لو أنّ كلام الحكومات يحلّ مشاكل البيئة، لكان وضع البيئة اليوم بألف خير. لكن إذا تأملنا حالة البيئة اللبنانية بعد سنة من عمر الحكومة التي وعدت بسياسة بيئية عصرية، لما وجدنا غير الخيبة. وقد لا يكون وضع البيئة اليوم أسوأ مما كان عليه سابقاً، لكنه سيء جداً اذا قيس بمستوى الآمال التي علّقها الناس على البيان الوزاري.
ليس مسموحاً تأجيل موضوع البيئة تحت ضغط هموم السياسة والاقتصاد والتحرير والحرب والسلام، اذ بعد أن تنتهي كل السجالات والنقاشات سيبقى علينا أن نتنفس ونشرب ونأكل. ولا يمكن القبول بهدر الموارد الطبيعية والتسبب بتخريب لا يمكن إصلاحه، تحت أي مبرر أو حجة.
في مثل هذا الوقت من العام الماضي، قدمت الحكومة اللبنانية في بيانها الوزاري تصوراً واضحاً لسياسة بيئية، يتعدى الشعارات العامة والتعابير الأدبية. فقد وعد البيان الوزاري لحكومة الرئيس رفيق الحريري بإعلان حالة طوارئ بيئية، وتحديد أولويات العمل، وانشاء مؤسسة وطنية لأبحاث البيئة، وتطبيق نظام الحوافز والروادع الضريبية لتأمين التوازن البيئي. وكان رئيس الجمهورية قد وعد في خطاب القسم، عندما تسلّم الحكم قبل ثلاث سنوات، بالتصدي لما سماه «الجرائم البيئية». فاستبشرنا خيراً مرتين. وها نحن اليوم نعاين استمرار الجرائم البيئية ـ السياسية، من القضم العشوائي للجبال بمقالع الصخور، إلى اغتصاب الشواطئ، إلى رمي النفايات بلا رقابة، إلى تلويث المياه والهواء والتراب.
إن جردة حساب للتطورات في مجال البيئة، بعد ثلاث سنوات على الوعد الرئاسي بالتصدي للاجرام البيئي وسنة على التصور البيئي المحدد في البيان الوزاري، تُظهر أن الكلام بقي في نطاق إعلان النيات، ولم يتحول إلى سياسات حكومية وخطط عمل وبرامج على الأرض، تُجسّد فعلاً حالة الطوارئ البيئية الموعودة. وأدى قصور الارادة السياسية في تحقيق هذا الهدف إلى إبقاء البيئة شعارات تسحقها النزاعات ومصالح الطوائف والمناطق والمتزعمين وهموم الاقتصاد. فعدا عن استمرار الجرائم البيئية الكبرى، بحراً وبراً وشاطئاً وجبلاً، تارة بغض النظر وطوراً بالاستثناءات المخالفة للقانون، بقيت وعود البيان الوزاري بلا تنفيذ فعلي.
فقد دعا البيان إلى «حالة طوارئ بيئية توقف فوراً كل تخريب بيئي وتضع سياسة بيئية صريحة وبرنامج عمل محدداً بجدول زمني». ولكن حتى هذه الساعة، لم تظهر أية دلائل على حالة الطوارئ البيئية، ولا تم تطوير سياسة بيئية وطنية توضع على أساسها أولويات للعمل وبرنامج زمني يمكن المحاسبة على أساسه. ومن دلائل هذا التخبط أن البرامج البيئية ذات التمويل الدولي يتم تنفيذها انتقائياً، وبعضها تكراراً، من دون مؤشرات محددة لقياس النتائج.
