"كيف نحمي بيئة الوطن اذا لم نحافظ على أرضه وموارده في المقام الأول؟ الرئيس حافظ الأسد قائد بيئي بمقدار ما هو مناضل وطني، اذ ان محبته غير المحدودة للوطن وضعته في خط الدفاع الأول عن كل حبة من ترابه وكل ذرة من موارده، من هضاب الجولان الى فلسطين وجنوب لبنان".
هل كنت أتلو شهادتي البيئية كرثاء، حين قلت هذا الكلام في دمشق يوم الجمعة في 9 حزيران (يونيو)، عشية رحيل القائد الكبير؟ فقد اجتمعنا يومها أمام وزارة البيئة في دمشق، مع وزير البيئة السوري الدكتور فاروق العادلي، لوداع المتطوعين الشباب في "قافلة البيئة" التي أطلقتها الوزارة بالتعاون مع المجلة، وصعقنا في اليوم الثاني لرحلة التوعية بخبر الفاجعة. غير أن قافلة تحرير الوطن انطلقت ولن يقف أحد في طريقها. وواجبنا مضاعفة العمل للحفاظ على بيئة الوطن الذي أحبه الرئيس حافظ الأسد، حتى آخر حبة تراب وآخر قطرة ماء وآخر ذرة هواء.
أرض الوطن وموارده ملك لأجيال الأمة المتعاقبة، ولا يحق لأفراد أو حتى لجيل بكامله التفريط بها. انطلاقاً من هذه الفلسفة، بنى القائد الراحل سياسته في التمسك بكل شبر من الأرض وكل قطرة من الماء، محافظاً على وكالة الأمة له.
قبل أيام من غيابه، كان المحتل الاسرائيلي ينسحب من جنوب لبنان، تحت ضربات المقاومة. أما الآن، وقد عادت لنا الأرض، فواجبنا أن نحافظ عليها ونحميها ونرعى الانسان فيها لنثبت أننا نستحقها. ذلك أن الجنوب يقف اليوم على عتبة مرحلة إنماء وتطوير، يجب أن تصل فوائدها الى الناس المعنيين، من خلال تنمية ريفية متكاملة ومتوازنة. وإذ تنطلق عملية التنمية في الجنوب، علينا التأكد من ادخال الاعتبارات البيئية في صلب التخطيط، فلا تدمّر المشاريع العاجلة مقومات الحياة في المستقبل.
لقد دمر الاحتلال معالم كثيرة في بيئة الجنوب. فكل قذيفة ثقيلة تقتلع 72 متراً مكعباً من التربة. والمتفجرات عرت الأرض في مواقع كثيرة وسممت المياه الجوفية وخربت بعض الينابيع وأفقدت أراضي زراعية خصوبتها ودمرت خزانات ري وقنوات مياه وأتلفت معالم أثرية. وقد جرف المحتلون بساتين كاملة لتسهيل الاعتداءات العسكرية، وسرقوا أطناناً من التربة والمياه. وتبقى الألغام الأرضية من أفجع مخلفات الاحتلال، الذي ترك وراءه مئات الآلاف من الألغام والاشراك والذخائر التي لم تنفجر، وتنظيفها يبقى أولوية لأنها تعرض الناس والثروة الحيوانية والحياة البرية للخطر، وتعوق تنمية مساحات واسعة من الأرض.
ولكن في مقابل هذه الصورة القاتمة، قد يكون للحروب تأثير إيجابي على البيئة في بعض المواقع، إذ إن العمليات العسكرية توقف نشاطات التنمية، مما يبقي بعض المناطق عذراء. وإذ نعمل على إصلاح التدمير البيئي الذي خلّفه الاحتلال، علينا أن نمنع هجوم المقالع والكسارات ومصانع الاسمنت والكيميائيات في حملات عشوائية على طبيعة الجنوب، باسم التنمية والاقتصاد.
هل يعني هذا أنه لكي نحمي البيئة يجب أن نوقف التنمية؟ الجواب هو، بالتأكيد، لا. فالتنمية المتوازنة تحمي البيئة ورعاية البيئة تدعم التنمية والاقتصاد.
