Thursday 21 Nov 2024 |
AFED2022
 
AFEDAnnualReports
Environment and development AL-BIA WAL-TANMIA Leading Arabic Environment Magazine
المجلة البيئية العربية الاولى
 
كتاب الطبيعة
 
حماية ذاكرة البـتراء في الأردن المدينة الوردية   
ايلول 2011 / عدد 162

تقبع مدينة البتراء (بترا) بين رمال الصحراء الأردنية كأنها منحوتة بأشعة شروق الشمس، مجسدة عبقرية مؤسسيها الذين رحلوا منذ زمن بعيد مخلفين هذه التحفة المعمارية الفريدة.

 

لكن الجمال الطبيعي لهذه المدينة المجيدة يتأكلها أيضاً. فالتفاعلات الكيميائية، التي تصبغ آثار البتراء المنحوتة في الصخور الرملية بألوان حمراء وكبريتية وبرتقالية، تتسبب أيضاً في تفتيت هذه الأعجوبة التاريخية. كما أن عوامل التعرية الطبيعية، كرياح الصحراء اللاذعة والأمطار والفيضانات الجارفة وأشعة الشمس الحارقة، تزيد حدة هذا التآكل، إضافة الى وفود السياح ومشاريع التطوير الحضري.

 

وبعزيمة لا تكل وإرادة لا تلين، يتصدى الدكتور طلال العكشة (64 عاماً) لتلك العوامل الطبيعية والبشرية، من أجل إنقاذ البتراء والمحافظة عليها لأجيال المستقبل.

 

منذ زيارته الأولى الى البتراء قبل عقود، ذُهل الباحث الشاب بروعة معالمها التي نحتها أهلها في الصخر قبل أكثر من 2000 عام. وساوره قلق كبير من الأضرار التي ألحقها بها الزمن، فقرر أن يكرس جهده لصيانة المدينة القديمة. يتذكر العكشة، أستاذ علوم الكيمياء في الجامعة الهاشمية: «لقد دهشت بجمال الموقع وطبيعته الجيولوجية وتصميمه المعماري المذهل. إلا أنني شاهدت الكثير من علامات التلف والضرر، فشعرت بضرورة القيام بشيء حيال ذلك. إنه مكان حي بتاريخه، الذي يشمل تاريخ عائلتي المنحدرة من البتراء. لم أستطع النظر الى ذلك الجمال وأقف مكتوف اليدين، فقلت لنفسي: ربما يمكنني المساعدة بطريقة أو بأخرى، يجب أن أقوم بشيء ما». هكذا، بإصرار عنيد واهتمام علمي وروح قيادية، تمكن العكشة من تطوير نظام معلومات قد يساعد في حماية البتراء من الاندثار.

 

 

 

المدينة الضائعة

 

نشأت مدينة البتراء قبل 2500 عام ضمن واد مقعَّر ضخم، حولته عوامل الرياح والمياه على مر الدهور الى نجد من صخور رملية. شكلت هذه الصخور حصناً طبيعياً منيعاً لقبيلة الأنباط الصحراوية، التي أمسكت بزمام التجارة بحكم موقعها الاستراتيجي على تقاطع الطرق التجارية، حيث كانت تمر بها القوافل آتية من مختلف الحضارات. ومع الزمن ازدادت ثروة الأنباط، فعمَّروا المنطقة وطوروها، ونحتوا الأضرحة الملكية والمعابد والمسارح الفخمة في الصخور الصلدة التي تغلف الموقع المخفي. وقاموا ببناء نظام متطور من السدود وخزانات المياه والأنابيب والقنوات لحماية المدينة من الفيضانات المفاجئة.

