ساعات مرت ونحن في طريقنا الى صهاريج عدن، أو ما يعرف بـ«صهاريج الطويلة». هبطنا بالسيارة التي أقلتنا من العاصمة صنعاء، الواقعة على ارتفاع 2150 متراً فوق سطح البحر، جنوباً باتجاه مدينة عدن على ساحل خليج عدن.
قطعنا في رحلتنا نحو 400 كيلومتر، مررنا خلالها على سهول منبسطة وجبال شديدة الانحدار. في هذه المنطقة عمل الانسان اليمني على تكييف الطبيعة الجبلية الوعرة وتحويلها الى مدرجات زراعية خضراء، وعلى جوانب الوديان أنشأ نظامه المائي وأقام السدود، ليحولها الى جنة في «الأرض السعيدة».
قبل وصولنا إلى عدن، أخذت الجبال تتلاشى شيئاً فشيئاً ونحن نقترب من مدينة لحج ونهبط تدريجياً نحو سهل دلتا تبن. ثم انبسطت الطريق، وعلى جانبيها منظر باهر بأفقه البعيد الممتد على مزارع الحسيني الخضراء الشهيرة بزراعة الفل والمانغو.
في أقصى المنحدر من جبل شمسان تراءت لنا صهاريج عدن من بعيد، كأسطورة من ملاحم الأدب الشعبي، حيث تدهشك عبقرية البناء وعظمة الانجاز.
على فوهة بركان خامد تقع مدينة عدن. وفي جنوبها تقع الصهاريج، أو الخزانات، في مدينة كريتر بمديرية صيرة، وتحديداً في وادي الطويلة أسفل مصبات هضبة عدن المرتفعة نحو 250 متراً عن سطح البحر.
هناك مارس اليمنيون القدامى عباداتهم بإقامة أماكن النحران وسط الصهاريج في اتجاه كوكب الزهرة، لتقديم الذبائح في مواسم الجدب والجفاف، لتغدق عليهم «الآلهة» نعيم البركات من الأمطار وتبعد عنهم سنوات القحط.
وعلى رغم مرور ما يربو عن 35 قرناً، ما زالت سلسلة الممرات والصهاريج تؤدي دورها في تغذية المياه والحفاظ على مدينة عدن من السيول الى يومنا هذا.
من الأقدم والأجمل
يعود تاريخ بناء صهاريج عدن إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، في عهد مملكة سبأ. وبلغ عددها نحو خمسين صهريجاً، أكبرها يتسع لنحو 18 ألف متر مكعب، وما زال 18 صهريجاً منها قائماً الى الآن. وهي تعد من أقدم أنظمة الري، ووصفها الرحالة والأديب اللبناني أمين الريحاني بأنها «من أجمل الأعمال الهندسية في العالم». وقد بنيت من الصخور البركانية ومادة «القضاض» التي تشبه الإسمنت، والمكونة من الرماد البركاني المخلوط بحجر الكلس (النورة) مع الهيلس والنيس تحت حرارة وضغط عاليين.
يقول أستاذ هندسة العمارة في جامعة صنعاء الدكتور حازم شكري: «صهاريج عدن واحدة من الحلول المائية التي شيدها الانسان اليمني لمواجهة الجفاف ولحفظ المياه لأغراض الزراعة والشرب. وتعد صهاريج بني حماد في تعز شبيهة بها من ناحية الهدف والبناء».
تأخذ الهضبة الواقعة ضمن جبل شمسان شكلاً شبه دائري، حيث مصب السيول عند رأس وادي الطويلة على مضيق يبلغ طوله 225 متراً. وتتصل الصهاريج بعضها ببعض في شكل سلسلة، بحيث تعمل الصغيرة في بداية الوادي بمثابة سدود لتصفية الرمل والطمي، مع ارتفاع فتحات ممرات السيول في الصهاريج.
