الأرض يمكن أن ينقل النطاق المثالي لكثير من الأنواع النباتية والحيوانية في غابات أميركا الشمالية نحو 300 كيلومتر في اتجاه الشمال، مما يقوض الفائدة من المحميات الغابية الحالية.
وكانت المشاركة الجماهيرية في صلب كثير من مبادرات ادارة الموارد، وتطورت الوسائل السياسية البيئية بالتشاور مع الشعب وقطاع الأعمال. وباتت سهولة الحصول على المعلومات دافعاً مهماً للشركات لتحسين أدائها البيئي.
البيئة العربية: تدهور المياه والتربة
يشكل تدهور موارد المياه والاراضي المشكلتين الرئيسيتين في المنطقة العربية. فالمياه الجوفية، خصوصاً في شبه الجزيرة العربية، هي في وضع حرج لأن الكميات التي تستغل تزيد كثيراً على معدلات تجددها الطبيعي. وهذا ينطبق أيضاً على بعض بلدان شمال افريقيا. ففي ليبيا، مثلاً، تشكل المياه الجوفية 95 في المئة من موارد المياه العذبة المستغلة. ومما يزيد المشكلة تفاقماً ندرة المياه وتدهور نوعيتها، اذ تعاني دول الخليج شحاً في موارد المياه العذبة الطبيعية، بينما تواجه دول المشرق العربي تناقصاً حاداً في معدلات تدفق الأنهار وازدياداً في ملوحتها وتلوثها. وفي حين تعمل دول الخليج على تعويض النقص من خلال بناء محطات تحلية مياه البحر، فان دول المشرق مهددة بانخفاض مناسيب الانهار المشتركة وتناقص المياه الجوفية بعد ازدياد كميات المياه التي تحتجزها الدول المجاورة. ويعاني قطاع غزة والضفة الغربية في فلسطين وضعاً مأسوياً، حيث تدنت مستويات المياه الجوفية بدرجة كبيرة وارتفعت معدلات الملوحة والتلوث الى حدود تتجاوز المعايير الارشادية لمنظمة الصحة العالمية.
وأدى التوسع الصناعي والعمراني الى تناقص حصة المياه المخصصة للزراعة، مما دفع العديد من الدول الى معالجة مياه الصرف الصحي واعادة استعمالها في الري. ففي دول الخليج تتم معالجة حوالى 400 مليون متر مكعب من مياه الصرف الصحي سنوياً، يستغل نحو نصفها للأغراض الزراعية، في مقابل 200 مليون متر مكعب في دول المشرق. ويعتبر التوسع في أنظمة تجميع مياه الأمطار والاستغلال الرشيد للمياه الجوفية من الدعائم الأساسية في التعامل مع مشكلة المياه العربية.
ويمثل تدهور التربة مشكلة خطيرة في المنطقة. فمعظم الاراضي هي اما متصحرة أو عرضة للتصحر. وقد تملحت مساحات كبيرة. ومما يساهم في تدهور الاراضي الجفاف وسوء ادارة الموارد وتكثيف الزراعة وأساليب الري السيئة والتوسع المدني غير المنظم.
وتدهورت البيئات البحرية والساحلية من جراء الصيد المفرط للأسماك والتلوث وخراب مواطن الأحياء البحرية نتيجة ازدياد النفايات والمواد الكيميائية السامة الناتجة عن الصناعة. وتتأثر مصر بشكل خاص من أي تدهور في البيئة البحرية، اذ تبلغ حصتها نحو 14 في المئة من كميات السمك التي يتم صيدها سنوياً في افريقيا والتي تصل الى 4،1 مليون طن. وتزيد المجمعات البتروكيميائية مشكلة التلوث. ففي الجزائر، مثلاً، تصرف المجمعات الرئيسية الثلاثة في عنابة وأرزيو وسكيكدا كميات كبيرة من الكروم والزئبق والزيوت ومركبات الفينول والكلور واليوريا في البحر. وثمة أوضاع مماثلة في مصر وليبيا والمغرب وتونس. ويتسبب صرف الملوثات من مصادر مختلفة على اليابسة، ومن السفن وناقلات النفط، في تلوث البيئة البحرية وتهديد الثروة السمكية. ويتسرب نحو 2،1 مليون برميل من النفط الى مياه الخليج العربي سنوياً. وقد خلفت الحروب، خصوصاً حربي الخليج، دماراً كبيراً للبيئة البحرية والساحلية.
