هل كُتب على العرب أن يبقوا متخلفين عن الأحداث الكبيرة؟
المنتدى البيئي الوزاري العالمي، الذي عقد في نيروبي عاصمة كينيا الشهر الماضي، فرصة أخرى أضاعها العرب لمقاربة العصر ومواجهة التحديات البيئية في القرن الجديد. فقد كان على جدول أعمال هذا اللقاء، الذي حضره تسعون وزيراً، إعداد خطة العمل البيئية للقمة العالمية حول التنمية المستدامة، التي تعقد سنة .2002 وتزامن المنتدى مع الدورة الحادية والعشرين للمجلس التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، التي حضرها مسؤولون من 160 دولة، وقادة أكثر من مئة منظمة دولية وإقليمية. وجاءت هذه المشاركة الكثيفة تعبيراً عن الأهمية الخاصة للحدث، كأكبر لقاء بيئي عالمي يسبق قمة سنة 2002، التي ستضع سياسات البيئة والتنمية للألفية الثالثة.
العالم كله، من الدول الصناعية الكبرى إلى أفقر دول العالم، كان في نيروبي، مستعداً للمشاركة في صنع عصر جديد، يحمل تحديات وفرصاً جديدة، كما يحمل بين طياته أخطاراً كبيرة. دول العالم، غنيّها وفقيرها، تبحث عن موقع لها في النظام العالمي الجديد. حضروا أفراداً ومجموعات إقليمية، ببرامج وتصورات واضحة لما تنتظره دولهم ومناطقهم من قمة الأرض الثانية. من الولايات المتحدة وكندا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، إلى الهند وباكستان وبوتسوانا وبوروندي ومالاوي، الى هيئات الاتحاد الأوروبي والكومنولث وبنك التنمية الأفريقي وبنك التنمية الآسيوي. فكيف كان الحضور العربي في هذا المنعطف الهام للإنسانية؟
كانت الدول العربية موجودة، بوفود تراوحت بين مستوى تمثيل لرفع العتب في معظمها، ومستوى تمثيل وزاري لأربع منها. وفي حين ضمت وفود كثير من الدول الفقيرة، ناهيك عن الدول المتقدمة، اختصاصيين في علوم البيئة والقانون، تميزت الوفود العربية بالموظفين الإداريين. وفي ما عدا مداخلتين عربيتين من ضمن جدول الأعمال، جاءت المداخلات الأخرى مشتتة لا علاقة لها بالموضوع، وكأنها تنتمي إلى عصر آخر. ومعظمها يسرد على نحو إنشائي بعض الانجازات والمشاريع، مع مقتطفات من أقوال مختارة لقادة البلاد، بعضها جميل، لكنه كتب أساساً للاستهلاك الداخلي. وهي في أي حال مصطلحات محلية لا تصلح لمخاطبة المحافل الدولية والتأثير فيها.
صحيح أن جامعة الدول العربية كانت موجودة في المؤتمر عن طريق الأمانة التنفيذية لمجلس الوزراء العرب المسؤولين عن شؤون البيئة، لكن كنا نتمنى أن يكون تمثيلها من خلال حضور سياسي قوي في مستوى الأمين العام للجامعة الدكتور عصمت عبد المجيد، بما يتناسب مع أهمية الحدث.
وفي حين تداول اللقاء أوراق عمل دول ومجموعات إقليمية، أبرزها من كندا وألمانيا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي ومجموعة دول شمال أوروبا وآسيا، لم تقدم إليه ورقة عربية، لا من الجامعة ولا من الدول منفردة، تحدد موقفاً من جدول الأعمال. مندوب عربي قال، جواباً عن سؤال حول عمومية الكلمة التي ألقاها باسم بلده وعدم علاقتها بالمواضيع المطروحة، إن وزارته لم تتبلغ جدول أعمال الاجتماع، مع أنه موجود على الإنترنت منذ شهور. وهنا نتساءل عن دور مجلس الوزراء العرب المسؤولين عن شؤون البيئة في التحضير لاجتماعات كهذه، عن طريق إعداد تقرير مفصل عن جدول الأعمال وتفسير بنوده وخلفياته واقتراح مواقف من كل بند. هكذا يمكن للوزارات المعنية إعداد تقاريرها الوطنية ومداخلاتها بما يتناسب مع المواضيع المطروحة، ومن ضمن موقف عربي متناسق. وكنا ننتظر من جامعة الدول العربية أن تقدم تقريراً عربياً شاملاً إلى اللقاء، ليُبحث إلى جانب تقارير المجموعات الإقليمية الأوروبية والأميركية والآسيوية والأفريقية التي تم عرضها. وكنا نتمنى لو قدمت الأمانة العامة لمجلس وزراء البيئة العرب مشاريع قرارات حول بنود جدول الأعمال، للخروج بطرح عربي مشترك.
