النقاش المحموم حول الجوانب السياسية والاقتصادية للبيان الوزاري، الذي نالت الحكومة اللبنانية الثقة على أساسه، حجب جانباً نعتقد أنه الأكثر أهمية في هذا البيان. فللمرة الأولى، في لبنان والعالم العربي، يحتوي برنامج الحكومة سياسة بيئية محددة، تتعدى الشعارات والتعابير الأدبية. فنحن في هذا البيان أمام تصوّر واضح لما تنوي الحكومة تحقيقه في المجال البيئي، من اعلان حالة طوارئ بيئية، الى تعيين الأولويات، الى انشاء مؤسسة وطنية لأبحاث البيئة، الى تطبيق نظام الحوافز والروادع الضريبية لتأمين التوازن البيئي.
لقد أخطأ بعض كتّاب صفحات البيئة والناطقين باسم الجمعيات الأهلية حين وصفوا الشق البيئي في البيان الوزاري بأنه عادي وتكرار للبيانات السابقة، والغالب أنهم لم يقرأوه جيداً. لذا من المفيد إجراء قراءة متأنية له ومقارنته بالبيانات الوزارية لحكومات سابقة.
فبيان حكومة الرئيس رفيق الحريري في تشرين الثاني (نوفمبر) 1996، خصص فقرة عامة لموضوع البيئة، تحدثت عن "تأكيد تنفيذ القوانين المتعلقة بالمناطق غير المنظمة والمحافظة على الاراضي الزراعية والحرجية والمحميات الطبيعية وتنظيم الصناعة وحماية الشواطئ ومنع تشويه البيئة وإيجاد حل جذري للنفايات ومكباتها والكسارات والمرامل، واعداد مشروع هيكلية للوزارة وتفعليها...". نقرأ هنا عناوين لمشاكل معروفة، لكنها جاءت مشتتة وغير مترابطة، عدا عن أنها تفتقر الى أي تصوُّر لطريقة المعالجة.
أما البيان الوزاري لحكومة الرئيس سليم الحص، في كانون الأول (ديسمبر) 1998، فاحتوى على مقطع بيئي يدعو الى "سياسة بيئية تقوم على التعاون بين القطاعين العام والخاص ووضع خطة عمل تعتمد سلماً للأولويات". وعلى الرغم من الكلام الجميل، بقيت وزارة البيئة، في معظم الحالات، حقل تجارب يفتقر الى الخطة والخيال، فأصبحنا كمن ينتقل من كارثة الى أخرى.
بيان الحكومة الأخير يعطي موضوع البيئة حقه، للمرة الأولى. فقد وعد الرئيس رفيق الحريري، في رسالة كتبها الى "البيئة والتنمية" قبل سنة، وهو خارج الحكم، أن يضع البيئة في طليعة اهتماماته للألفية الجديدة، وتبنى برنامجاً بيئياً في كلام واضح لم نسمع مثله قبلاً من السياسيين. وحين نشرنا الرسالة في صدر المجلة، اتهمنا بعضهم بأننا نروّج كلاماً وهمياً لسياسي خارج الحكم، وقالوا إنه لن يطبق هذه المبادئ اذا عاد الى السلطة. وها هو الرئيس رفيق الحريري يعود الى الحكم ببرنامج بيئي يتبنى ما وعد به قبل سنة، ويؤشر بالفعل الى أنه ينوي رفع البيئة الى موضوع اهتمام رئيسي.
يبدأ الشق البيئي في البيان الوزاري بالتأكيد على أن "الحكومة تضع البيئة في أولويات اهتماماتها". وينطلق من هنا الى شرح هذا الخيار وربطه بمصلحة الناس، إذ يتابع: "لقد أثبتت التطورات الأخيرة في العالم أن القرارات الصائبة بيئياً هي في الوقت نفسه صائبة اقتصادياً، إذا كان المقياس حياة الشعوب ومصلحة الأجيال المقبلة، وليس الحسابات والمصالح الآنية للأفراد".
أما المقطع الثاني، فيتسم بشجاعة في الالتزام بالهمّ البيئي، نادراً ما تتبناها البيانات الوزارية، اذ يدعو الى "حالة طوارئ بيئية في لبنان، توقف فوراً كل تخريب بيئي، وتضع سياسة بيئية صريحة وبرنامج عمل محدداً بجدول زمني". واذا كان في الدعوة الى خطة طوارئ بيئية تذكير بالخطب والمقالات البيئية، فالبيان يتعدى هذا الى التعهد بوضع سياسة بيئية وبرنامج عمل محدد بجدول زمني.