وبلغ تلوث الهواء في المنطقة مستويات خطيرة، خصوصاً في المدن الكبرى. ويهدد التلوث الصناعي وسوء ادارة النفايات الخطرة التنمية الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة. ويتوقع أن يؤدي الزحف العمراني، وتضخم المدن، والنمو السكاني، وزوال الغابات، وتدهور المناطق الساحلية، وازدياد النفايات والمواد الكيميائية السامة الناتجة عن الصناعة، وسوء استعمال المبيدات الزراعية، وصيد الأسماك والطيور والحيوانات من دون ضوابط، والمناورات العسكرية في الصحراء، الى ازدياد الضغوط على النظم الايكولوجية الهشة والأنواع النباتية والحيوانية المحلية التي تؤويها. وهذا سيسبب مشاكل كبرى خلال العقد المقبل اذا لم يواجه بالتخطيط السليم وتنفيذ سياسات عامة لحماية البيئة واعتماد أساليب التنمية المستدامة.
والبيئة العربية، حتى الصحراوية، غنية بالموارد الجينية والتنوع البيولوجي. فهناك أكثر من 800 نوع من النباتات الاصيلة التي لا توجد الا في المنطقة العربية، منها 230 نوعاً مهددة بالانقراض. وقد انقرضت أنواع عدة من الحيوانات البرية، كالحمار البري والنعام العربي والأسد الآسيوي، وأنواع من الغزلان، وهناك أنواع أخرى مهددة بالانقراض كالذئب العربي وابن آوى والفهد العربي. واختفت أعداد أكبر بكثير من النباتات البرية التي انقرض بعضها حتى قبل أن يصنف. وحدث الشيء نفسه في البيئة البحرية الزاخرة بالحياة، والتي تضم أكثر من 300 نوع من المرجان و500 نوع من الأصداف و20 نوعاً من الثدييات البحرية و1200 نوع من الأسماك.
الاسراع في سن تشريعات بيئية لتنظيم التنمية في المناطق الحرجية والمناطق الساحلية بما يحافظ على الحياة الفطرية هو المخرج الوحيد لكي لا تفقد المنطقة العربية المزيد من ثروتها الحية. فبفضل برامج اعادة التحريج، ازدادت قليلاً مساحة الغابات خلال الأعوام العشرة المنصرمة. ولكن ما زالت كلفة المنتجات الغابية المستوردة عالية. وهناك أمثلة رائدة، وان كانت محدودة، على جهود الدول العربية في اقامة المحميات الطبيعية والمتنزهات الوطنية.
وتتخذ مبادرات عدة لحماية الموارد الطبيعية ومكافحة التلوث، خصوصاً من خلال المنظمات الاقليمية التي أنشئت لحماية البيئة البحرية والمناطق الساحلية. وقد حددت البروتوكولات المنبثقة عنها فرص تنمية الموارد البحرية بأسلوب قابل للاستدامة، كاقامة مرافق لاستقبال نفايات السفن وناقلات النفط التي يفوق عددها في منطقة الخليج وحدها 10 آلاف سنوياً تنقل ما يعادل 60 في المئة من صادرات النفط العالمية. كما يمكن التحكم بمصادر التلوث على اليابسة من خلال معالجة مياه الصرف الصحي والمياه الصناعية العادمة واعادة استخدامها بما يكفل حماية البيئة البحرية، والتوقف عن ردم المناطق الساحلية والمناطق الرطبة. ففي بلدان خليجية عدة، تخضع المياه العادمة البلدية للمعالجة وتستعمل على نطاق واسع لري الاشجار المزروعة في الغابات وعلى جوانب الطرق وفي الحدائق العامة.
توقعات مستقبلية
القضايا البيئية التي قد تصبح أولويات في القرن الحادي والعشرين يمكن تصنيفها في ثلاث فئات: الأحداث غير المنتظرة والاكتشافات العلمية، والتحولات المفاجئة للقضايا القديمة، والقضايا الحالية المعروفة التي كانت الاستجابة لها غير كافية. ويبدو أن المشاكل البيئية الرئيسية في القرن المقبل ستنشأ من استمرار وتفاقم المشاكل الحالية التي لا تلقى الآن عناية سياسية وافية.
ويتفق معظم العلماء على أن القضيتين الأكثر الحاحاً في القرن الحادي والعشرين ستكونان تغير المناخ وكمية الموارد المائية ونوعيتها. يليهما زوال الغابات، والتصحر، والمشاكل الناشئة عن سوء التوجيه والادارة على المستويين الوطني والعالمي. وتحظى باهتمام ملحوظ قضيتان اجتماعيتان هما النمو السكاني وتغير القيم الاجتماعية. ويركز علماء كثيرون على أهمية العلاقات المتداخلة بين تغير المناخ والمشاكل البيئية الأخرى.