على الجنوبيين أنفسهم، أولاً، أن يكونوا جزءاً في كل تخطيط إنمائي. وعليهم أن يحذروا جحافل "الخبراء" الذين سيتدفقون على المنطقة من كل هيئة ومنظمة وحكومة، لاقتراح حلول جاهزة وترويج خدمات وصناعات ومنتجات معلَّبة. الخبرة الخارجية ضرورية، لكنها يجب أن تعمل مع السكان المحليين وتضع حلولاً تنسجم مع واقعهم وحاجاتهم الخاصة. كلمة السر هنا هي تطوير نماذج عملية في التنمية الريفية، تقوم على التكنولوجيات الملائمة لطبيعة المنطقة. ليس الحل في مشاريع وسياسات مركزية، بل المطلوب إدخال السكان الريفيين فعلياً في عملية تخطيط التنمية الريفية وتنفيذها. والمطلوب أيضاً التزام الحكومة بخلق سبل الانتاج في الجنوب وتطويرها، حتى لا تبقى سياسات التنمية الريفية قائمة على توزيع معونات موقتة. ولا شك أن معظم برامج المساعدات الحالية تقوم على توفير الحلول والمعدات الجاهزة، من دون المساعدة على إيجاد سبل إنتاج محلية تتمتع باكتفاء ذاتي في المواد والمهارات. وهذا يؤدي بالطبع إلى الاستمرار في حال الاعتماد على الغير. فلا تنمية حقيقية ما دام الجنوب لا يتمتع بقدرة تكنولوجية ذاتية للسيطرة على موارده واستغلالها لمصلحة سكانه.
ان معظم مشاريع التعاون التقني السائدة حالياً تقوم على اعتبار المجتمعات المحلية "متلقية" فقط وغير "متفاعلة". وغالباً ما تنظر المنظمات والحكومات المانحة للمساعدات الى التنمية الريفية على أنها مجرد نقل مباشر لحلول وتقنيات، يتم تحديدها من دون مشاركة الناس المستفيدين. وهكذا كانت معظم "الوصفات التكنولوجية" التي تم تبنيها غير ملائمة لحاجات السكان المحليين ولا يمكن تطبيقها بالمواد والمهارات المتوافرة محلياً.
نريد أن نعتمد للجنوب مفهوماً في التكنولوجيا الملائمة يختلف عن الممارسة التقليدية في أنه لا يكتفي بتحديد الاحتياجات التكنولوجية، بل يتعدى هذا الى تحديد الموارد التكنولوجية والطبيعية والبشرية المتوافرة محلياً والتي يمكن نقلها بفعالية لتتناسب مع احتياجات المجتمع المحلي وقدراته. واذا كان للمفاهيم التكنولوجية الملائمة أن تنتشر بين الناس الذين هم في أشد الحاجة اليها، أي سكان الأرياف، فلا بد من تطوير وتعميم نظام تدريب محلي يتم من خلاله تأهيل السكان الريفيين تقنياً وادارياً لتولي مشاريع التكنولوجيا الملائمة بأنفسهم، فيتحملون في هذا مسؤولية تنمية مجتمعاتهم. وهذه النشاطات التدريبية يجب أن تقوم في المجتمعات الريفية نفسها بمشاركة السكان والمسؤولين المحليين.
تمكن التكنولوجيا الملائمة السكان الفقراء في المناطق الريفية والمحرومة من تطوير واستخدام تقنيات وأساليب تمنحهم سيطرة أكبر على مقدراتهم، وتسهم في التنمية الطويلة الأجل لمجتمعاتهم، لأن تطبيقها يمكّنهم من استخدام مواد محلية ومهارات محلية وتقاليد محلية لها جذورها في الابتكار المتناغم مع المحيط. ولأن التكنولوجيا الملائمة تعتمد على تدريب الناس ليتولوا بأنفسهم أمور الانتاج، فهي لا تستقطب تأييد الشركات التجارية الكبرى، التي تعتمد على بيع معدات ومواد جاهزة لمجتمع استهلاكي. وهناك حلف جهنمي غير معلن بين الشركات الكبرى والاقطاع التقليدي والمستجد لمنع مقومات الانتاج الحقيقية عن الأرياف، فيبقى الناس تحت سيطرة الاقطاع السياسي والاقتصادي.