وإذا كنا نلاحظ الغياب السياسي العربي الكبير عن هذا المنبر العالمي الهام، والناس يستعدون لقمة الأرض الثانية في جنوب أفريقيا، فالغياب الأكبر كان للمؤسسات العربية المتخصصة. فالبيئة لم تعد اليوم موضوعاً يتم بحثه في العموميات، بل هي تدخل في مجموعة اختصاصات. وفي حين تشارك في لقاءات بيئية دولية كهذه مؤسسات مختصة في الزراعة والصناعة والعلوم والتمويل الإنمائي، تابعة لحكومات وتجمعات إقليمية، تغيب عنها المؤسسات العربية. جميع صناديق التمويل الإنمائي التابعة للدول العربية كانت غائبة، إضافة إلى البنك الإسلامي للتنمية ذي القيادة العربية. غير أن الغياب المريب كان للمؤسسات المتخصصة ذات العلاقة بالبيئة التابعة لجامعة الدول العربية، في ظل حضور كثيف لمؤسسات مشابهة تابعة لتجمعات إقليمية أخرى.
مكافحة التصحر وتوزيع مصادر الماء والأغذية المعدلة وراثياً، كانت في صلب جدول الأعمال. فلماذا غاب المركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة (أكساد)، وأين كانت المنظمة العربية للتنمية الزراعية؟ اللقاء بحث الصناعة والإنتاج النظيف، فأين كانت المنظمة العربية للتنمية الصناعية؟ بل أين المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو)، ليس لدورها العلمي فقط، بل لارتباط عملها مباشرة بقضايا بحثها اللقاء، مثل البعد البيئي للحوار بين الحضارات؟
مؤسف هذا الغياب العربي المريب عن صناعة المستقبل، كما هو مؤسف تصرف المندوبين العرب في لقاءات دولية كهذه كأنه لا حول ولا قوة لهم. وقد عبّر أحد المندوبين عن هذا الموقف بقوله أن المقررات تأتي جاهزة من نيويورك، فلماذا التعب في مناقشتها ومحاولة تغييرها؟ لكن الواقع مخالف لهذا، إذ ان المجموعات الإقليمية النشيطة، من الدول الغنية والفقيرة على السواء، تساهم في صنع القرارات وتعديلها وفق مصالحها، ضمن استراتيجية ورؤية واضحة يفتقدها عرب اليوم، فرادى ومجموعات. ومؤسف أيضاً اللجوء إلى نظرية المؤامرة لتبرير العجز عن القيام بعمل بيئي عربي محترف، من الوزارات والمؤسسات المحلية، إلى السفارات العربية في نيروبي، التي تمثل دولها في مجلس المندوبين الدائم لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، إلى جامعة الدول العربية ومنظماتها المتخصصة.
أما وقد صدرت قرارات المنتدى البيئي الوزاري العالمي في نيروبي، مع العرب أو بدونهم، فلنحاول التعاطي معها.
ففي موضوع تدهور الأراضي، دعت القرارات إلى دعم تنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر في المناطق التي تعاني جفافاً حاداً، خاصة في إفريقيا. الجديد في الموضوع أن مكافحة التصحر ستصبح قريباً ضمن المواضيع التي يمّولها مرفق البيئة العالمي (GEF)، وهذا يستدعي أجهزة قادرة على التقدم بمشاريع تستوفي شروط المرفق، للاستفادة من الميزانيات المتاحة. والمركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة هو الجهة المؤهلة لقيادة هذا النشاط، بالتعاون المباشر مع الإدارات المختصة في برنامج الأمم المتحدة للبيئة في نيروبي. ووفق ما قاله لنا أمين عام اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر هاما أربا ديالو في نيروبي، فان المشاركة العربية في تنفيذ الاتفاقية ما زالت محدودة جداً، وهو ينتظر من الدول القادرة مالياً في المنطقة أن تساعد جيرانها العرب غير القادرين في برامج جدية لمكافحة التصحر، كما ينتظر أن تشمل البرامج العربية مشاريع متكاملة في التنمية الريفية، لا أن تكتفي ببعض الأحزمة الخضراء حول المدن. عدا عن أن تخصيص تمويل مناسب لمكافحة التصحر، وهو موضوع يتميز بأولوية للعرب، يتطلب ضغطاً سياسياً على مرفق البيئة العالمي، وهذا يستدعي خطة تقودها جامعة الدول العربية.
وأصدر المنتدى توصيات عدة في موضوع السلامة الحيوية والأغذية المعدلة وراثياً، لتنفيذ برامج محددة في هذا السياق، وتقديم دعم مادي وفني على المستوى الوطني لتقوية القدرات المحلية في مجال تقييم مخاطر التعديل الحيوي، ضمن إطار اتفاقية التنوع البيولوجي. فمن هي الجهة المختصة التي تتابع هذه المسألة عربياً، وما هو دور المنظمة العربية للتنمية الزراعية والألكسو، وكيف يمكن الاستفادة من المساعدات الدولية؟
وقرر المنتدى تقديم الدعم إلى افريقيا في معالجة مشاكلها البيئية، المرتبطة غالباً بالفقر، ومساعدتها في التحضير للمشاركة الفعالة في قمة الأرض الثانية. هنا أيضاً مجال عمل لمنظمات جامعة الدول العربية المختصة، إضافة إلى مراكز البحوث والجامعات العربية، بحيث تُستخدم جميع الطاقات المتوافرة عبر مؤسسات الجامعة للخروج ببرامج مشتركة للدول العربية الأفريقية. وهذا يتطلب قيادة سياسية على مستوى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية.
