مع تكاثر المنظمات والبرامج الدولية التي تحمل شعار البيئة، يكاد المهتمون بالبيئة ينسون اليوم الوكالة الدولية الرئيسية المعنية بهذا الموضوع، وهي برنامج الأمم المتحدة للبيئة. فقد كان هذا البرنامج في السنوات العشرين الأولى لتأسيسه (1972 ـ 1992) القوة الدولية البيئية الكبرى، التي وقفت وراء أبرز المبادرات البيئية، وتوجت عملها بأهم المعاهدات والاتفاقات التي وضعت، للمرة الأولى، ضوابط وقيوداً على مجموعة من النشاطات الصناعية والانمائية المؤثرة في البيئة. ويكاد كثيرون لا يعرفون أن المعاهدات التي يقوم عليها العمل الدولي البيئي حالياً انطلقت جميعها من برنامج الأمم المتحدة للبيئة: التصحر، تغير المناخ، الأوزون، التنوع البيولوجي، البحار الاقليمية، مروراً بمعاهدة بازل لحظر نقل النفايات الكيميائية، وغيرها الكثير.
وقد أنشئ برنامج الأمم المتحدة للبيئة عقب مؤتمر استوكهولم حول البيئة البشرية عام 1972، ليكون الصوت البيئي للأمم المتحدة. وكان الهدف من انشائه تأمين منبر للمجتمع الدولي يناقش من خلاله معضلات البيئة ويضع سياسات وخطط عمل لمعالجتها، وينسق العمل البيئي في منظومة الأمم المتحدة، كما يساعد الدول النامية في تطوير سياسات بيئية سليمة وتنفيذها في إطار التنمية المتوازنة. وقد أراده رئيسه الأول الكندي موريس سترونغ ضميراً بيئياً للمجتمع الدولي ومركزاً للتميّز، يضيء الطريق لأعمال نموذجية في حماية البيئة، ويقود تنفيذها تاركاً للآخرين متابعتها.
نجح البرنامج في استقطاب خيال الناس ورفع موضوع البيئة الى مصاف الأولويات على جدول الأعمال العالمي. وقد طبعت رئاسة الدكتور مصطفى كمال طلبه للبرنامج في الفترة 1974 ـ 1992 جميع أعماله بطابع القوة والالتزام، وشهدت إطلاق وتوقيع أبرز المعاهدات البيئية الدولية. اكتسب الدكتور طلبه احترام العالم كله لفكره الثاقب واندفاعه، وعرف عنه دفاعه عن حقوق الدول الفقيرة ومصالحها، حتى لا تكون الضحية في أي اتفاق دولي. فهو الذي كان وراء تضمين أي معاهدة بيئية مساعدات مادية وفنية للدول الفقيرة دعماً لتطبيقها.
في ذكرى تأسيسه العاشرة عام 1982، أطلق برنامج الأمم المتحدة للبيئة فكرة ربط العمل البيئي بالتنمية القابلة للاستمرار. فالاهتمام بالبيئة يهدف أساساً الى ديمومة التنمية وحياة الناس. وبمبادرة من برنامج الأمم المتحدة للبيئة في دورته الحادية عشرة، أنشأت الأمم المتحدة عام 1983 «اللجنة الدولية للبيئة والتنمية» برئاسة رئيسة وزراء النروج غرو هارلم بروتلاند. وأصدرت اللجنة عام 1987 تقريرها الشهير بعنوان «مستقبلنا المشترك»، الذي ركز على وجوب تعديل أنماط التنمية بما يحول دون استهلاك الموارد الطبيعية الى حدود الافلاس.
وعقب صدور التقرير، اقترح برنامج الأمم المتحدة للبيئة على الجمعية العمومية للأمم المتحدة اقامة مؤتمر للبيئة والتنمية سنة 1992، يضع الاطار المؤسسي للعلاقة بين متطلبات التنمية وواجبات الحفاظ على البيئة، ويكون في الوقت نفسه مناسبة للاحتفال بالذكرى العشرين لانشاء البرنامج. وقد طلب مجلس إدارة برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن يتولى هو الاعداد للمؤتمر وتشكيل أمانته العامة. وحين وصلت الفكرة الى أروقة المباحثات في مقر الأمم المتحدة في نيويورك تم اختطافها. فقد دفعت وكالات أخرى في الأمم المتحدة في اتجاه سحب المؤتمر من سلطة برنامج الأمم المتحدة للبيئة، ووضعه تحت مظلة برامج التنمية التابعة للمنظمة الدولية. ففي ذلك الوقت، استهوت مواضيع البيئة الوكالات الدولية المعنية بالتنمية، التي بدأت برامجها تفقد أي معنى واتجاه. فقد ظهر إفلاس فكرة التعاون الفني التي تعتمد على إرسال «خبير» زراعي من كينيا لتقديم المشورة الى السودان، وإرسال «خبير» زراعي من السودان لتقديم المشورة الى كينيا مثلاً. فهذه الممارسات أثبتت هشاشة وعدم فعالية، وكان لا بد لوكالات التنمية الدولية من إيجاد أفكار جديدة لتأمين الاستمرار. فجاءت البيئة موضوعاً بديلاً يمكن أن يستقطب خيال الناس وجيوب المتبرعين الدوليين.
وهكذا، تمت التسوية في أن يكون «مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة والتنمية» (UNCED)، الذي أصبح يعرف بـ «قمة الأرض»، تحت اشراف الأمين العام للأمم المتحدة مباشرة، وتم تعيين سكرتارية مستقلة خاصة به. هنا بدأت عملية اختطاف الدور القيادي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة. غير أن رئاسة البرنامج بقيادة الدكتور طلبه قبلت التسوية، لثقتها بإمكانية تجيير النتائج لمصلحة البيئة والدول الفقيرة.
