حسناً فعلت وزارة الشؤون البلدية والقروية في لبنان حين أوقفت الشهر الماضي برنامجاً متعثراً يموله البنك الدولي لمساعدة الحكومة على إدارة النفايات. ولكن ايقاف المشروع حصل بعدما استهلك معظم مبلغ المليوني دولار المخصص له، ولم تستفد منه الحكومة الا زيادة الفوضى والضياع في موضوع النفايات. وهذا البرنامج واحد من مجموعة مبادرات متفرقة مولتها المنظمات الدولية بهبات وقروض خلال السنوات الماضية. فذهبت أموالها، في معظم الحالات، هدراً في جيوب الوسطاء والمقاولين، لأنها افتقدت الى خطة عمل شاملة. واستمر مندوبو مبيعات المنظمات الدولية وأصدقاؤهم المحليون في ترويج برنامج مبتور إثر آخر، متجاهلين الدعوات المتكررة الى وضع خطة وطنية لادارة النفايات، مثل أي بلد سبقنا في هذا المجال، قبل المباشرة في صرف الأموال على برامج قاصرة سقطت بالمفرّق والجملة.
ضمن برنامج المساعدة في ادارة النفايات، تم توظيف أشخاص يفتقرون الى الخبرة في الموضوع، لقاء أجور بآلاف الدولارات تجاوزت مرات الأجور السائدة، وقدمت فواتيرها الى الحكومة مضروبة بأضعاف. وبعض الأشخاص الذين عملوا سابقاً في وحدات محلية تابعة لبرامج دولية، وساهموا من ضمن مهماتهم في اختيار منفِّذي برنامج النفايات ومشاريع أخرى في إطاره، ظهروا فجأة في ما بعد كموظفين لدى الجهات التي منحوها العقود، وهذا يتعارض مع أبسط القواعد المتبعة في العلاقة بين الاستشاري والمقاول.
ومن طرائف البرنامج أن دراسة أجريت في اطاره لتقييم الأثر البيئي لأحد مكبات النفايات المقترحة في جنوب لبنان، حذرت من الضرر الذي يلحقه بالسعادين، مع أن السعادين أو أية فصيلة من القرود لا وجود لها في تاريخ لبنان الطبيعي المعروف. ويبدو أن الاستشاري نقل التقرير حرفياً عن دراسة أعدت لمكب نفايات في دولة افريقية، ونسي أن يشطب الاشارة الى السعادين، كما لم يتنبه اليها "خبراء" البرنامج.
خلال الشهر الماضي أيضاً، بدأت لجنة الادارة والعدل في مجلس النواب اللبناني دراسة "قانون البيئة"، فوصفه رئيس اللجنة بأنه "خطاب طويل يؤدي الى تشابك عمل الوزارات". وقصة هذا القانون طويلة، فيها أيضاً نموذج محزن لهدر الوقت والمال. فقد بدأ العمل عليه سنة 1994 بتمويل من برنامج الأمم المتحدة للبيئة، ضمن مشروع لوزارة البيئة بلغت قيمته 650 ألف دولار، اشتمل أيضاً على تنظيم الوزارة وتدريب موظفيها. وتولى المحامي هيام ملاط إعداد الصيغة القانونية، بعد دراسة جميع القوانين اللبنانية السارية لتحديد الثغرات وتعيين المواد التي تحتاج الى تعديل وتلك التي تتطلب نصوصاً جديدة أو اضافات. والدكتور ملاط، الذي يدرّس مادة القانون البيئي في كلية الحقوق في جامعة القديس يوسف منذ خمس عشرة سنة، انتهى من اعداد القانون البيئي اللبناني للوزارة سنة 1996، بعدما راجعته مجموعة من كبار الخبراء القانونيين العالميين من ذوي الاختصاص في الموضوع.
وفي 1997، باشرت وزارة البيئة، إثر تغيير حكومي، إعادة صياغة قانون البيئة من جديد، بتكاليف إضافية، وكلَّفت لهذه المهمة أشخاصاً لم يسبق لهم العمل في مجالات القوانين البيئية. واللافت أن الدكتور ملاط لم يُستشر حتى حين أعيدت صياغة القانون، ولم يُدع الى حضور أي اجتماع، للاستفادة من عمله السابق الذي دفعت قيمته من المال العام، أو على الأقل لمناقشته في ما قد يكون المسؤولون الجدد وجدوه أدنى من المستوى الذي يطمحون اليه. والنتيجة، بعدما صرفت مئات ألوف الدولارات، هذا القانون الذي وصفه رئيس لجنة الادارة والعدل النيابية بالخطاب الطويل المتشابك والمتناقض. ويبدو أنه على حق في هذا، لأن القانون البيئي يكون عادة نصاً واضحاً يعيّن العناوين العريضة لتطبيق السياسة البيئية، وتترك التفاصيل لتشريعات محددة.
