شهدت أوائل التسعينات نهاية حرب الخليج الثانية، وتوحيد شطري اليمن الشمالي والجنوبي، ونهاية الحرب الأهلية في لبنان، والانتفاضة الأولى، كما شهدت بدء "عملية السلام" في الشرق الأوسط. واتجهت الجهود اللاحقة نحو تجاوز ذيول الحرب والتعويض عن العقود التي ضاعت على التنمية. لكن ثلاثة بلدان فقط في المنطقة حققت، خلال التسعينات، ازدياد الدخل الفردي عما كان خلال العقد السابق. وكانت للعقوبات التي فُرضت على العراق بعد الحرب آثار سلبية على التعليم والصحة العامة والتغذية والوفيات داخل البلد، وانعكاسات اقتصادية على الصعيد الاقليمي. وفي 28 أيلول (سبتمبر) 2000، بدأت انتفاضة الأقصى، وتعثرت عملية السلام في الشرق الأوسط، فبدد العنف وسياسات الاقفال الكثير من التقدم الذي حققته التنمية في الأراضي الفلسطينية خلال الأعوام التي عقبت اتفاقات أوسلو، ولا سيما في الاسكان، والصحة، والتعليم، والبنى الأساسية، والزراعة. وأحدثت اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة، وتعاظم المخاوف من الارهاب الدولي، انعكاسات عالمية شاملة، وآثاراً بالغة على السياحة والتجارة والاستثمار في كل أنحاء المنطقة. وخلفت أعمال العنف أيضاً موجات من اللاجئين والمشردين داخل بلدانهم، وفئات مهمشة، وتحدّيات اجتماعية واقتصادية وبيئية جديدة على دول المنطقة.
يستعرض هذا المقال آثار الحرب على التنمية المستدامة في الدول العربية في غرب آسيا. وهو يستند الى تقرير أعده فريق من الباحثين في اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الاسكوا).
أدّت الحروب والنزاعات المسلحة الى نتائج مدمرة أصابت التنمية المستدامة في منطقة غرب آسيا. وكثيراً ما كانت المكاسب التي تحقق خلال فترات الهدوء المتقطع تضيع خلال انتكاسات السلام والأمن الاقليميين. وتكبّدت المنطقة خسائر ضخمة في الأرواح والمداخيل والصحة والبنى الأساسية، وشهدت انهياراً خطيراً في التعليم والمهارات والرخاء. وتفاقمت هذه المشاكل بتزايد احتياجات السكان المهمشين والمهجرين، وبضياع فرص التنمية طوال عقود، وكذلك بارتفاع النفقات العسكرية وتراكم الديون.
فلسطين: تحت الاحتلال
يكاد انعدام الاستقرار الناجم عن دورات العنف في الصراع العربي ـ الاسرائيلي يكون أكبر خطر يهدد التقدم الاقليمي نحو تحقيق السلام والأمن والتنمية المستدامة الطويلة الأجل في المنطقة. ففـي العام 1993، حملت اتفاقات أوسلو، وما تبعها من قيام السلطة الوطنية الفلسطينية، وعوداً وفرصاً هامة لفلسطين وللمنطقة كلها. وكان النمـو الاقتصادي إيجابياً نتيجة لتدفق استثمارات ومساعدات إنمائية. وبحلول عام 1999، كان الدخل الفردي في فلسطين قد ارتفع الى 1,760 دولاراً، بينما سجل الناتج المحلي الاجمالي نمواً بمعدل 7,4%.
غير أن مجرى الأمور تبدّل بحلول أيلول (سبتمبر) 2000. فالأثر الاجتماعي ـ الاقتصادي والبيئي للاعتداءات، وإقفال الحدود، وتقييد الحركة، أدت الى تراجع حاد للأنشطة الاقتصادية والى تفاقم البطالة وتزايد الفقر. وفي عام 2002 انخفض الدخل الفردي بنسبة 30% عما كان عام 1994. وتقلصت تحويلات العمّال المغتربين بنسبة 40%، وتقدر البطالة حالياً بمعدل يتراوح بين 25 و35%، أي ضعفا المعدل الذي سجل قبل الأزمة. ويقدر مكتب منسق الأمم المتحدة الخاص في الأرض المحتلة مجموع الخسائر التي لحقت بإيرادات الاقتصاد الفلسطيني، من تشرين الأول (اكتوبر) 2000 الى أيلول (سبتمبر) 2001 فقط، بمبلغ يتراوح بين 2,4 و3,2 بليون دولار.