 

احتل الرومان المدينة بعد مقاومة شرسة، وأضافوا لمساتهم عليها. وتشير التقديرات الى أن المدينة احتضنت في أوج ازدهارها 25 ألف مواطن. وهي سميت "رقيم" في النصوص المدونة في لفافات عثر عليها قرب البحر الميت، وتميزت بتأثيرها الكبير على الثقافة والسياسات الإقليمية. إلا أنها منذ القرن الثالث الميلادي ابتليت بالكوارث الطبيعية وعانت من التجاذبات السياسية، ما أدى الى أفول نجمها تدريجياً، حتى هجرها أهلها نهائياً وامَّحت من ذاكرة الجميع باستثناء قبائل البدو المحلية.

 

وكانت البتراء أضحت طي النسيان حين سمع الرحالة السويسري يوهان لودفيغ بوركارت عن «مدينة ضائعة» في الصحراء، فبحث عنها حتى عثر عليها وكشف عن عجائبها الأثرية للمجتمع الأوروبي. وتغنى بها الشاعر الانكليزي جون برغون واصفاً «مدينة وردية بنصف قدم الزمن».

 

يدخل المرء الى المدينة عبر مضيق متعرج مظلم يسمى «السيق»، ينفتح على مشهد يحبس الأنفاس لأكثر من 500 قبر و3000 معلم أثري أشهرها «الخزنة»، وهي ضريح ملكي تتميز بارتفاعها المهيب. وقد شهدت المدينة في العقود الأخيرة ازدهاراً سياحياً، حيث يتوافد السياح بعشرات الآلاف لمشاهدة هذه العجائب، ما يشكل دخلاً حيوياً للأردن، لكنه في الوقت ذاته خطر جديد يهدد المدينة القديمة. وفي تصويت عالمي جرى عبر الانترنت عام 2007، اختار ملايين المشاركين مدينة البتراء الأثرية لتكون إحدى «عجائب الدنيا السبع الجديدة».

 

 

 

أخطار الطبيعة والإنسان

 

تحمس العكشة لدراسة العوامل الكيميائية التي تساهم في تأكل البتراء، وقرر توظيف خبرته للمساعدة في التصدي لتلك العوامل. فالألوان الزاهية التي تضفي على المدينة طابعاً أسطورياً تعكس العمليات الكيميائية التي يسببها الماء الكامن في الصخور. يقول: "الماء هو العنصر الأهم، يدخل في الثقوب الموجودة في الصخور، ثم يتبخر ويتكثف مؤدياً الى تحلل المعادن وترسّب بلوراتها التي تتزايد حجماً شيئاً فشيئاً فتشقق الصخور وتفتتها. إنها عملية بالغة التعقيد، ودفق الماء يترك آثاراً هي التي تشكل الألوان الجميلة على سطوح الصخور".

 

عام 1984، حصل العكشة على منحة من منظمة اليونسكو، لكي يعمل بالتعاون مع خبراء ألمان على دراسة تلك العمليات الكيميائية المدمرة والحد من تأثيراتها. وبعد أعمال دامت سنوات في الموقع، أدرك صعوبة التحدي والمهارات الكثيرة التي يتطلبها، وفشلت المحاولات الأولى لإصلاح المعالم الأثرية. ورأى أن من الضروري توثيق كل ما هو معروف عن البتراء قبل المباشرة في حمايتها أو صيانتها. فبدأ تدريجياً بجمع أعمال علماء الآثار والجيولوجيا والهيدرولوجيا والكيمياء والمهندسين والمصممين المعماريين والمخططين. وهكذا أسس قاعدة بيانات ونظام معلومات جغرافية GIS يضم خرائط وتفاصيل دقيقة للموقع ومواصفاته الفيزيائية والمعالم الأثرية وحالتها ومشاريع التطوير العصرية في المنطقة المحيطة به.

 

يوفر نظامGIS  اليوم للقائمين على هذا المعلم الأثري الفريد المعلومات التي يحتاجون اليها في عمليات تخطيط وترميم المدينة وجوارها. كما يوفر لعلماء الآثار والمعماريين وسيلة جديدة لإجراء دراسات تحليلية على المنحوتات وتصاميمها المعمارية، في حين يتيح للزوار تجربة تثري معلوماتهم.