وحظي موضوع المياه بحيز كبير من اهتمام المنتدى انعكس في مقرراته، التي شملت تعيين لجنة خبراء لدراسة الإدارة الفضلى للمياه العذبة، وشؤون المياه الدولية، وإقامة شراكة بين البلدان لنقل التكنولوجيا في مجال استخدام المياه، ودعم القدرات المحلية للدول النامية عن طريق المركز الدولي لتكنولوجيا البيئة في اليابان التابع لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة. أثناء النقاشات، لم يظهر أي موقف عربي واضح من مسائل المياه. فهل لجامعة الدول العربية سياسة واستراتيجية مائية؟ والى أي مدى تساند الدول العربية استراتيجية برنامج الأمم المتحدة للبيئة حول المياه؟ وأين دراسات المؤسسات العربية المختصة في مسألة المياه؟ وهل هناك عرب في اللجان التي تم تشكيلها؟ وهل تتعاون مؤسسات جامعة الدول العربية مع المركز الدولي لتكنولوجيا المياه؟
واتضح من مناقشات المنتدى أن السياسة البيئية الدولية تتمحور اليوم حول «إعلان مالمو»، الذي صدر عن المنتدى الوزاري في السويد، وركز على معالجة مشاكل البيئة جنباً إلى جنب مع التصدي للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية كالفقر وأنماط الإنتاج والاستهلاك السيئة والتوزيع غير العادل للثروة، كما أكد على الدور القيادي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة في إدارة العمل البيئي الدولي. فهل يتفق العرب مع توجهات «إعلان مالمو» سياسياً وفكرياً؟ وماذا فعلوا لدعم تنفيذها؟
أما القانون البيئي، فكان مدار بحث في المنتدى ومقرراته، حيث أن العمل البيئي الدولي يقوم اليوم على معاهدات تلزم أطرافاً متعددة، يتطلب تطبيقها تناسقاً بين القوانين المحلية والشروط الدولية. وقد قرر المنتدى دعم الدول النامية في تطوير قوانينها البيئية وبناء مؤسسات قادرة على تطبيق هذه القوانين. فما هو دور الدوائر القانونية في جامعة الدول العربية، وما هي المؤسسة العربية المختصة المؤهلة لمتابعة الموضوع، والى أي مدى تستفيد الدول العربية من المساعدات المرصودة لتطوير القوانين وبناء المؤسسات البيئية؟
وحظيت برامج البحار الإقليمية بجزء كبير من المقررات، وبينها خطة البحر الأحمر وخليج عدن والمنظمة الإقليمية لحماية البيئة البحرية (في الخليج) وبرنامج البحر المتوسط. وفي حين تم توقيع مذكرات تفاهم وتعاون بينها، فما هو مضمونها، وهل هناك تدابير مالية للتنفيذ، ومن هي الجهة المختصة في جامعة الدول العربية المكلفة بالمتابعة؟
وبينما شارك وزراء ومنظمات اقليمية في طاولات مستديرة حول ترشيد استهلاك الطاقة وآفاق مصادر الطاقة المتجددة، غاب العرب عن المناقشات التي استعرضت بدائل قد يكون لها أثر حاسم في اقتصاديات الدول المنتجة للبترول.
قبل أيام من المنتدى البيئي الوزاري العالمي في نيروبي، عقد اجتماع لوزراء البيئة العرب في أبوظبي حضره 19 وزيراً، صدر عنه إعلان أبوظبي عن مستقبل العمل البيئي العربي. هذه المبادرة الكريمة من الإمارات العربية المتحدة، التي تعكس الاهتمامات البيئية لرأس الدولة، استطاعت جمع 19 وزير بيئة يندر أن يحضروا بهذه الحماسة حتى في الاجتماعات الدورية لمجلس الوزراء العرب المسؤولين عن شؤون البيئة. من المؤسف أن حماسة أبوظبي لم تنتقل إلى نيروبي، التي جاءها أربعة وزراء فقط، ولم يقدَّم إلى منتدى نيروبي أي من التصورات التي طرحت في أبوظبي. وقد كان من الممكن، في الأقل، توزيع نص تقرير «مستقبل العمل البيئي في الوطن العربي»، الذي عرض على اجتماع أبوظبي، كورقة نقاش عربية في منتدى نيروبي.
يبقى أن النيات الحسنة وحدها لا تكفي لتحقيق عمل بيئي متطور وفعال. ولا يمكن انتظار معجزات من مجلس وزاري بيئي عربي يفتقر إلى ميزانيات وخبراء. فهل يكون الحل في «وكالة عربية للبيئة»، مدعومة بالكفاءات والمال، تنسق مع غيرها من مؤسسات جامعة الدول العربية المختصة ومراكز البحوث والجامعات، وتقود العمل البيئي العربي إقليمياً ودولياً؟