وتشمل الخسائر غير المحتسبة في الأصول المملوكة تدمير البساتين، وشجر الزيتون، والمزارع، والمصانع، والشركات، والمدارس، والمنازل، الذي تتضاءل بسببه مصادر معيشة الفلسطينيين. أما الآثار البيئية الناجمة عن تخريب البنية الأساسية فلم تقيّم بعد. ويقدر البنك الدولي أن نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر ارتفعت الى ما بين 40 و50% بحلول نهاية عام 2001، بينما أشار مسح لدخل الأسر أجري مؤخراً الى أن 10% من أسر الضفة الغربية فقدت كل مصادر دخلها منذ أيلول (سبتمبر) 2000، بينما مُني 48% بخسارة أكثر من 50% من دخلهم منذ بدء الانتفاضة الأخيرة. ويقدر أن الوضع أسوأ حالاً في قطاع غزة. كما ان الوضع الانساني يزداد تردياً مع تزايد أعداد المشردين والمعوقين والمصابين والمرضى والمعوزين.
وكانت أضرار الصراع العربي ـ الاسرائيلي فادحة على الصعيد الاقليمي. فقد خلف أعداداً ضخمة من اللاجئين الفلسطينيين، تفوق 2,5 مليون فلسطيني خارج فلسطين. ولا يزال الكثير من اللاجئين يعيشون في مخيمات ويشكلون ضغطاً على الموارد المتضائلة في البلدان المجاورة المضيفة. كما ان تصاعد العنف قضى على السياحة الى المنطقة، فألحق الأذى بالأردن ومصر، اللذين يعتمدان اعتماداً كبيراً على الايرادات السياحية للحصول على العملات الأجنبية والوظائف. وأضعف استمرار الصراع التجارة البينية وقوّض ثقة المستثمرين في المنطقة. ولا تزال القضايا المتصلة بالموارد المائية المشتركة تنتظر الحل وتؤثر سلباً على توفر المياه، والزراعة، والاستعمال المستدام للمياه في البلدان المتشاطئة.
لبنان: نزاع أهلي واحتلال
الجولان: استباحة ومستوطنات
رزح لبنان تحت عبء نزاعات أهلية استمرت 17 عاماً ووضعت أوزارها عام 1991. كما عانى من احتلال اسرائيلي لجنوبه دام 22 عاماً وانتهى بانسحاب القوات الاسرائيلية في أيار (مايو) 2000. وكان التهجير، وتدمير المصانع والمجتمعات المحلية، وتدهور الأراضي الزراعية، ونضوب الموارد الطبيعية، من ذيول هذه الأحداث المريرة. وتفاقمت مشاكل التلوث، ودمرت نظم بيئية ساحلية من جراء صرف النفايات الصلبة والخطرة، وظلت المياه المبتذلة غير المعالجة تصب في الأنهار والبحر.
ومنذ انتهاء الحرب، مكن السلم الحكومة من الشروع في إعادة بناء وسط بيروت، وفسح المجال لإعادة تأهيل شبكات المجاري والمرافق الصحية والعامة والبنى الأساسية في البلد. غير أن انعدام الاستقرار الاقليمي واستمرار الصراع في جنوب لبنان وفي فلسطين لا يزالان يلقيان بوطأتهما ويحبطان ما أحرز من انتعاش اقتصادي وتقدم باتجاه التنمية المستدامة.
وفي ظل استمرار القتال في جنوب لبنان، خلال فترة الاحتلال وبعدها، ترك آلاف اللبنانيين الأراضي الزراعية الخصبة ليعيشوا في الأحياء الفقيرة المحيطة ببيروت. وهذه الجماعات هي حالياً في طور العودة، المتباطئة، الى مساكنها. كما أوقعت الاعتداءات الاسرائيلية الثلاثة الكبرى السابقة للانسحاب ضحايا بين المدنيين، ودمرت بنى تحتية ومحطات لتوليد الكهرباء وجسوراً، فأضعفت الثقة بحصول نهوض اقتصادي سريع. ومن الحواجز التي تعوق التقدم نحو التنمية المستدامة في جنوب لبنان الألغام الأرضية ونزع القوات الاسرائيلية للتربة السطحية من الأراضي الزراعية. غير أن الحكومة وضعت خطة خمسية لجنوب لبنان تحدد الاحتياجات الملحة وتركز على إعادة دمج الجنوب واحتوائه في الأطر الوطنية. ولا تزال هناك قضايا كثيرة بلا حل، ومن ضمنها منطقة مزارع شبعا المتنازع عليها، بما فيها من موارد مائية هامة، وحالة 350 ألف فلسطيني مسجلين في وكالة الأمم المتحدة لاغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الاونروا) مقيمين في لبنان.