 

قام العكشة بدراسة الأخطار التي تحدق بمدينة البتراء. فهناك تحلل كيميائي طويل وبطيء، ناجم عن الرطوبة والأملاح التي يحملها الهواء الآتي من البحر الميت، والأمطار النادرة لكن الشديدة الغزارة، ورياح الصحراء القوية والمحملة بالغبار. وهناك أيضاً تأكل متواصل ناتج عن الاحتكاك المباشر للسياح والمرشدين السياحيين بالآثار ولمسها بأيديهم وأقدامهم، وانتهاكات لصوص القبور، وتغيرات منسوب المياه الجوفية، والتوسع الحضري، ومشاريع العمران، وانحسار الغطاء النباتي في المنطقة، إضافة الى شق الطرق المعبدة الملتوية وانبعاثات الدخان الحمضي من عوادم السيارات.

 

يقول العكشة معبراً عن شغفه بالمدينة: "هناك حافز خفي يؤجج رغبتي في صيانة البتراء. فكلما عدت الى الموقع أجد أشياء ومعالم جديدة تثير دهشتي. فأنا سائح قبل أن أكون عالماً، والسياحة هي الركيزة الاقتصادية لهذا الجزء من الأردن. ولكن يجب التخطيط لها بمزيد من العناية والحرص، وآمل أن يشكل نظام GIS نقطة الانطلاق في هذا الاتجاه".

 

 

 

مبادرة طموحة

 

لم يكن اكتساب المهارات التخصصية لإنشاء قاعدة بيانات بالأمر اليسير، إلا أن العكشة عقد العزم على تعلمها، بل صمم أن يبرع فيها. وبحلول العام 2002، تم تشغيل نظام المعلومات الجغرافية الخاص بمدينة البتراء (Petra GIS) الذي يعد الأول من نوعه في الأردن. ولقي ترحيباً كبيراً من الزملاء، كما قامت وزارة السياحة والآثار الأردنية بوضع النظام قيد التنفيذ العملي من أجل تخطيط الموقع وإدارته.

 

وبقدر ما هي الصحراء قاحلة، كانت مصادر التمويل شحيحة. وبعد الدعم الكريم شهد العمل فترات طويلة شح فيها التمويل الى حد اضطر العكشة الى دفع النفقات من ماله الخاص مصراً على مواصلة العمل. وبحلول 2008، أصبحت ذاكرة نظام GIS التي يبلغ حجمها 10 GB تتضمن تفاصيل 2000 معلم أثري، وخرائط للبتراء ومنطقة وادي موسى السياحية وقرية أم سيحون البدوية المجاورة. وفي تلك الأثناء، بحث العكشة عن طرق جديدة لصيانة المعالم الأثرية، واستكشف طريقة صنع الفخار الرائع في أيام الأنباط.

 

وقال عقل البلتاجي، وزير السياحة والآثار السابق وعضو مجلس الأعيان الأردني: "إن عمل الدكتور العكشة مثال رائع على تسخير العلم والتكنولوجيا لدعم السياحة المستدامة. وفي حين يولي الأردن أهمية كبيرة للتطوير السياحي، فإنه أيضاً حريص على حماية هذا الموقع السياحي المتميز. وهذه من أولى المبادرات الرامية الى تحقيق هذا الهدف".

