دعَونا دائماً الى انشاء وزارات وهيئات حكومية للبيئة، وتابعنا عملها بحماسة في كل بلد عربي. غير أن وجود هذه الوزارات والهيئات يصبح بلا جدوى إذا لم تعطَ القوة والصلاحية والاعتبار السياسي. وقد تحولت بعض وزارات البيئة العربية بالفعل إلى علب للزينة، فارغة من أي محتوى وعاجزة عن تحقيق أي برنامج جدي.
وتفتقر وزارات البيئة في معظم دولنا إلى أي نفوذ سياسي، كأنها وزارات من الدرجة الثانية، أو كأنها جائزة ترضية يتم منحها للأقليات الحزبية والاجتماعية، التي تحجب عنها وزارات «الدرجة الأولى». ولا تقتصر هذه الممارسة على بلد عربي واحد ومنطقة واحدة.
ومن المفارقات أن الدور الهامشي لوزارة البيئة في الدول العربية يقابله دور فعال في دول أخرى، جعل كبار السياسيين يسعون الى وزارة البيئة. ففي ألمانيا، كان وزير البيئة السابق كلاوس توبفر، وهو الرئيس الحالي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، أبرز مرشحي حزبه لمركز المستشارية. وقد اشترط الوزير الهولندي يان برونك اعطاءه وزارة البيئة ليعود الى الحكومة، بعدما أمضى نحواً من عشر سنوات وزيراً للتعاون الخارجي، مسؤولاً عن موازنة سنوية تصل الى أربعة آلاف مليون دولار.
واذا كان بعض وزراء البيئة حاولوا اختراق الحصار التهميشي عن طريق توسل الحملات الاعلامية، فان الترويج الاعلامي يحمل مقومات فشله اذا لم تدعمه برامج فعلية. فدهم وزير البيئة لمصنع ملوِّث، أو مفاجأته لمقلع صخور يطحن الطبيعة، أو ايقافه لسيارة تنفث دخاناً ملوثاً، تبقى كلها استعراضات عاجزة أمام عدسات الكاميرات، ما لم تتطور الى قوانين وأنظمة تفرض شروطاً بيئية على كل المصانع وكل المقالع وكل السيارات. غير أن معظم وزراء البيئة في دولنا يبقون عاجزين عن فرض القوانين والتشريعات البيئية، لأن دورهم في الحكومة هامشي والسلطة الفعلية تبقى لوزراء «الدرجة الأولى» الذين يتولون شؤون التنمية والخدمات والأمن.
وينعكس افتقار وزارات البيئة العربية الى النفوذ السياسي عجزاً مخزياً في موازناتها. ففي حين تتجه موازنات وزارات البيئة في العالم كله الى الارتفاع، تقديراً لحجم المشاكل البيئية وأهميتها، تسير موازنات وزارات البيئة عندنا نحو الاضمحلال. في لبنان، تم مؤخراً تخفيض اعتمادات وزارة البيئة، الشحيحة أصلاً، الى النصف، فأصبحت لا تتجاوز المليون ونصف المليون دولار. وتجدر مقارنة هذا المبلغ مع بلد صغير مثل هولندا، حيث تبلغ موازنة وزارة البيئة 500 مليون دولار، وهي جزء صغير مما يصرف على البيئة ضمن اعتمادات وزارات أخرى. فالجدية في اعتبار وزارة البيئة مركزاً للتخطيط والتنسيق تفترض اعطاءها الحد الأدنى من التمويل للقيام بعملها.
وتبرز نتائج العجز في موازنات وزارات البيئة العربية في غياب سياسات وبرامج بيئية وطنية، واستبدالها ببرامج متفرقة ذات تمويل دولي وثنائي، يتم تنفيذها على نحو انتقائي وفق أولويات المنظمات والدول المانحة. وغالباً لا تملك وزارات البيئة، الفقيرة بالمال والخبرة، القدرة حتى على إدارة هذه البرامج والتنسيق بينها. وفي معظم الحالات، يدير البرامج الرديفة في وزارات البيئة موظفون صغار تابعون للهيئات المانحة، ويحشر فيها المقاولون السياسيون أزلامهم وأتباعهم ومحازبيهم، بلا اعتبار للكفاءة. فتتحول هذه البرامج الى بؤر للهدر والتنفيعات، ومراكز قوى تثقل كاهل الوزارات بدل مساعدتها.
ومن الآثار الخطيرة لافتقار وزارات البيئة الى المال والخبرة والنفوذ أنها تصبح أداة طيعة في أيدي المقاولين وتجار البيئة ومتعهدي خطط الطوارئ. وقد أدى عجز وزارة البيئة في لبنان، مثلاً، عن تطوير خطة جدية لمعالجة النفايات في السنوات السابقة، الى تمرير المتعهدين خطط طوارئ ضاعفت التكاليف مئات ملايين الدولارات، وبقيت في إطار الاسعافات الأولية.
