انفجار مكب نفايات صيدا في جنوب لبنان الشهر الماضي، الذي سببته الغازات المحتبسة منذ سنوات، لم يكن مفاجأة. إنه النتيجة الطبيعية للاهمال المتواصل، و"خطط الطوارئ"، وغياب البرنامج المتكامل لمعالجة النفايات.
لئلا يمحو النهار كلام الليل، اخترنا ثلاثة مقاطع من افتتاحيات نشرت سابقاً في "البيئة والتنمية"، لعل في التذكير عبرة:
منذ شهور قام جدل عقيم في لبنان حول النفايات، بين المحارق والمكبّات والتخمير، أدارته مجموعة من الهواة، واستفاد منه تجار تحولوا بين ليلة وضحاها الى أصحاب حلول سحرية، بتكاليف باهظة. والحجة أن الخطط العاجلة والطارئة تكاليفها عالية. فمن كان السبب في ايصال المشكلة الى حائط مسدود، مما سمح للمستفيدين بتسويق حلول موقتة طارئة مكلفة؟ ان حالة الهلع لدى الناس سمحت للتجار بتسويق أي حل طارئ يبقى، على رغم كلفته الباهظة، اسعافاً أولياً...
ندعو الى سحب موضوع البيئة من سوق الاستهلاك الاعلامي والسياسي، عن طريق انشاء مؤسسة وطنية للابحاث البيئية، ودعمها بالعلماء والباحثين والمختبرات، لتتولى، بالتعاون مع الجامعات ومراكز الأبحاث الأخرى، دراسة الأوضاع البيئية ووضع التقارير العلمية الموثقة في كل موضوع تفصيلي. هكذا لا يبقى العمل البيئي مبنياً على افتراضات عشوائية، ولا تتحول البيئة الى موضوع مثل السياسة والاقتصاد في عالمنا الثالث، حديث الذي لا حديث له.
"البيئة والتنمية"، آذار (مارس) 1998
... وضع البنك الدولي خطة لادارة النفايات الصلبة منح على أساسها الحكومة اللبنانية قرضاً بقيمة 55 مليون دولار. هذه الخطة، التي أعلنت عام 1995، اعتمدت المطامر الصحية كحل عام للمناطق اللبنانية. وتعثر تنفيذ العمل بسبب عدم استناده الى خطة وطنية شاملة للنفايات، وعدم إجراء المشاورات مع البلديات والمعنيين، وفقدان قدرة الادارة والتنسيق في المؤسسات الحكومية المركزية والمحلية. واستمر طرح المشاريع البديلة بلا تشاور وتنسيق. وانطلق من وزارة البيئة الكلام ضد محارق النفايات بغض النظر عن المواصفات، وتم طرح الفرز والتسميد والطمر كحل. فأخّر هذا حتى تطبيق خطة المطامر للبنك الدولي، التي لم تتطرق الى الفرز وحصرت تخمير النفايات العضوية في مواقع محدودة. وبينما كان النقاش دائراً، وليس في وزارة البيئة اختصاصي واحد في موضوع النفايات، تصاعد الضغط لاقفال مكب برج حمود، وكان قد نشأ جو عام ضد المحارق شجعته تصريحات بعض المسؤولين، فقامت التظاهرات لاقفال مكب برج حمود وأحرق المتظاهرون محرقة النفايات في العمروسية. وكان قد تم صرف ملايين من المال العام، الشحيح أصلاً، لتأهيل المحرقة، فتعطلت محرقة العمروسية، وأقفل مكب برج حمود، كما أقفلت محرقة الكرنتينا. فانتشرت المكبات العشوائية في كل مكان في غياب البديل. وكانت النتيجة "خطة الطوارئ"، التي أنشئ بموجبها مطمر الناعمة بقرار سياسي وفي موقع غير صالح بيئياً، حيث يعبر مجرى مياه من تحته. وطرحت نظريات مكلفة لتغليف النفايات في بالات بعد الفرز والتسبيخ. والواقع أن لا عملية الفرز نجحت ولا عملية التسبيخ أعطت نتيجة مقبولة فنياً، فانتهى الأمر الى تغليف أكثر من 80 في المئة من النفايات في بالات وإرسالها الى المكب، فتضاعفت الكلفة ولم تحل المشكلة. واللافت ان كلفة طن النفايات في هذه الخطة الطارئة تبلغ 106 دولارات، أي أكثر منها في أغنى مدن أوروبا وأميركا. بينما الكلفة في دول متوسطة الدخل تتراوح بين 20 و50 دولاراً للطن الواحد من النفايات. وقد منع الشعور بالنشوة الذي غمر مروّجي "خطة الطوارئ" من الاستماع الى التحذيرات المتكررة بأن هذه الخطة القائمة على أوهام ترهق موازنة الدولة بمصاريف غير مناسبة وهي غير صالحة لوضع لبنان.