 

لكن نظام المعلومات الجغرافية الخاص بالبتراء يغطي جزءاً من الموقع الأثري وليس كله. ودعماً لاستكمال المشروع، منح طلال العكشة «جائزة رولكس للمبادرات الطموحة» عام 2008. وقد استثمر مكافأتها المادية وقيمتها 100 ألف دولار لإضافة نحو 1000 معلم أثري آخر الى قاعدة البيانات، نصفها من مدينة البتراء ونصفها من جوارها، بما في ذلك مجموعة من أبراج المراقبة في الضواحي الريفية الزراعية حيث تكثر السدود وأنظمة إدارة المياه القديمة. وستجرى دراسة لسيول الأمطار التي تهدد الموقع الأثري، مع الأخذ بعين الاعتبار إمكان ترميم نظام تصريف المياه الذي يعود الى عصر الأنباط قبل 2000 عام. ومن التقنيات أيضاً استخدام جهاز رادار لدراسة باطن أراضي المنطقة المحيطة، من قبور مخفية وغير ذلك من المعالم الأثرية الغامضة، واستخدام جهاز تصوير بأشعة إكس لدراسة التأكل الكيميائي للمعالم الأثرية بهدف وضع استراتيجية لصيانتها حسب الأولوية. ويتضمن نظام GIS خرائط سياحية بتفاصيل مبتكرة تتيح القيام بزيارة افتراضية الى البتراء من أي مكان في العالم عبر الإنترنت.

 

يقول العكشة: "المنطقة المحيطة بالمدينة تحفل بالمصاطب الزراعية والسدود القديمة والنقوش الرائعة والأنقاض الحجرية التي تدل على احتمال وجود تصميمات دفاعية في الأماكن المرتفعة. وإذا تركنا هذه المعالم للمطورين العقاريين فلن نعرف أبداً ما يمكن أن تحتويه هذه المنطقة".

 

 

بين المدن الاسطورية حول العالم، تقف مدينة البتراء كمنارة تدل على عظمة الانجازات البشرية. لقد صمدت في وجه عوامل الزمن أكثر من ألفي عام، ولكن الى متى يمكنها الصمود؟ الجواب يعتمد على مدى العناية بها حالياً. ويقر العكشة بأن مآلها، في النهاية، رمال الصحراء: "لقد اختفى العديد من معالمها الأثرية، وبعضها تضرر أكثر من غيره. ومع ذلك، فالقضية تستحق المحاولة وبذل كل جهد ممكن. من الطبيعي أن يهتم الانسان بماضيه ويتعامل معه باحترام ويبذل ما بوسعه للحفاظ عليه لأطول فترة ممكنة. من هنا، فإن التوثيق الجيد للموقع سيبقيه آمناً في الذاكرة حتى بعد اندثاره".

البتراء المدينة الوردية
طلال عكاشة
الفالق الصخري معبر عجيب يسلكه الزائر الى المدينة الضائعة
المياه الموجودة في الحجر الرملي تذوّب المنتحوتات الصخرية وتدمر الموقع ببطء
بيانات تتيح خرائط لمعالم البتراء الجيولوجية  GIS
عشرات الآلاف من السياح يتوافدون سنوياً لمشاهدة روائع البتراء
 
 
 
 

اضف تعليق
*الاسم الكامل  
*التعليق  
CAPTCHA IMAGE
*أدخل الرمز  
   
 
بندر الأخضر صديق البيئة
(المجموعة الكاملة)
البيئة والتنمية
 
اسأل خبيرا
بوغوص غوكاسيان
تحويل النفايات العضوية إلى سماد - كومبوست
كيف تكون صديقا للبيئة
مقاطع مصورة
 
احدث المنشورات
البيئة العربية 9: التنمية المستدامة - تقرير أفد 2016
 
ان جميع مقالات ونصوص "البيئة والتنمية" تخضع لرخصة الحقوق الفكرية الخاصة بـ "المنشورات التقنية". يتوجب نسب المقال الى "البيئة والتنمية" . يحظر استخدام النصوص لأية غايات تجارية . يُحظر القيام بأي تعديل أو تحوير أو تغيير في النص الأصلي. لمزيد من المعلومات عن حقوق النشر يرجى الاتصال بادارة المجلة
©. All rights reserved, Al-Bia Wal-Tanmia and Technical Publications. Proper reference should appear with any contents used or quoted. No parts of the contents may be reproduced in any form by any electronic or mechanical means without permission. Use for commercial purposes should be licensed.