وتحتل اسرائيل مرتفعات الجولان منذ عام 1967. وقد هجرها عدد كبير من السكان الأصليين السوريين خلال حربي 1967 و1973، تاركين لاسرائيل أن تبني فيها 33 مستوطنة. وتراقب قوة من الأمم المتحدة فض الاشتباك في المنطقة منذ عام 1974.
وفي مرتفعات الجولان موارد مائية ضخمة تغذّي مخزون المنطقة من المياه، فتؤدي بذلك دوراً استراتيجياً هاماً في الصراع العربي ـ الاسرائيلي. ويشكل موضوع السيادة المتنازع عليها في الجولان أهمية قصوى في تحقيق التنمية المستدامة في سورية والأراضي الفلسطينية المحتلة ودول أخرى محاذية كالأردن. وإضافة الى ذلك، يبقى التدمير الذي خلفته الحرب والاحتلال ظاهراً. فبلدة القنيطرة لا تزال أنقاضاً، والألغام الأرضية لا تزال تشكل خطراً على السكان، رغم الجهود التي تبذل لنزعها والتنبيه إليها.
حرب الخليج: انعكاسات
على العراق والكويت والمنطقة
شكلت حرب الخليج الثانية ونظام العقوبات التي فرضت بعدها نكبة ألمت بالمنطقة كلها. فقبل حربي الخليج كانت المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية في العراق تتجاوز المتوسطات الاقليمية، وفي عام 1988 بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي 3,510 دولارات. وقبل عام 1991 كانت الرعاية الصحية تشمل 97% من سكان المدن و87% من سكان الأرياف، وكانت مياه الشرب المأمونة تصل بكميات وفيرة الى 90% من السكان. وكان العراق مزدهراً نسبياً حسب المعايير الاقليمية ومعايير البلدان النامية.
وأدت الأضرار التي لحقت بالعراق خلال حرب الخليج الثانية الى شبه جمود في الانتاج، كان مرده الى تدمير قطاعي الصناعة والخدمات. وقد خُفف نظام العقوبات بعض الشيء عملاً ببرنامج النفط مقابل الغذاء، لكنه لا يجيز للعراق اصلاح مرافقه الصناعية والتجارية ولا صيانتها على النحو الملائم. ثم ان الانتاج الزراعي محدود نظراً لعدم تيسّر البذور والمخصبات الجيدة ومشاكل أخرى زاد في تفاقمها الجفاف الذي ضرب البلد في الأعوام الماضية. وفي عام 1995، بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي، حسب التقديرات، 715 دولاراً، وهو رقم يباين بوضوح مستويات ما قبل النزاع. وفي حين لا تزال بغداد تحظى بخدمات المرافق، تعاني المناطق الريفية من نقص في مياه الشرب والكهرباء والتغذية. ويقدر برنامج الأغذية العالمي أن الحصول على مياه الشرب بات يتوقف عند 50% من المستوى الذي كان عليه عام 1990 في المدن، ويتدنى بنسبة 33% في الأرياف. وتفتقر المراكز الصحية والمستشفيات الى الصيانة الملائمة، وتواجه صعوبة في عملياتها بسبب نقص المياه والكهرباء. ويعاني الأطفال من ارتفاع معدلات سوء التغذية، وانخفاض معدلات الالتحاق بالمدارس، وارتفاع معدلات وفيات الرضع. وتفيد منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) أن وفاة الأمهات عند الولادة أصبحت، في الأعوام العشرة الماضية، السبب الرئيسي لوفاة النساء في سن الانجاب في العراق، وأن سوء التغذية متفش في وسط العراق وجنوبه.