وبعد سنوات على خطط الطوارئ لمعالجة النفايات باسعافات أولية، ما زال لبنان يفتقر إلى خطة وطنية لادارة النفايات، على الرغم من صرف الملايين على الدراسات والتقارير والخطط العشوائية. وبعد دراسات بملايين الدولارات عن الشواطئ، ما زلنا نفتقر إلى سياسة لادارة الشواطئ، وما زالت هيئات دولية تمول برامج متفرقة لتجارب انتقائية هنا وهناك، من دون تصور واضح لموقعها ضمن خطة وطنية. وبعد صرف الملايين على برامج للحد من التلوث الصناعي، لم نعرف ماذا حصل بالدراسة الصناعية الأولى التي أجرتها وزارة البيئة سنة 1996 بكلفة مليون دولار. كما لم نعرف لماذا ما زالت مقالع الصخور تعمل عشوائياً بتصاريح يتم تمديدها تكراراً، ولا تنفذ مخططات توجيهية ودراسات لتنظيم هذا القطاع كلفت الملايين، وتم اعدادها منذ ما يزيد عن سبع سنوات؟ وأين أصبح القانون البيئي، الذي ينتقل منذ سنوات خمس من لجنة نيابية إلى أخرى، بعدما صرفت عليه الملايين بدلات مستشارين ومحامين، وما زال خبراء بيئة وقانون يقولون إنه مليء بالثغرات؟
وقد يكون أهم وعد بيئي حمله البيان الوزاري «انشاء مؤسسة وطنية علمية للبيئة، غايتها إجراء البحوث والدراسات المختصة ووضع المعايير. هكذا تصبح السياسات البيئية مرتكزة على معلومات موثوقة، بدل أن تبقى ردات فعل واسعافات أولية لا يتجاوز مفعولها، في أحسن الحالات، تأجيل المشكلة أو نقلها من مكان إلى آخر». فأين هذه المؤسسة بعد سنة من موافقة المجلس النيابي على البيان الوزاري؟
وهنا نذكر أن التدبير البيئي البارز الوحيد الذي أنجزته الحكومة جاء ناقصاً، بسبب الافتقار إلى الرأي العلمي في الموضوع، الذي كان يمكن أن توفره المؤسسة الموعودة. فقانون تلوث الهواء من وسائل النقل، الذي قدمته الحكومة وصدر عن المجلس النيابي قبل شهور، مليء بالثغرات التي ستمنع تنفيذه. فهو يفرض وقف استخدام البنزين الذي يحتوي على الرصاص، كلياً، ابتداء من أول تموز (يوليو) سنة 2002، كما يفرض تركيب محول حفاز على كل السيارات، قديمها وجديدها، في التاريخ نفسه. وهذا غير قابل للتطبيق، إذ ان معظم محركات السيارات المصنوعة أساساً للعمل على بنزين يحتوي رصاصاً لا يمكن تشغيلها بفعالية مع بنزين بلا رصاص، مما يعرضها للتلف السريع لأن القطع القديمة تحتاج إلى الرصاص كمادة ملينة، ويزيد استهلاكها مع البنزين الخالي من الرصاص لأنها غير مهيأة له. ولهذا ما زالت محطات المحروقات في الدول الاوروبية تبيع البنزين المحتوي على الرصاص، بعد أكثر من عشر سنوات على منع المحركات الجديدة العاملة عليه، وذلك لخدمة السيارات القديمة. أما المحول الحفاز فيتعذر تركيبه على معظم السيارات القديمة لأن نظام تشغيلها غير معد له أساساً، وكان المطلوب تطبيق شروط القانون على السيارات الجديدة فقط، مع فرض تدابير صارمة، ولكن مختلفة، للحد من انبعاثات عوادم السيارات القديمة. أما منع السيارات الصغيرة العاملة على المازوت، بموجب القانون نفسه، فلم يطبق على الرغم من مرور خمسة شهور على المهلة المحددة، وما زال الدخان الأسود الملوث يملأ شوارع البلد وصدور الناس.
