سألتنا إحدى وسائل الاعلام مؤخراً عن "أزمة الصحافة العلمية العربية". فرأينا أن علاج الأزمة يبدأ في تحليلها الى عناصرها الأساسية، أي مشكلة الصحافة العربية، ومشكلة البحث العلمي في العالم العربي، وصولاً الى أزمة الصحافة العلمية.
تفتقر الصحافة العربية عموماً الى المحررين الاستقصائيين، الذين تعطيهم المؤسسة الاعلامية الامكانات والتدريب والوقت والدعم، لسبر أغوار الأخبار والأحداث وتحليلها. لذا يأتي الاعلام في غالبه تغطية وصفية، تتحدث مثلاً عن مؤتمر صحافي لاطلاق برنامج إنمائي، ولا تعطيه القدر الكافي من النقد أو تتساءل عن جدواه، كما لا تتابع مراحل تنفيذه في تحقيقات لاحقة لتحديد مكامن النجاح والفشل. ونلاحظ أنه في أحيان كثيرة تأتي أفضل الصور عن الأخبار والأحداث والمشاكل المحلية من مراسلي الوكالات العالمية، ويكتفي مصورو وسائل الاعلام المحلية بلقطات سريعة لاجتماعات ومناظر طبيعية لا ترقى الى مستوى الحدث. ويندر أن تكلّف وسيلة اعلام عربية محرراً باجراء تحقيق استقصائي متكامل عن موضوع معين، قد يتطلب تحضيره شهوراً ويقتصر حجم مادته النهائية على صفحة في جريدة أو خمس دقائق في محطة تلفزيونية. غير أن هذا النوع من الصحافة هو الذي يستقطب الجمهور ويساهم في صنع الحدث وتشكيل اتجاهات الرأي العام.
ولا يفتقر الكتّاب والمصورون الصحافيون العرب الى الموهبة والقدرة لصنع إعلام يشكل علامة فارقة وليس مجرد مادة وصفية استهلاكية. لكن تحقيق هذا يتطلب دعماً من المؤسسة الاعلامية يكفل تحرير الصحافي من ضغط الانتاج الآلي السريع، والوقوف الى جانبه في مواجهة مراكز القوى السياسية والاقتصادية التي قد يزعجها قيامه بعمله على نحو صحيح.
وإذا كانت هذه أزمة الصحافة العربية، فالعلم في بلداننا ليس أفضل حالاً، إذ يقوم في غالب الأحيان على النقل وليس الابتكار. وضمور البحث العلمي الجدي يعود أساساً الى ضعف الميزانيات المخصصة له، وكأنه رفاهية لا حاجة لها في البلدان الفقيرة، أو سلعة يمكن شراؤها من البلدان الغنية. وكما في الصحافة، لا يعوز العلماء العرب القدرة على الابداع والابتكار، لكنهم يفتقرون الى الدعم الكافي في مؤسسات علمية قادرة.
هكذا، فنحن نعاني أزمة صحافة، وأزمة علم، وأزمة صحافة علمية في وقت واحد.
والصحافة العلمية تحوي مواضيع متخصصة تتوجه الى عامة القراء. وهي نوعان، واحد يخاطب القراء من جميع الاختصاصات، والآخر يخاطب القراء العاديين، أي كل من يستطيع القراءة. النوع الأول يتحدث عن أمراض القلب ومواد البناء مثلاً بلغة يفهمها المهندس والمحامي وعالم الرياضيات وصاحب الاختصاصات العلمية العالية مهما كانت. أما النوع الثاني من الصحافة العلمية فيطرح الموضع العلمي بدقة وبساطة على كل من يستطيع القراءة من الجمهور، أكان اختصاصياً في موضوع محدد أم لا. وهذا ما يسمى العلم الجماهيري.
"البيئة والتنمية" هي من النوع الثاني، أي الصحافة التي تحمل عنواناً مختصاً لكنه موجه الى جميع القراء. ومن هنا فهي تقارب المواضيع العلمية البيئية من حيث انعكاسها على حياة الناس، فلا تتكلم مثلاً عن التنوع البيولوجي كرفاهية فكرية، بل من حيث تأثيره على استمرار الحياة. فالقضاء على غابة، مثلاً، قد يدمر نوعاً غير معروف من النبات يمكن أن يحمل في المستقبل علاجاً للسرطان. وتغيّر المناخ قد يؤدي الى ارتفاع مستويات البحار وتدمير مناطق ساحلية والقضاء على وسائل عيش ملايين الناس. الصحافة العلمية الشعبية تربط العلم بالحياة.
ان الصحافة العلمية التي تتوخى الدقة وإيصال المعلومات المفيدة الى الجمهور، هي التي تُنزل العلم من برجه العاجي وتضعه في خدمة الناس، وتحميه في الوقت نفسه من التحوّل الى مادة استهلاكية.
|