وإذا كان البعض يتهمون الرئيس رفيق الحريري بالتركيز على التنمية واهمال الشوؤن الأخرى، فهو يجيب عن هذا في البيان الوزاري بكلمات واضحة: "الادارة البيئية التي ندعو اليها ليست ملحقاً يضاف الى البرامج الانمائية، بل هي جزء عضوي منها".
وفي سبيل نقل العمل البيئي من الهواة الى المحترفين، فلا تبقى الوزارات حقول تجارب، يدعو البيان الى "انشاء مؤسسة وطنية علمية للبيئة، غايتها اجراء البحوث والدراسات المختصة ووضع المعايير. هكذا تصبح السياسات البيئية الوطنية مرتكزة على معلومات موثوقة، بدل أن تبقى ردات فعل واسعافات أولية لا يتجاوز مفعولها، في احسن الحالات، تأجيل المشكلة أو نقلها من مكان الى آخر". وقد يكون التعهّد بانشاء هذه المؤسسة المستقلة أبرز ما جاء في البيان، وهو خطوة متقدمة جداً على طريق انشاء مؤسسات بيئية فاعلة وتحديد سياسات علمية واقعية لا تمليها المصالح الظرفية.
أما ربط التدابير المالية والضريبية بالسياسة البيئية، فيعطي البيان الوزاري صفة عملية تنتقل من اعلان النيات الى الأفعال، في نظرة حديثة لا تكتفي بردع المخالفين، بل تتعهد بتشجيع مبادرات حماية البيئة من جانب الصناعات والمؤسسات عن طريق الاعفاءات الضريبية: "ان التدابير التنفيذية للسياسة البيئية التي نطمح اليها يجب الا تقتصر على العقوبات وردع المخالفين. فمن الضروري ان تكون الحوافز جزءاً أساسياً في أية سياسة عصرية، بحيث يتم تشجيع الافراد والمؤسسات على اعتماد اجراءات تحمي البيئة، باعطائهم الدعم المالي والاعفاءات الضريبية، الى جانب فرض ضرائب وغرامات على الملوثين".
واذ ينتهي الشق البيئي في البيان الوزاري بالقول ان "علينا جميعاً، مواطنين وقادة سياسة وفكر وصناعة وتجارة، العمل معاً من أجل ضمان بيئة معافاة للأجيال المقبلة"، يزداد أملنا بأن عصراً جديداً في التعامل مع الشأن البيئي قد يبدأ في لبنان.
سمعنا بعض المشككين يرددون ان لائحة العقاقير لا تصنع طبيباً، وان كلام الليل قد يمحوه النهار، خاصة وأن مناقشة البيان الوزاري امتدت الى ساعات الليل المتأخرة خلال أسبوع حافل بالكلام. غير أننا نرى أن ما جاء في البيان ليس وليد صدفة، بل نتيجة رؤية مستقبلية في قناعات الرئيس رفيق الحريري، عبّر عنها في مواقف متعددة. ولا بد أنه لاحظ خلال السنة الأخيرة أن الالتزام بسياسة بيئية متوازنة له مردود شعبي أيضاً. فالرسالة البيئية التي احتواها موقعه على الانترنت كانت الأكثر شعبية بين صفحات الموقع، واستحوذت على ردود فعل ايجابية كثيرة، خاصة بين الجيل الطالع. كما أن رسالته الى "البيئة والتنمية" استقطبت مئات الردود المؤيدة من لبنان والعالم العربي.
اننا نشعر، للمرة الأولى، أن هناك ملامح سياسة حكومية بيئية تعبّر عن طموحات البيئيين. بقي أن تتحول هذه الى خطط عمل وبرامج على الأرض، تجسد فعلاً حالة الطوارئ البيئية التي دعا اليها البيان. لقد جاءت البيئة في البيان الوزاري كإعلان نيات، لا بد أن تتبعه خطة محددة يعدّها وينفذها فريق عمل مختص. واذا لم تنجح الارادة السياسية في تحقيق هذا سريعاً، فستبقى البيئة شعارات تسحقها هموم النزاعات الشخصية وطوارئ الاقتصاد.
ولهذا، فبمقدار ما ندعم التوجه الجديد للحكومة، سنراقب المسار عن كثب، لنتأكد من أن الارادة السياسية ستحوّل الوعود الى أفعال، فلا تبقى وزارة البيئة، كما كانت حتى اليوم في لبنان وعند معظم العرب، وزارة من الدرجة الثانية.