لقد ربط البيان الوزاري التدابير المالية والضريبية بالسياسة البيئية، حين تعهد عدم الاكتفاء بردع الملوِّثين وتغريمهم، بل تشجيع مبادرات حماية البيئة عن طريق الاعفاءات الضريبية: «إن التدابير التنفيذية للسياسة البيئية التي نطمح اليها يجب ألا تقتصر على العقوبات وردع المخالفين، إذ من الضروري أن تكون الحوافز جزءاً أساسياً في أية سياسة عصرية، بحيث يتم تشجيع الأفراد والمؤسسات على اعتماد اجراءات تحمي البيئة، باعطائهم الدعم المالي والاعفاءات الضريبية، إلى جانب فرض ضرائب وغرامات على الملوِّثين». لقد كان تطبيق هذا الوعد متواضعاً جداً، إذ انحصر حتى الآن في رفع سعر البنزين المحتوي على الرصاص بنسبة تبلغ نحو عشرة في المئة، لتشجيع استخدام البنزين بلا رصاص. ولم يعلن عن أي تدبير آخر، كما لم تتقدم وزارة البيئة بمقترحات في هذا المجال، وكان ينتظر منها إعداد لوائح برسوم أعلى تفرض على المعدات والنشاطات الأكثر تلويثاً، ورسوم أدنى مع اعفاءات وحوافز للمعدات والنشاطات الأقل تلويثاً.
كما أعلن البيان بكلمات واضحة ان «الادارة البيئية التي ندعو اليها ليست ملحقاً يضاف إلى البرامج الانمائية، بل هي جزء عضوي منها». ورغم أن الحكومة نالت ثقة المجلس النيابي على أساس هذا البيان، فليس هناك ما يشير إلى خطط عملية لتحقيق وعوده.
يبدو أن المصالح الضيقة لزعامات المناطق والمذاهب ما زالت تتحكم بمصير البيئة. ونذكر أن نائباً يمثل احدى أكثر مناطق لبنان اخضراراً، احتج على منع مقالع الصخور التي تدمر أجمل المواقع الطبيعية السياحية، بحجة أن هذا المنع يحرم المنطقة من مداخيل كبيرة، وكأن تدمير البيئة بهدف تحقيق ربح سريع وتخريب المستقبل حق طبيعي مكتسب. أما تطبيق قرار وقف السيارات المخالفة العاملة على المازوت، فدونه حواجز يرفعها مقاولون سياسيون بحجة حماية حقوق السائقين، متناسين حقوق المواطن المسالم الملتزم بالقانون.
البيئة ما زالت، فعلاً، رهينة النزاعات السياسية والمصالح الضيقة. وقد أطلق الرئيس الحريري صرخة حين كتب في «البيئة والتنمية» في تموز (يوليو) الماضي: «ان البعض ما زال يرى في تدمير البيئة أرخص طريق إلى الربح السريع، وما زال البعض يعتبر انه يحوز على رضى الناخبين اذا عمل على حماية مقلع صخور هنا ومخالفة بناء هناك. وما زالت المصالح الضيقة تعرقل تنفيذ الخطة المتكاملة للادارة البيئية التي وعدنا بها في البيان الوزاري. لكنني أؤكد مجدداً تمسك الحكومة بتنفيذ ما التزمت به». وتمنى في كلامه «أن يكون للرأي العام صوت مسموع لدعم تدابير حماية البيئة والمطالبة بها لدى ممثلي الشعب». وكأن الرئيس الحريري أراد أن يستبق الرد عليه بعدم جواز تحميل المواطن كل المسؤولية، فتابع: «مسؤولية الأفراد لا تعفي الحكومة من دورها المركزي في ادارة البرامج البيئية».
إن التصور البيئي الذي وضعته الحكومة، والكلام الذي تبعه، حدّد مستوى راقياً في التعامل مع قضية البيئة لا يمكن القبول بأقلّ منه. والمحاسبة اليوم تتم على أساس السقف الذي حددته الحكومة لنفسها. قد لا يكون ممكناً فصل البيئة عن مشاكل البلد المتشابكة الأخرى في الاقتصاد والمال والسياسة. غير أن موضوعنا هنا هو البيئة، وقد جاء في البيان الوزاري نفسه: «ان القرارات الصائبة بيئياً هي في الوقت نفسه صائبة اقتصادياً، اذا كان المقياس حياة الشعوب ومصلحة الأجيال المقبلة وليس الحسابات والمصالح الآنية للأفراد».
الحل يبدأ في العودة إلى البيان الوزاري، الذي احتوى تصوراً لسياسة بيئية فعّالة. وعلى الحكومة أن تتولى القيادة لتحويل تصورها البيئي السليم إلى سياسات وطنية وبرامج وخطط قابلة للحياة.