يحرص الساسة الإسرائيليون على إبراز أن بين إسرائيل وتركيــا علاقات كبيرة راسخة في المجالين الاقتصــادي والاستراتيجـي، وأن إسرائيل ترى في تركيـا مكوِّنـاً غايةً في الأهمية للمنظور العام لسياستها بالمنطقة. وعلى أي حال، فإن أي مراقب سياسي مطَّـلع على أحوال المنطقة ليس بحاجة إلى من يؤكد له هذه الظواهر، فالعلاقة واضحة وضوح الشمس. واتِّساقاً مع وجود تلك العلاقة، تمَّ في الأسابيع القليلة الماضية إبرام صفقة بين إسرائيل وتركيا، يورِّد الطرف الثاني بموجبها للطرف الأول، كميةً من الميــاه قدرها 50 مليون متر مكعب سنوياً، وعلى مدى عشرين سنة تالية.

وتأتي الصفقة كواحدة من محاولات إسرائيل للتغلب على ما تكابده من ضائقة مائية. وقد تم التوصل إلى هذه الصفقة، والموافقة المبدئية عليها، في اجتماع بين رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الطاقة التركي، تم ترتيبه في القدس، خلال شهر تموز (يوليو) الماضي. وصـرَّح أحد أعضاء الجانب الإسرائيلي في هذا الاجتماع بأن المباحثات مع الجانب التركي لم تكن سهلة. وقد تركَّــزت نقاط الخـلاف بين الطرفين حول المقابل المادي الذي سيحصل عليه الأتراك ثمناً لمياههم، وأيضاً، حول طرق نقل الميـاه المســتوردة من تركيا الى إسرائيل.

وقد وردت في تصريح المسؤول الإسرائيلي إشــارة إلى أن الجيش الإسرائيلي شارك في اجتماع المياه، وعرض على الجانب التركي الحصول على دبابات وتكنولوجيا طيران إسرائيلية متقدمة، كجزء من قيمة الصفقة. ووافق الأتراك، مبدئياً على هذا العرض، وإن ظلت مسألة "تثمين" المياه التركية غير محسومة، مما دعا الطرفين إلى إرجاء تحديد قيمة هذه الصفقة، ثم استقر الرأي على إسناد المهمة إلى لجنة فنية تم تشكيلها من الطرفين. وسيكون على هذه اللجنة، إضافةً إلى وضع تسعيرة مياه تركيا، دراسة أفضل الطرق وآمنها لنقل المياه من تركيا الى إسرائيل.

الجدير بالذكر أن الجانبين يتكتمان حجم الاتفاق العسكري الذي تضمنته صفقة المياه؛ وقد عمد الإسرائيليون ـ كعادتهم، عند الضرورة ـ إلى تسريب تلميحات إلى أن الجانب التركي كان حريصاً على الربط بين صفقة السلاح واتفاقية المياه مع إسرائيل. وبالوقت ذاته، استنكر الأتراك ما ذكرته وسائل الإعــلام في تقارير لها عن تهديد تركيا بإلغــاء الجانب العسكري في الاتفاقية، إن تراجعت إسرائيل عن شراء الماء التركي.

إن الماء سلعة استراتيجية فائقة الأهمية، وبخاصة في منطقة يتســم مناخهـا بالجفــاف ، كمنطقة الشرق الأوسط. وتركيا من الدول القليلة في المنطقة التي تمتلك موارد مائية كبيرة، من شأنها أن تقــوِّي وضعهـا كواحدة من القوى التي يحسب لها حساب. وهي تســعى لتحســين أوضـاعهــا الاقتصـــادية. والواضح أن الماء سيكون احدى وسائلها لذلك. أما بالنسبة الى إسرائيل، فإن هذه الصفقة، مع دولة إسلامية كبرى، تأتي في جــو متوتر، ووسط شعور بالسخط والعداء يتنامى في الدول العربية المحيطة بهـا، وبينها الدولتان اللتان تربطها بهما معاهدات سلام: مصر والأردن. وبهذه الملابســات، فإن الصفقة تكون بمثابة دعم لإسرائيل.

إن ذلك يجعلنا نميل إلى تصـديـق ما تردد عن أن إسرائيل وافقت فعلاً على شراء المياه التركية، بأي سعر، بل إنها ارتضت أسعاراً تفوق كلفة تحلية مياه البحر، وأنها سوف تتخلى تماماً عن إنتاج المياه في محطات التحلية لمدة خمس سنوات مقبلة.

إن الحصول على الماء، بالنسبة الى إسرائيل، مسألة غايةً في الضرورة، بل هي مسألة حياة أو موت. فإسرائيل تعاني العــوز المـائــي. وفي كل الأحوال، ومهما كان الثمن، فإن الجانب الإسرائيلي لن يكون الخاسر. ويلـخِّــص هذه الحقيقة أحد المشاركين في المناقشات التي شهدتها وسائل الإعــلام الإسرائيلية حول صفقة الميــاه التركية، فيقول: إن المياه تشبه الأموال في المصارف، يمكــنك ادخارهـا، لتصـرف منها في المستقبل!