عقدت «قمة الأرض» في ريو دي جانيرو عام 1992، ونسي الناس أنها كانت أساساً الذكرى العشرين لتأسيس برنامج الأمم المتحدة للبيئة. وكان البرنامج في مؤتمر ريو في طليعة المطالبين بإيجاد تمويل كاف للدول الفقيرة من أجل تنفيذ المعاهدات البيئية، فلا تكون هي ضحية «التنمية المستدامة» كما كانت ضحية «التخلف المستدام». وكان من المتوقع أن تنشئ قمة الأرض صندوقاً لتمويل البرامج البيئية يكون في ادارة برنامج الأمم المتحدة للبيئة. كما طرح برنامج الأمم المتحدة للبيئة تكوين مجلس ادارة مشترك بينه وبين برنامج الأمم المتحدة الانمائي، وصولاً الى الدمج، فتصبح البيئة والتنمية في برنامج واحد تحت مظلة الأمم المتحدة. غير أن البنك الدولي تخوّف من هذه الفكرة، فسعى لتكوين «مرفق البيئة العالمي» (GEF) كصندوق مستقل بشراكة البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الانمائي وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة.
وهكذا، تم اختطاف دور برنامج الأمم المتحدة للبيئة للمرة الثانية، بمنع التمويل المستقل عنه وتحجيم دوره. وبدلاً من إنشاء مجلس إدارة مشترك بين برنامجي الأمم المتحدة للبيئة والتنمية، تمخضت «قمة الأرض» عن إنشاء سكرتارية مستقلة في نيويورك باسم «لجنة التنمية المستدامة» (CSD) بلا أي إمكانات وصلاحيات حقيقية. وبدلاً من إيجاد لجنة تنسيق مشتركة لادارة العمل البيئي بين منظمات الأمم المتحدة المختلفة برئاسة برنامج الأمم المتحدة للبيئة، تم توزيع المواضيع البيئية الواردة في «جدول أعمال القرن 21» على المنظمات بالجملة والمفرق. وهكذا تشتت الموضوع وضاعت المسؤوليات وتلاشت فعالية العمل البيئي بين منظمات متناحرة على الصدارة والوجاهة.
أما «مرفق البيئة العالمي»، فقد تحدد موضوعه في التنوع البيولوجي وتغير المناخ وحماية الأوزون والبحار. وهكذا تم اسقاط مواضيع مهمة للعالم الثالث من برامج المساعدات البيئية، مثل مكافحة التصحر. واقتصر تمويل المرفق لمشاريع البحار على تلك ذات العلاقة بالتنوع البيولوجي. وكان برنامج الأمم المتحدة للبيئة قد طرح أساساً أن يكون لكل اتفاقية بيئية دولية صندوقها الخاص لتمويل المشاريع المتعلقة بها، حتى يمكن مراقبة تنفيذ هذه الاتفاقيات وعدم تشتيت فاعليتها. فمرفق البيئة العالمي يعمل تحت جناح البنك الدولي في واشنطن، وهو الشريك الأكبر. فهل يكون انشاء «لجنة التنمية المستدامة» في نيويورك و«مرفق البيئة العالمي» في واشنطن وسيلة لنقل مركز ثقل القرار البيئي الدولي من العالم الثالث، لتعذر نقل المركز الرئيسي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة من نيروبي، فيحاصر بمؤسسات رديفة؟
حين دعا برنامج الأمم المتحدة للبيئة عام 1982 الى ربط البيئة بالتنمية، ثم أطلق «قمة الأرض» عام 1992، كان يهدف الى تعميم العمل البيئي بين جميع المنظمات الدولية المعنية بالتنمية. غير أنه تم اختطاف هذه المبادرات منه، وتبع هذا مسخ دور البرنامج وتشويشه، فحرم من دوره القيادي في تنسيق وادارة العمل البيئي على المستوى الدولي. وساعد في هذا قيام قيادة ضعيفة في البرنامج بعد عام 1992، فتنازلت عن دوره خطوة خطوة، الى أن كاد يفقد مصداقيته.
لهذا، جاءت الدورة العشرون لمجلس ادارة برنامج الأمم المتحدة للبيئة التي عقدت في نيروبي في شباط (فبراير) الماضي وكأنها مناسبة للدول للتكفير عن دورها في تهميش البرنامج. فقد تعاقبت خطب رؤساء الوفود، وزيراً بعد آخر، تدعم دور برنامج الأمم المتحدة للبيئة في قيادة العمل البيئي على المستوى الدولي. فلئن كان الاهتمام البيئي لجميع المنظمات المعنية بالتنمية مرغوباً ومطلوباً، إلا أن التشتت في المسؤوليات وانعدام القيادة أوصلا الى حال من الارتباك البيئي الدولي. وقد كان لشخصية المدير التنفيذي الجديد للبرنامج الدكتور كلاوس توبفر وخياله وروحه القيادية الأثر الفعال في اقناع ممثلي الدول جميعاً بدعم خطته لاحياء برنامج الأمم المتحدة للبيئة، واعادة دوره القيادي في إدارة العمل البيئي الدولي، وزيادة ميزانيته، ودعم نشاطاته الاقليمية. وقد يكون أبرز ما حققه المجلس في اجتماعه إنشاء «مجموعة الادارة البيئية» كهيئة وزارية تدعم البرنامج على المستوى السياسي، وتكون بمثابة هيئة القيادة الدولية في مجال البيئة.
إنها ولادة جديدة لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، الذي يستحق كل دعمنا لاستعادة دوره ضميراً بيئياً للمجتمع الدولي.