لم يشهد العالم عصراً يحمل الأمل واليأس في لحظة واحدة مثل عصرنا الحاضر. فالعلوم الحديثة تبشر بفتح آفاق جديدة تكشف أسرار الكون المغلقة وتحكم سيطرة الانسان على الموارد وتعزز المعرفة الصحية وتعمم ثورة الاتصالات. لكن الخطر أن تفتقد هذه التطورات الى روح والمحبة، فيكون التوسع التكنولوجي سطحياً على حساب نوعية الحياة، ويؤدي المزيد من التحكم بالموارد الى مزيد من الاستنزاف بلا حساب، فنفقد أساس الحياة. في منتصف القرن الماضي حذر المهندس المعماري الأميركي فرانك لويد رايت من الاندفاع الأهوج في التيار التكنولوجي الاستهلاكي، منبّهاً الى أن التخريب الذي أحدثه الناس في الطبيعة منذ بزوغ القرن العشرين تجاوز كل التخريب الذي حصل منذ بدأت الحياة على الأرض.
ولكن على الرغم من كل المآسي والخيبات، أمكن في السنوات الأخيرة تحقيق نجاحات على الصعيد البيئي. فطبقة الأوزون المترققة ستلتئم قبل نهاية القرن الحادي والعشرين بفضل تطبيق بروتوكول مونتريال. وقد وضعت قضية تغير المناخ على الطريق الى غرفة العناية الفائقة، تحضيراً لمعالجتها جدياً ورصد ميزانيات فعلية لوقف التدهور. وأدت الاجراءات الطوعية في كثير من الصناعات الرئيسية في العالم الى خفض استهلاك الموارد وتقليل انتاج النفايات. وانخفض تلوث الهواء كما أوقف زوال الغابات وعُكست التجاهاته في أجزاء من أوروبا وأميركا الشمالية.
في مقابل النجاحات يبدو أن الوقت يمضي سريعاً من غير ان تتخذ مبادرات سياسية كبرى للتحول الى نظام متوازن في الانتاج والاستهلاك. فمن المستبعد ان تكون امدادت المياه قادرة على تلبية الاحتياجات في العقود المقبلة. وقد أدى تدهور الأراضي الى انخفاض الانتاج الزراعي الغذائي. واختفت أنواع نباتية وحيوانية كثيرة، أو حكم عليها بالانقراض. وتتفاقم مشاكل تلوث الهواء في كثير من المدن الكبرى، وبينها جميع المدن العربية التي يزيد عدد سكانها عن المليون نسمة.
تتميز البيئة العالمية اليوم باتجاهين بارزين: الخطر الذي يتهدد النظام الايكولوجي بفعل الاختلال في الانتاجية وتوزيع الموارد، والتغير المتسارع الذي يشهده العالم بحيث أصبحت الادارة البيئية قاصرة عن مواكبة التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وما تحققه التكنولوجيا الحديثة والسياسات الجديدة من مكاسب بيئية يتجاوزه النمو السكاني ومشاريع التنمية الاقتصادية.
يقول المبشّرون بالشؤم إن الألفية الثالثة ستحمل خراب الأرض، فيموت الناس عطشاً لأن الماء سينضب من سوء الادارة، وجوعاً لأن الأراضي الزراعية ستتراجع أمام زحف الصحراء، ومرضاً من التلوث الكيميائي والاشعاعي. ويقولون إن البحار سترتفع بسبب تغير المناخ وذوبان الجليد القطبي، فتغرق بلدان وشعوب وحضارات. كل هذا سيحصل حتماً اذا استمر الاستهتار والجنون الجماعي في استنزاف موارد الطبيعة وتدمير البيئة.
لكنني من المؤمنين بعقل الانسان الذي سيقود الى انتصار ارادة الحياة. لذا أميل الى الاعتقاد بأن القرن الحادي والعشرين سيتميز بوعي بيئي وعمل جاد لحماية موارد الطبيعة واستهلاكها بحكمة، وسيتجاوز هذا الى استنباط أساليب جديدة وفعالة للانتاج. فستكون هناك طرائق رخيصة وسهلة لتحلية مياه البحر. وستحل مصادر الطاقة البديلة وفي طليعتها الطاقة الشمسية محل الوقود التقليدي، فيتراجع تلوث الهواء. وسيتم تطوير أساليب فعالة وأمينة في انتاج الغذاء بلا أسمدة ومبيدات ملوثة، فيتوفر الغذاء للجميع. ولن نواجه مشكلة في ثقب الأوزون، الذي سيلتئم بفعل التحول الى بدائل للمواد التي سببته أساساً. وسيتوازن المناخ ولن تغمر البحار العالم، لأن تدابير صارمة وفعالة ستتخذ لمنع انبعاث الغازات التي حولت الأرض الى خيمة زجاجية تحبس الحرارة. وستخف النفايات ويتضاءل التلوث، لأن الصناعات كلها ستعتمد أساليب الانتاج النظيف القائم على الفعالية بلا فضلات وملوثات. فالتكنولوجيا نفسها التي تسبب سوء استخدامها في تدمير مقومات الحياة هي التي ستقدم الحل: أليست التكنولوجيا هي التي سمحت لقمر صناعي وزنه مئتي كيلوغرام بالحلول مكان أجهزة أرضية وتمديدات لآلاف الكيلومترات في الأرض والبحر وزنها مئات الأطنان، وتأمين الاتصال لأعداد مضاعفة من الناس؟
هذا الكوكب المهدد ستنقذه إرادة الحياة التي يحركها عقل الانسان.
|