ولا ينحصر عجز المؤسسات البيئية العربية في النطاق الوطني، بل يتعداه الى العمل الاقليمي. لقد كنا من الذين عملوا في الثمانينات على انشاء مجلس الوزراء العرب المسؤولين عن شؤون البيئة، في اطار جامعة الدول العربية، ووضعنا من خلال عملنا الاستشاري مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة بعض الخطط والبرامج الأساسية لهذا المجلس. وكان تصورنا في ذلك الوقت أن يشكل المجلس، الذي أنشئ عام 1987، اطاراً فعالاً لتنمية التعاون العربي في مجالات البيئة، وتحديد المشكلات البيئية الرئيسية وأولويات العمل اللازمة لمواجهتها. وقد أقر المجلس في أعقاب مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية عام 1992 وثيقة مهمة بعنوان «محاور العمل العربي للتنمية المستدامة»، كان يمكن اعتبارها دستوراً للعمل العربي في مختلف مجالات الحفاظ على البيئة، اذ تضمنت البرامج الآتية: مكافحة التصحر وزيادة الرقعة الخضراء، مكافحة التلوث الصناعي، التربية والتوعية والاعلام البيئي، البيئة البحرية، تنمية مصادر المياه، التنظيمات المؤسسية لادارة البيئة، شبكة المعلومات البيئية، التنوع البيولوجي، حماية المناطق الأثرية من التلوث. وقرر المجلس إعطاء الأولوية لمكافحة التصحر والتلوث الصناعي ونشر التربية والتوعية والاعلام البيئي.
غير أن عمل مجلس الوزراء العرب المسؤولين عن شؤون البيئة لم يتجاوز كثيراً نطاق إعلان النيات، إذ بقي مفتقراً الى التمويل والارادة السياسية. فحين أنشئ المجلس كان يفترض أن يقدم برنامج الأمم المتحدة للبيئة نصف التمويل في المرحلة الأولى، على أن تتحمل الدول الأعضاء النصف الآخر، وتتكفل بكامل التمويل لاحقاً. وما حصل أن المجلس عجز عن تأمين تمويل عربي، فاقتصرت موازنته على بضعة آلاف دولار ما زال يقدمها برنامج الأمم المتحدة للبيئة، بالكاد تكفي لمصاريف الأمانة العامة وقليل من الدراسات. والمجلس يعجز حتى عن تجميع خمسمئة دولار من كل دولة سنوياً لتمويل الجائزة البيئية التي يمنحها بقيمة خمسة آلاف دولار. أما «الصندوق الخاص» الذي أنشئ في إطار المجلس واتفق على تمويله باشتراك رمزي من كل دولة عضو قيمته خمسة آلاف دولار سنوياً، فنادراً ما يتلقى أية مساهمات.
في المقابل، نجد أن موازنة الاتحاد الأوروبي تخصص آلاف ملايين الدولارات سنوياً للمشاريع البيئية المشتركة في أوروبا. والوكالة الأوروبية للبيئة تصرف عشرين مليون دولار سنوياً لتنسيق العمل البيئي في نطاق الاتحاد الأوروبي. وعلى رغم هذا التفاوت، يسافر وزراء البيئة الأوروبيون لحضور اجتماعاتهم برحلات طائرات عادية، وينتقلون الى مكان الاجتماع من الفندق بالحافلات أو على الدراجات، يرافقهم فريق من خبراء البيئة، بينما يسافر كثير من وزراء البيئة في دولنا بطائرات خاصة، ويتنقّلون بقوافل السيارات الفخمة مع أفراد الحاشية بدلاً من الخبراء، ثم يمتنعون عن دفع خمسة آلاف دولار لصندوق البيئة كمساهمة سنوية.
في بدايات العمل البيئي، كنا نصفق لمجرد انشاء وزارة بيئة أو مجلس أو هيئة عامة للبيئة في أي بلد عربي. وقد صفقنا لانشاء مجلس الوزراء العرب المسؤولين عن شؤون البيئة، وكان لنا شرف المشاركة المتواضعة في هذا العمل. ولكن لا يجوز استمرار هذه الوزارات والهيئات والمجالس على هامش القرار السياسي، بلا موازنات وبلا نفوذ. فلا يمكن القبول بأن تصبح وزارة البيئة أو مجلس البيئة شاهد زور على عمل الوزارات والمجالس الأخرى. ولن يتغير الحال ما لم تأخذ وزارة البيئة موقعها كوزارة أساسية ذات نفوذ، لا خياراً بديلاً لمن لا يجدون لهم وزارة أخرى مناسبة، أو يستكثرون عليهم واحدة من وزارات «الدرجة الأولى». أما مجلس الوزراء العرب المسؤولين عن شؤون البيئة، فلا بد من تفعيل دوره وتخصيص موازنة سنوية له لا تقل عن عشرين مليون دولار، حتى يستطيع القيام بعمل تنسيقي اقليمي ذي أثر. ولا يفتقر المجلس الى الخطط والبرامج، اذ ان وثيقة «محاور العمل العربي للتنمية المستدامة» كافية لتكون برنامج عمل للسنوات العشرين المقبلة. المطلوب التمويل والارادة السياسية.
إن النجاحات الفردية المتفرقة على صعيد البيئة العربية تساعد في سد فراغ على المدى القصير، لكن النجاح البيئي البعيد المدى يتطلب مؤسسات ذات خطط دقيقة وبرامج فاعلة. وان دعم الوزارات والمؤسسات البيئية المحلية والاقليمية بالخبرة والموازنة العادلة، ورفع اعتبارها من الدرجة الثانية الى الدرجة الأولى، سيكونان المحك لجدية العرب في التعاطي مع الشأن البيئي على مشارف القرن الحادي والعشرين.