خطة الطوارئ هذه، التي خلقت مشاكل جديدة، كلفت حتى اليوم نحواً من 40 مليون دولار، وبقيت في إطار الاسعافات الأولية. ألم يكن أوفر للخزينة وأقل خطراً على البيئة الاستمرار في استخدام مكب برج حمود ثلاث سنوات أخرى، وتشغيل محرقتي العمروسية والكرنتينا موقتاً، على مشاكلهما، بعدما تم تأهيلهما، واعداد خطة علمية واقعية شاملة للنفايات الصلبة، واعطاء الوقت اللازم للتنفيذ الصحيح، بدل هدر المال في اسعافات أولية لخطط طارئة؟ ومن يدفع الثمن السياسي والمادي لكل هذه الأخطاء، بينما يعتمد العالم المتطور اليوم مبدأ الادارة المتكاملة للنفايات كحل واقعي للمشكلة؟
"البيئة والتنمية"، أيار (مايو) 1999
تم الشهر الماضي (كانون الثاني 2000) ايقاف برنامج متعثر موله البنك الدولي لمساعدة الحكومة اللبنانية على إدارة النفايات. ولكن ايقاف المشروع حصل بعدما استهلك معظم مبلغ المليوني دولار المخصص له، ولم تستفد منه الحكومة الا زيادة الفوضى والضياع في موضوع النفايات. هذا البرنامج واحد من مجموعة مبادرات متفرقة مولتها المنظمات الدولية بهبات وقروض خلال السنوات الماضية، فذهبت أموالها، في معظم الحالات، هدراً في جيوب الوسطاء والمقاولين، لأنها افتقدت الى خطة عمل شاملة. واستمر مندوبو مبيعات المنظمات الدولية وأصدقاؤهم المحليون في ترويج برنامج مبتور إثر آخر، متجاهلين الدعوات المتكررة الى وضع خطة وطنية لادارة النفايات، مثل أي بلد سبقنا في هذا المجال، قبل المباشرة في صرف الأموال على برامج قاصرة سقطت بالمفرّق والجملة.
ضمن برنامج المساعد في ادارة النفايات، تم توظيف أشخاص يفتقرون الى الخبرة في الموضوع، لقاء أجور بآلاف الدولارات تجاوزت مرات الأجور السائدة، وقدمت فواتيرها الى الحكومة مضروبة بأضعاف. وبعض الأشخاص الذين عملوا سابقاً في وحدات محلية تابعة لبرامج دولية، وساهموا من ضمن مهماتهم في اختيار منفِّذي برنامج النفايات ومشاريع أخرى في إطاره، ظهروا فجأة في ما بعد كموظفين لدى الجهات التي منحوها العقود، وهذا يتعارض مع أبسط القواعد المتبعة في العلاقة بين الاستشاري والمقاول.
ومن طرائف البرنامج أن دراسة أجريت في اطاره لتقييم الأثر البيئي لأحد مكبات النفايات المقترحة في جنوب لبنان، حذرت من الضرر الذي يلحقه بالسعادين، مع أن السعادين أو أية فصيلة من القرود لا وجود لها في تاريخ لبنان الطبيعي المعروف. ويبدو أن الاستشاري نقل التقرير حرفياً عن دراسة أعدت لمكب نفايات في دولة افريقية، ونسي أن يشطب الاشارة الى السعادين.
"البيئة والتنمية"، شباط (فبراير) 2000
اذا لم يتم انشاء المؤسسة الوطنية العلمية للبيئة التي التزم بها البيان الوزاري، ولم يُسحب ملف ادارة النفايات من التجار والمتنفعين ومقاولي الكوارث والهواة أصحاب الحلول السحرية، فلن نفاجأ اذا شاهدنا في يوم قريب السعادين ترقص فوق جبال النفايات!