يمتلئ الصهريج الأول في أعلى الوادي بمياه السيول المندفعة من قمة الهضبة. وينساب الماء الفائض عبر قناة وممرات الى الصهريج الثاني، ليمتلئ هو بدوره، ثم ينساب الماء إلى الصهريج الذي يليه، وهكذا الى آخر ممر على ساحل خليج عدن.
وثمة أحواض صغيرة في طرفي المضيق تتلقف السيول الجارية من سفوح الهضبة، وهي متصلة عبر ممرات وقنوات بالصهاريج الكبيرة.
وللمحافظة على نظافة الصهاريج والمياه المحفوظة فيها، بنيت سدود قصيرة في وسط المضايق الجبلية وعلى جوانبها، منعاً للطين والحصى والعوالق من الانجراف مع المياه المندفعة من المنحدرات الى داخل الصهاريج، ولتسهيل إخراجها من الصهاريج.
وقد شرح الباحث اليمني عبداللـه أحمد محيرز في كتاب «صهاريج عدن» أن نظام التصريف «لم يكن مقتصراً على هدف خزن المياه لتوفيره للمستهلك، مثلما تعمل بقية الصهاريج والخزانات في عدن، بل كان نظاماً دينمائياً وتكنولوجياً بارعاً يجعله وسيلة لتلقف الماء عبر جدران حاجزة، إما منحوتة في الصخر وإما مبنية بالحجارة والقضاض، وتقوم بثلاث مهمات: تلقف الماء، وحجز الحجارة والطمي الساقط مع الشلالات، وتوجيه الماء عبر سلسلة من الجدران لتصريفه إلى حيث تكون الحاجة إليه».
مواجهة الشح وحماية المدينة
بنيت الصهاريج بغرض معالجة مشكلة شح المياه العذبة في هذه المنطقة البركانية، من خلال إقامة منشآت مائية من آبار وحياض وصهاريج لحفظ مياه الأمطار. وهي تحمي المدينة من الفيضانات الموسمية، بتلقفها السيول من أعالي الهضبة وتخفيف اندفاعاتها وتغذية الآبار الجوفية عبر فتحات خاصة صممت بشكل دائري في قاع كل صهريج.
وعبر سلاسل من الممرات والصهاريج المتدرجة والممتدة من أعالي وادي الطويلة الى شاطئ خليج عدن، يمر فيضان السيول باتجاه البحر حفاظاً على المدينة من الانجراف.
يقول خالد رياض، مدير عام صهاريج عدن: «إنها هندسة مائية فريدة من نوعها. ففي هذه البيئة البركانية الفقيرة بالمياه اجترح اليمنيون القدماء من المعاناة عملاً هندسياً ابداعياً. فعبر الممرات والصهاريج المتسلسلة تحفظ المياه بعد أن تمر بمراحل تصفية للتخلص من الطمي والرمال، بحيث تصل الى المراحل الأخيرة وهي صالحة للاستعمال».
وتنتشر أبنية سكنية خارج أسوار الصهاريج. ويقول أحمد سعيد، وهو من سكان الجوار: «تعد الصهاريج أحد الاحتياطيات المائية لمدينة كريتر، وخاصة في الظروف الاستثنائية. وهي عامل تغذية للآبار في المدينة». ولا يخفي شكواه من حالات الغرق المتعددة في الصهاريج وعدم وجود فريق متخصص بالإنقاذ في أوقات فيضانها.
لدى اليمن تجربة قديمة في بناء السدود والحواجز والصهاريج المائية، لكن حصة الفرد المتدنية من المياه، البالغة نحو 125 متراً مكعباً في السنة وفق تقرير منظمة الأغذية والزراعة (فاو) الذي صنفها بين أفقر10 بلدان في العالم مائياً، يرافقها استنزاف حاد للموارد المائية القليلة وضع البلد في مواجهة حتمية مع الجفاف.
التجربة اليمنية القديمة في الحفاظ على المياه جديرة بالاعتبار والاستلهام اليوم، في مواجهة مستقبل ينذر بكارثة مائية وشيكة.