«أنقذوا الأمواج» شعار علّقه البحارة والموظفون والمضيفون العاملون على سفن إحدى كبريات شركات السياحة البحرية العالمية فوق صدورهم. ولسنوات عديدة كانت البواخر الضخمة لهذه الشركة تجوب بالسياح بين جزر الكاريبي تحت شعار «أنقذوا الأمواج».
منذ أسابيع غرّمت محكمة أميركية الشركة مبلغ 12 مليون دولار كدفعة أولى بعدما وجدتها مذنبة بجرم تلويث البحر. فقد تبين أن سفن هذه الشركة دأبت خلال سنوات على تصريف نفاياتها السامة وفضلاتها في البحر خفيةً، بلا معالجة، وبواسطة أنابيب سرية، اختصاراً للوقت وللمصاريف. وعلقت وزيرة العدل الأميركية، مع الاعلان عن الحكم، أن الشركة خدعت المسؤولين الحكوميين لسنوات، وأخفت نشاطاتها التلويثية المخالفة للقانون بشعارات وهمية تدّعي الحفاظ على البيئة.
ومع قبوله الحكم واعترافه بالخطأ، اعتذر رئيس الشركة عن الضرر الذي سببته بواخره للبيئة البحرية، مدعياً أنه نتج عن تصرفات فردية لا تمثل سياسة الشركة. ولم تقبل المحاكم بهذا التبرير، اذ أكدت، وفي العلن، أن رمي المياه المبتذلة والملوثات السامة في البحر كان السياسة الثابتة المعتمدة في عنابر السفن وغرفها المغلقة، بينما كان الموظفون على ظهر السفن وفي قاعاتها الفخمة يعلقون أزرار «أنقذوا الأمواج». وهددت المحاكم الشركة بتحقيقات وعقوبات أخرى. فحصلت هذه الشركة المخادعة على ما تستحق: العقوبات المادية والتشهير العلني.
حين قرأنا الخبر، تمنينا لو أن هذا الأسلوب الصارم في التعامل مع المتسببين في تلويث البيئة وتخريبها ينتقل الى دولنا العربية. فما لم يتحول الكلام العمومي عن حماية البيئة الى قوانين وتشريعات يتم تطبيقها بدقة، يبقَ الموضوع البيئي في إطار الشعارات والتمنيات التي لا توصل الى نتيجة.
واللافت في الخبر أن كون الشركة التي صدر الحكم في حقها كبيرة وتخدم الأغنياء في رحلات ترفيهية فخمة، لم يؤمن لها حماية من القانون. بينما يعتقد البعض عندنا أن الشركات الكبيرة وأصحاب النفوذ في المجتمع هم دائماً فوق القانون، خاصة اذا كان الأمر ذا صفة بيئية لا أثر اقتصادياً مباشراً لها. فكم من شركة تعمل في مجال النفط تلوث الطبيعة برمي الرواسب النفطية بلا معالجة، فأصبح في بلدان كثيرة «بحيرات نفطية» ملوثة مساحتها آلاف الكيلومترات المربعة. وكم من شركة صناعية ترمي فضلاتها في البحر وتنفث غازات مداخنها الملوثة في السماء للتوفير في الانتاج ومضاعفة الأرباح، على حساب البيئة وصحة الناس. وكم من مقلع يطحن الطبيعة في أماكن حساسة بيئياً، بحماية نافذ سياسي. وكم من أسطول للصيد البحري يجرف قاع البحر مخالفاً كل الاعتبارات البيئية. وفي حين تتم هذه النشاطات كلها تحت شعار دعم الاقتصاد الوطني، فإن الهدف الحقيقي لمخالفتها الشروط البيئية هو الجشع وحده.
الخطوة الأساسية على طريق الحل تبدأ بوضع جميع هذه النشاطات التخريبية الملوثة تحت القانون، وفرض عقوبات صارمة عليها، والتشهير بالمسؤولين عنها، مهما علا شأنهم وكبر نفوذهم. فلا يجوز أن تبقى بعض الشركات الكبرى خارج نطاق المحاسبة البيئية بحجة حماية الاقتصاد الوطني، كما لا يجوز أن يُسمح لبعض أصحاب السلطة بالاحتماء بالنفوذ السياسي للقيام بنشاطات تجارية وصناعية خاصة مخالفة للقواعد البيئية، أكانت اسطولاً للصيد أو مصنعاً كيميائياً أو مقلعاً لاستخراج الصخور.
واذا كان قرار المحكمة الأميركية قد فضح شركة تعيث بالبيئة خراباً لمضاعفة أرباحها غير المشروعة، بينما ترفع في العلن شعار «أنقذوا الأمواج»، فكم من شركة في عالمنا العربي تستحق الفضح والتشهير ودفع الغرامات، لاستعمالها شعارات بيئية في حملاتها الترويجية، بينما تمارس في عملها اليومي أبشع أساليب تخريب البيئة. وكم من مسؤول وصاحب سلطة يستحق الزج في السجن لخداعه الجمهور بالكلام المعسول عن حماية البيئة، بينما يعمل في الخفاء على حماية الملوثين والأرباح غير المشروعة لمخربي الطبيعة. وكم من الوجوه سيغطيها السواد اذا فُتحت ملفات الاجرام البيئي من المحيط الى الخليج.
|