"القنبلة النووية" التي يمتلكها بعض الدول تتمثل في الطاقة المائية، التي تحولت إلى سلاح فعال لتحقيق مكاسب سياسية تعجز عن تحقيقها الوسائل العسكرية. وما لم تتمكن الدول العربية من حشد جهودها لحل أزمتها المائية، فهي حتماً ستكون في المدى القريب جداً تحت رحمة الدول صاحبة المصادر المائية الوفيرة.
ومع تصاعد ندرة المياه، يتم تخصيص مزيد منها للحاجات الإنسانية، وهذا يعني مياهاً أقل للمحافظة على الأنظمة البيئية. ونلاحظ عدم وجود سياسة عربية لإدارة الموارد المائية واستغلالها والمحافظة عليها من التبذير، كما نلاحظ أن الاستراتيجيات الخاصة بموضوع المياه تتغير بتغير المسؤولين. ولهذا أصبحت السياسة المائية معقدة نتيجة لتضارب المصالح وعدم الحس بالمسؤولية، حيث المسؤول القادم يلغي قسماً كبيراً من خطط المسؤول السابق. وهنا تبدأ الدوامة، فبعض المسؤولين محبط يترقب النتائج، ومعظمهم لا يعنيه الأمر وهو الأخطر، وبعضهم ينتظر متحيناً الفرص ليصعد إلى كرسي ومصالح الوطن شبة مغيبة. وإذا كان المسؤول يتبع أحد مراكز القوى، فانه يتصرف بطريقة غير مسؤولة اطلاقاً، ويبذر الأموال في مشاريع غير ذات جدوى. ويدفع الشعب الضريبة في النهاية. والشواهد على ذلك كثيرة في الدول النامية.
لو ألقينا نظرة على وضع المياه في الأردن عام 1999، لوجدنا أن نسبة الفاقد في المياه 21،54 في المئة. وأثمان المياه المفقودة تقدر بعشرات ملايين الدنانير، في وقت نحن بأمس الحاجة إلى المياه والمال. لقد بات كثير من المواطنين، وخصوصاً في أشهر الصيف، يستعملون المياه من مصادر ملوثة بسبب عدم كفاية المياه المضخوخة. وهذا يتسبب بانتشار الأوبئة والأمراض المعدية. وفي هذا السياق نذكر بما حصل في إحدى الدول حين تسربت المياه العادمة من إحدى الحفر الامتصاصية إلى خط ناقل لمياه الشرب، فتفشى وباء الكوليرا، وبلغت كلفة القضاء عليه ثلاثة أضعاف كلفة تغيير الشبكة.
ان استعمال المواطنين لمياه ملوثة سبب رئيسي لكوارث اجتماعية. فانتشار وباء ما يستدعي استنفار كافة أجهزة الدولة المدنية والعسكرية، والكلفة المترتبة تقدر بمئات ملايين الدنانير. فلماذا لا يتم أخذ الاحتياطات اللازمة قبل وقوع كارثة كهذه؟ علماً أنه، في اليوم الواحد، يموت نحو 30 ألف شخص في الدول النامية نتيجة تلوث المياه.
في الدول المتقدمة لجان معنية بالأمن المائي، مربوطة بلجان الأمن القومي، ومسؤولة عن توجيه الأجهزة التنفيذية ومتابعة تنفيذ الخطط، ولها القدرة على محاسبة المسؤولين المقصرين مهما كانت مواقعهم. فتقدمت هذه الدول لمكافأتها المتميز ومعاقبتها المسيء والمقصّر، وتأخرت الدول النامية لتعاملها المعاكس مع هذه المعادلة. ففي الدول النامية، عندما يُمس الأمن القومي المتمثل بالسلطة السياسية، تثور الثائرة وتعلن الأحكام العرفية. وها هو الماء، أهم عناصر الأمن القومي واستمرارية الحياة السليمة، يلوث، ويهدد بزعزعة الاستقرار.
إن سياسة الفزعات والهبّات في عصر العولمة أصبحت غير مجدية. وقد آن الأوان لتوافر سياسات مائية عربية عقلانية تحدد وتؤمن الكمية الضرورية للفرد سنوياً ليحيا حياة كريمة، مع ربط الأمن المائي بالأمن القومي، لئلا يحدث ما لا تحمد عقباه.
|