والتركيز على العلاقات المتداخلة ليس مفاجئاً. فقد تبين تكراراً أن السياسات المتخذة إفرادياً، بمعزل بعضها عن بعض، لا تسفر دائماً عن النتائج المبتغاة. وأحد أسباب ذلك أن السياسات يمكن أن تحل مشكلة واحدة بينما تُفاقم مشاكل أخرى افرادية، ومن الأمثلة على ذلك ضرورة التخطيط المتكامل لاستخدامات الاراضي والمياه لضمان الأمن الغذائي والمائي.
وبما ان السياسات البيئية الحالية لا تؤدي الى مستقبل مستدام، سواء على المستوى الاقليمي أو العالمي، فلا بد من وضع سياسات فعالة بديلة من شأنها، اذا نفذت على الفور وتمت متابعتها بفعالية، ان تضع العالم على مسار أكثر استدامة. هناك حاجة واضحة الى سياسات متكاملة. ففي أميركا اللاتينية، مثلاً، تم وضع تصور واسع يجمع بين القطاعات لتحقيق تنمية مستدامة للغابات. وفي أوروبا وآسيا الوسطى، وضعت استراتيجيات مشتركة لمعالجة التحمض وتلوث الهواء في المدن وتغير المناخ، يمكن أن تؤدي الى استغلال أمثل لفرص التوفير في الطاقة والتحول الى الوقود النظيف.
مكامن الخلل وطرق المعالجة
تحققت في السنوات القليلة المنصرمة نجاحات ملموسة على الصعيد البيئي. فطبقة الأوزون المترققة يتوقع أن يلتئم قسم كبير منها خلال نصف قرن بفضل تطبيق بروتوكول مونتريال. واتخذت الخطوات الدولية الأولى للتصدي لقضية تغير المناخ. وقد باتت الجماهير أكثر اهتماماً بالقضايا البيئية، والتحركات الشعبية في بلدان كثيرة تجبر السلطات على اجراء تغييرات. وتؤدي الاجراءات الطوعية المتخذة في كثير من الصناعات الرئيسية في العالم الى خفض استهلاك الموارد وتقليل النفايات. وقد سجلت حكومات البلدان المتقدمة نجاحات كبيرة في خفض تلوث الهواء في كثير من المدن الكبرى. ووضعت تشريعات بيئية مبتكرة بحيث لم تعد "التنمية الخالية من الانبعاثات" هدفاً خيالياً في عدة مجالات مهمة. وأوقف زوال الغابات وعُكست اتجاهاته في أجزاء من أوروبا وأميركا الشمالية.
على رغم النجاحات الكثيرة، يبدو أن الوقت يمضي سريعاً من غير ان تتخذ مبادرات سياسية كبرى للتحول الى نظام مستديم. وثمة حالات طارئة ملحة على أصعدة كثيرة. فيبدو من المستبعد، مثلاً، ان تكون دورة المياه العالمية قادرة على تلبية الاحتياجات في العقود المقبلة. وقد أدى تدهور الاراضي الى التقليل من خصوبة التربة وامكاناتها الزراعية. وأبطلت هذه الخسائر كثيراً من النجاحات التي حققها توسيع المناطق الزراعية وزيادة انتاجيتها. وبلغ دمار الغابات الاستوائية حداً تتعذر معه المعالجة، وستتعاقب أجيال كثيرة قبل تعويض الغابات المفقودة. واختفت أنواع نباتية وحيوانية كثيرة، أو حكم عليها بالانقراض، بسبب بطء استجابة البيئة وصانعي السياسة على حد سواء. وقد فات زمن الحفاظ على كل التنوع البيولوجي الذي كان كوكبنا يزخر به يوماً. وتأخذ مشاكل تلوث الهواء أبعاداً كارثية في كثير من المدن الكبرى. وربما فات أوان منع تسخّن جو الأرض نتيجة ازدياد انبعاثات غازات الدفيئة.
لا يمكن حل المسائل البيئية إلا بالعمل التعاوني بين جميع الأطراف المعنيين، أفراداً ومنظمات أهلية وصناعات وادارات محلية وحكومات ومنظمات دولية. وما دام هذا العمل التعاوني الهادف غائباً، فسيبقى عالم القرن الحادي والعشرين متخبطاً في دوامة بيئية لا قرار لها.