كيف يمكننا تحقيق نظريات التنمية الريفية المتكاملة أعمالاً على أرض الجنوب؟ المبدأ الأول اطلاق تنمية مع الناس وبمشاركتهم، تعتمد على تطوير القدرات الذاتية الفنية والعلمية والانتاجية، لا على المساعدات الطارئة والاسعافات الأولية. وفي هذا الاطار، يمكن اقتراح النشاطات المحددة الآتية:
- انشاء مراكز نموذجية لتعميم استخدام طاقة الشمس والرياح والبيوغاز لتسخين المياه وإنتاج الطاقة. وهذا يشمل تدريب السكان المحليين على هذه التقنيات لصنع الأجهزة بأساليب مبسطة، كما يشمل إقامة مركز علمي لتكنولوجيا الطاقة البديلة، يستقطب علماء وباحثين في قلب الجنوب. وهذا يستتبع مساعدة الفنيين والميكانيكيين وصغار المستثمرين المحليين على انشاء صناعات محلية لانتاج أجهزة التسخين والتجفيف والطبخ بالطاقة الشمسية ومراوح الهواء وبناء مهتضمات البيوغاز. وقد قام مركز الشرق الأوسط للتكنولوجيا الملائمة ببناء مهتضمة نموذجية لانتاج الغاز الحيوي في مرجعيون، توضع فيها الفضلات العضوية من مزرعة دجاج وأبقار وخيمة زراعية محمية مجاورة. وعدا عن معالجتها مشكلة نفايات المزرعة، تنتج المهتضمة غاز الميثان الذي يستخدم في تدفئة المزرعة وتوليد الكهرباء، كما تستخدم فضلاتها سماداً عضوياً.
- إدخال أساليب الزراعة العضوية التي تعتمد على المبيدات والأسمدة الطبيعية، وترويج إنتاج الجنوب الزراعي على أنه سليم بيئياً، مما يستقطب زبائن أكثر ويكسب هذا الانتاج هوية خاصة. والزراعة العضوية تنتشر الآن في أوروبا، ومحصولها يباع بسعر أعلى من التي تعتمد على الاستخدام المكثف للأسمدة والمبيدات الكيميائية. وتحقيق هذا الهدف يتم عن طريق تدريب المزارعين على تقنيات الزراعة العضوية وانشاء تعاونيات للتطوير وتصريف الانتاج، تحت شعار: "زراعة عضوية من جنوب لبنان المحرر".
- تعميم صناعات غذائية ريفية تعتمد على تجفيف المحاصيل وتعليبها بأساليب ملائمة، يمكن تطبيقها بنجاح على مستوى مصانع عائلية صغيرة. والمجففة الشمسية التي تم بناؤها في العين (بعلبك) نموذج ناجح لتقنيات ملائمة رخيصة يمكن أن تدعم الصناعات الغذائية الريفية.
- اعتماد أساليب ملائمة لمعالجة النفايات، تناسب وضع المنطقة الطبيعي والاجتماعي وتؤمن فرص عمل وتحمي البيئة. وفي مصنع النفايات في قرية كفرصير الجنوبية مثال على تكنولوجيا لمعالجة النفايات تم تطويرها وفق حاجات المنطقة وتعمل بفعالية، حيث يمكن بناء جميع أجزاء المصنع محلياً، ليفرز النفايات ويخمر العضوي منها، الذي يشكل نحو 70 في المئة من المجموع، لتخميره هوائياً واستخدام الحصيلة في التسميد. ويمكن تكرار هذا العمل الناجح في كل الجنوب، عن طريق التدريب والدعم المادي والتقني.
- استثمار الخصائص الطبيعية الفريدة في الجنوب لتطوير نشاطات سياحية صديقة للبيئة، تستقطب الزوار من كل أنحاء العالم. وقد اقترح السفير السعودي الأديب فؤاد صادق مفتي تحويل الجنوب المحرر الى مركز سياحة عالمي.
ورعاية بيئة الجنوب اللبناني تتطلب أولاً إجراء مسح مفصل للوضع الراهن، لتحديد النقاط الحساسة، وتعيين المناطق التي تحتاج الى علاجات فورية، ووضع خطة انمائية شاملة تكون البيئة في أساسها. ولا بد من فرض اجراء دراسة للأثر البيئي لأي مشروع يتم اعداده للجنوب، فلا نسحق البيئة ببرامج الاسعافات الأولية. من هنا اقتراحنا إنشاء مركز للتكنولوجيات الملائمة في قلب الجنوب، يدرب الأهالي على مهارات التنمية ويحمي البيئة في آن معاً.
لقد استخفت سياسات التنمية التقليدية بقدرات المجتمعات المحلية، واعتبرتها عاجزة عن الامساك بمصيرها، فقدمت لها حلولاً معلبة كان لها، في أحسن الحالات، أثر المسكنات الموضعية، مما أدى الى فشل هذه السياسات. نحن ندعو الى ميثاق جديد في التنمية يرتكز على تنمية القدرات الذاتية للمجتمعات الريفية لتصبح سيدة نفسها.
لقد استعدنا أرض الجنوب، فلنحافظ على البيئة والانسان كي نستحق الأرض.