حين أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش الشهر الماضي خروج بلاده على اتفاق كيوتو للحد من الانبعاثات المسببة لتغير المناخ، قال إنه لن يسمح بأية التزامات قد تعيق النمو الاقتصادي الأميركي. ورغم الاحتجاجات الصارخة من كل العالم، شرقاً وغرباً، على التمرد الأميركي على الشرعية الدولية، أصر الرئيس بوش على موقفه من أن اقتصاد أميركا أهم من مصلحة كل البشر الآخرين.
كنا نعتقد أن هذا الموقف المتوحش من الاقتصاد والبيئة، الذي كان متداولاً قبل ربع قرن، أصبح جزءاً من التاريخ، الى أن جاء الرئيس الأميركي ينفض عنه الغبار.
والمعروف أن الالتزام بمقتضيات اتفاق كيوتو يتطلب تخفيض كميات من الغازات، في طليعتها ثاني أوكسيد الكربون، تنبعث من احتراق الوقود في الصناعات ووسائل النقل. وهذا يستدعي تطوير بدائل في الوقود وتكنولوجيا الصناعة والنقل، تنتج عنها انبعاثات أقل. واذ تؤدي هذه التدابير الى الحد من خطر تغيّر المناخ ووقف ارتفاع درجات الحرارة العالمية، فهي قد تعني كلفة أعلى في الانتاج على المدى القصير. لكن التجارب أثبتت أن الصناعة قادرة، تحت ضغط القرار السياسي، على تعديل نهجها واستنباط أساليب بديلة، والتعايش معها كواقع راهن. ويأتي استبدال منتجات الكلوروفلوروكربون، المسببة لترقق طبقة الأوزون، من الثلاجات ومكيفات الهواء، دليلاً حاسماً على قولنا، اذ لم يتخيل الناس قبل عشرين سنة امكانية تحقيق هذا التحول الناجح على مدى العالم. ولم نسمع أن أية مصائب حلت بالاقتصاد لهذا السبب. وقد يكون العكس صحيحاً، إذ إن اعتماد تكنولوجيات جديدة مناسبة يؤدي الى خلق فرص عمل وزيادة الانتاج وتحريك الدورة الاقتصادية.
صحيح أن تدابير جدية لتخفيض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون ستؤدي الى تعديل في أساليب الانتاج والصناعة، وقد يعني هذا تعديل وتيرة النمو الاقتصادي لفترة معينة. ولكن اذا تم اعتبار البيئة سلعة ذات ثمن عند وضع جداول الانتاج القومي، لا تعود القيود البيئية تجارة خاسرة.
قد يكون الموقف الأميركي الأخير مستنداً الى فرضية أن أميركا لن تكون في طليعة البلدان التي سيؤثر عليها تغير المناخ. فالتوقعات تشير الى أن أبرز المناطق التي ستتضرر في المرحلة الأولى هي الجزر الصغيرة والمناطق الساحلية المنخفضة في العالم، التي ستغمرها المياه حين ترتفع الحرارة ويذوب الجليد القطبي. فهل تعتبر أميركا أنه سيكون لديها متّسع من الوقت لتتعلم من كوارث الآخرين وتبحث عن حلول بعدها؟ وهل يمكن، بعد أن تصل مشكلة الحرارة العالمية الى هذا الحد، أن ترد أميركا الكارثة عن أراضيها هي بالذات؟ فالمشاكل البيئية ذات الأثر العالمي لا يمكن حلها إلا بعمل يتعاون فيه الجميع، إذ لا حدود للأجواء والمحيطات. ومع أن مضاعفات ارتفاع الحرارة العالمية لن تصيب أميركا أولاً، إلا أنها الدولة الأولى المسببة لهذه الظاهرة، إذ ينبعث منها 25 في المئة من مجمل كميات ثاني أوكسيد الكربون، وهي تضم فقط 5،4 في المئة من سكان العالم.
ومن نقاط الاختلاف الأساسية أن الولايات المتحدة تطلب تطبيق شروط تخفيض الانبعاثات على الدول النامية الفقيرة، من دون منحها مساعدات كافية لتبديل أساليب الانتاج. وهذا يعني، في حال اعتماده، إبقاء الدول النامية في حلقة الفقر والتخلف الصناعي، بعدما قامت صناعات الدول المتقدمة، عبر عقود من الزمن، على أساليب الانتاج الرخيصة الملوثة. غير أن بين الدول المتقدمة مجموعة كبيرة لا توافق أميركا رأيها، ولا بد أن تتعاون معها الدول الفقيرة لتطوير موقف ثابت يمنع تدفيع الدول النامية فاتورة تنظيف البيئة، كما تم تدفيعها فاتورة تخريب البيئة بالاستهلاك المفرط للموارد الطبيعية خدمة للآلة الصناعية الغربية.
نأمل ألاّ يصبح الموقف الأميركي، في تغليب المصالح الاقتصادية للشركات الكبرى على التنمية المتوازنة، مثالاً لدول أخرى. لقد بدأنا نسمع مؤخراً أصواتاً في الدول العربية تطالب بفرصة زمنية يتم فيها التركيز على التنمية والانتاج الصناعي من غير الاهتمام بالبيئة، لرفع مستويات الدخل واللحاق بركب الدول المتقدمة. وتقوم في المقابل أصوات تطالب باعتماد قيود بيئية صارمة في المنطقة العربية، منقولة عن تدابير الدول الصناعية، بلا اعتبار لحاجات التنمية والأوضاع الاقتصادية ـ الاجتماعية الخاصة.
الموقفان مرفوضان. فلا يجوز الاصرار على تكرار أخطاء الآخرين في تلويث البيئة، بالادعاء أنه ما دمنا قادرين على تجبير يدنا فماذا يمنعنا من أن نكسرها. وقد تكون الدول الغنية أكثر قدرة على المناورة في تأخير تدابير محددة لرعاية البيئة، لأنها تملك القدرة المادية والتكنولوجية على حل بعض المشاكل لاحقاً، وهذا تفتقر إليه الدول النامية، التي يعتبر إهمالها الرعاية البيئية مقامرة بالمستقبل.
أما «أصوليو البيئة»، الذين يطلقون نظريات عاطفية مثل رفض قطع أية شجرة واقامة أي مصنع، فقد غاب عنهم أن حياة الناس هي الأساس. لهذا، قد نضطر لقبول ضرر بيئي محدود في المدى القصير، إذا كان ضرورياً لحياة الناس واذا كان يمكن إصلاحه في المستقبل.
ويتم حل الصراع بين البيئة والتنمية بوضع جدول أولويات، يصنف الاهتمامات وفق معايير: الضرر الذي لا يمكن إصلاحه، والخطر على الصحة، ونوعية الحياة. وفي حين يجب وقف أي عمل تنمية يؤدي الى إيذاء في الموارد لا يمكن إصلاحه، ومنع النشاطات الملوثة التي تؤذي صحة الانسان وتقتله، وفق درجة خطرها، يمكن في المقابل التغاضي عن نشاطات إنمائية قد تؤثر سلباً في مستوى الرفاهية ونوعية الحياة، إذا كان لا بد منها لرفع القهر والفقر عن الناس. ويمكن اعتبار هدف هذه النشاطات تأهيل الناس للمساهمة في رعاية البيئة، التي تصبح في مجتمع الاكتفاء طريقة حياة يومية لا مجرد رفاهية فكرية.
التناقض الظاهر بين الاقتصاد والبيئة يمكن حله باعتماد نظام أولويات مرحلي، يضمن تنمية متوازنة قابلة للاستمرار.