وفي مجال تكرار المشاريع والبرامج البيئية، تبين مؤخراً أن برنامجاً بدأ في وزارة البيئة لتنظيم عملية تقييم الأثر البيئي في لبنان، بما في ذلك تدريب الموظفين ووضع دليل للعمل وتطوير قانون يحكم هذا الموضوع، هو تكرار كامل لبرنامج مشابه تم تنفيذه بين 1994 و1996 في الوزارة نفسها. وتبين أن دليل تقييم الأثر البيئي، الذي أُنجز سنة 1996 ضمن مشروع لبرنامج الأمم المتحدة الانمائي وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، قد تم تكراره سنة 1997 في إطار "وحدة التنفيذ القطاعية" التي كانت تعمل في وزارة البيئة بتمويل من الاتحاد الأوروبي، وبعدها تم تكراره للمرة الثالثة سنة 1998 ضمن برنامج موّله البنك الدولي، وذلك بكلفة مضاعفة مرات عدة لما تم صرفه على التقرير الأساسي الذي اعتُمد في الحالتين اللاحقتين. وها هو يعود اليوم ضمن برنامج جديد يموله البنك الدولي، هو نسخة طبق الأصل عن البرنامج الذي يفترض أن تنفيذه انتهى بين 1994 و1996، تدريباً ومشاروات ودليلاً. ومرة أخرى، لم يتم الاتصال بالذين تولوا البرنامج الأساسي ولم تتم دعوتهم الى أي اجتماع للاستفهام عما نفذوه وقبضوا ثمنه، للاستفادة من تجربتهم وعملهم، أو لمساءلتهم عن أي نقص أو تقصير.
ولكن يبدو أن السؤال والمساءلة، لتجنب التكرار وضمان الاستمرارية ووقف الهدر، لا يخدمان مجموعة مندوبي المبيعات الدولية وأصدقاءهم المحليين، الذين يؤمّن لهم تناسخ البرامج وتكرارها استمرار العمل السهل والوظائف اليسيرة والرواتب الخيالية، حتى لكأنه أصبحت هناك حلقة مغلقة لتبادل المصالح والوظائف والتنفيعات. ونشأت "شركات" من الوسطاء، كل ما تملكه مجموعة من السير الذاتية تقدمها هنا وهناك، وتنجح بسحر ساحر في الحصول على عقود بالملايين، وليس في طاقمها موظف واحد مسجل رسمياً، وليس في سجلها مشروع واحد مشابه سبق تنفيذه بنجاح.
ومن الأمثلة الصارخة على ضحالة بعض البرامج ذات التمويل الدولي تلك "الحَشْرة" التي نعاينها آخر كل سنة، حيث تتسابق بعض الهيئات على صرف ما تبقى من ميزانيات برامجها بأي ثمن، لأنها اذا لم تفعل يتم تخفيض قيمة مخصصاتها في السنة المالية اللاحقة. وهكذا، تصلنا في الشهور الأخيرة من السنة عشرات الدعوات لارسال مندوبين الى مؤتمرات واجتماعات وورش عمل، من تونس الى الصين عبر ايطاليا، الهدف من معظمها ايجاد مخارج وأعذار لصرف أموال البرامج قبل نهاية السنة المالية، وتقديم التقارير بالانجازات الوهمية.
القروض والهبات لا تعطى مجاناً. وهي في حالات كثيرة ترهن البلد المعني ومؤسساته بقيود والتزامات قد تنتقل من جيل الى جيل. وبعض موظفي المنظمات والهيئات المانحة يسوّقون القروض ويلحّون في تمريرها، لأن وظائفهم غالباً ما تعتمد عليها. فهناك رسوم خدمة، عدا عن الفوائد، تفرض على القروض كبدلات إشراف وادارة للهيئات المانحة، فتغطي مصاريف موظفيها من أسفار عبر القارات واقامة في أفخم الفنادق. وتستمر رسوم الخدمة ما دام مبلغ القرض لم يستهلك كلياً، حتى لو توقف البرنامج لسنين، أو أُهمل في الادراج بعد توقيعه.
اذا أرادت الدول النامية الاستفادة من القروض والهبات الدولية والثنائية من أجل مصالحها، عليها أن تطور قدراتها الذاتية لوضع سياسة وطنية تحدد الحاجات الفعلية والأولويات، وتفاوض على أفضل الشروط، وتراقب التنفيذ وفق جدول زمني صارم يعيّن نتائج مرحلية يجب تحقيقها. ولا بد من ايجاد معايير وآليات تدقيق للتمييز بين القروض والهبات التي تفيد البلد فعلاً، وتلك التي يتم تفصيلها وتسويقها على قياس مندوبي المبيعات الدوليين وأصدقائهم.
لا يجوز الاستمرار في فوضى التهافت على القروض والمساعدات الدولية في غياب برنامج وطني للرقابة، فنرتب ديوناً وقيوداً على الأجيال المقبلة بلا نتائج واضحة المعالم. فالهيئات المانحة، أكانت تابعة لمنظمات أو دول، ليست جمعيات خيرية. انها تعمل وفق مصالحها، وعلى الدول النامية أن تحمي مصالحها أيضاً، فتكون القروض استثمارات لنوعية حياة أفضل يستفيد منها جميع الناس.