وخلفت حرب الخليج الثانية في العراق نتائج بيئية خطيرة، منها انبعاث سحب دخان وملوثات كثيفة في الجو من الحرائق، وتلوث التربة والبيئة البحرية بسبب تدمير آبار النفط ومرافق تخزينه وتكريره ومحطات توليد الكهرباء، واختلال التربة على نطاق واسع ولا سيما في جنوب العراق بسبب العمليات العسكرية، والآثار الصحية المحتملة للتعرض لليورانيوم المستنفد من الأسلحة التي استخدمت خلال الحرب.
وأحدثت هذه الحرب، كذلك، انعكاسات بيئية إقليمية بالغة طاولت الكويت ومنطقة الخليج الشرقية. فخلال الحرب، تراكم النفط المتسرب من الآبار المنفجرة مشكلاً عدداً من البحيرات النفطية، فاخترق باطن التربة، ولوث الأراضي وبعض الطبقات المائية. وأفرغت في البحر كمية من النفط تقدر بستة الى ثمانية ملايين برميل، فلوثت مئات الكيلومترات من ساحل الخليج. وفي نهاية الحرب، أضرمت النار في أكثر من 600 بئر نفط، استغرق إخمادها 258 يوماً، وتكونت منها فوق الكويت سحابة دخان كثيفة وسامة لم يعرف أثرها على الصحة بعد. وأتلف السخام والرذاذ المنبعثان من الآبار النفطية المشتعلة مساحات نباتية واسعة، بينما قضت الانسكابات على جميع الكائنات الحية تقريباً في منطقة واسعة محيطة بالآبار. أما الآثار البيئية الطويلة الأجل التي أحدثتها الحرب فهائلة، وقد تستمر عقوداً. ولذلك، لا يزال تخمين التعويض الذي يتوجب على العراق تجاه الكويت، لقاء الأضرار البيئية الناجمة عن حرب الخليج، بين القضايا العالقة اللازم التفاوض عليها في المحكمة الدولية، ويتوقع استكمال المفاوضات في نهاية 2002.
وتمتد تبعات حرب الخليج الثانية والعقوبات وتراجع الاقتصاد العراقي الى التنمية المستدامة على الصعيد الاقليمي. فهذه الحرب ساهمت في إحداث ركود اقتصادي اقليمي، لأن العقوبات ألحقت خسائر ببلدان المنطقة التي تعتمد على التعامل الاقتصادي مع العراق. وبوجه الخصوص، عانت التجارة البينية من هذا الوضع، كما عانت منه قدرة التجار والطلاب والخبراء على الدخول الى العراق والخروج منه. وعلى سبيل المثال، تراجع قطاع النقل في الأردن بعد الحرب، لأن جزءاً كبيراً من نشاطه كان يعتمد على المبادلات مع العراق.
اليمن: أفقر بلدان المنطقة
خرج اليمن من نزاع مسلح دام 30 عاماً، متكبداً أضراراً جسيمة لحقت بمرافق الانتاج والبنية الأساسية، ولا سيما خلال الحرب الأهلية عام 1994. ونتيجة لذلك، لا يزال هذا البلد أفقر بلدان غرب آسيا، ومعدل نصيب الفرد من ناتجه المحلي الاجمالي هو الأدنى في المنطقة. كما يعاني اليمن من ارتفاع معدل الأمية بين الكبار، وارتفاع معدل الخصوبة، ومن أن الفئة العمرية 1 ـ 15 عاماً تشكل أكبر شريحة سكانية فيه.
وبسبب حرب الخليج الثانية، توقف تدفق المساعدات من بلدان الخليج الى اليمن، نظراً لوقوفه المفترض الى جانب العراق. وحصل انخفاض سريع في تحويلات العمال المهاجرين مع ترحيل مليون عامل يمني من بلدان الخليج، فزاد الضغط على الخدمات الحكومية والبنية الأساسية. ووصلت الخسائر التي تكبدها اليمن خلال الحرب الأهلية الى ذروتها بالهبوط الحاد الذي شهدته أسعار النفط في الفترة 1997 ـ 1998، وبالنجاح المحدود في ضبط ارتفاع معدل النمو السكاني. وتشكل هذه العوامل حواجز خطيرة أمام التنمية المستدامة في البلد.
يبقى معدلا البطالة والفقر في اليمن مرتفعين، وسط استمرار المخاوف الأمنية. ولا يزال اقتصاد البلد شديد الاعتماد على النفط، الذي لا يشكل مصدراً مستداماً للنمو والعمالة. وقد تأثر الانتاج الزراعي بالجفاف ونقص المياه، في حين أدت ذيول النزاع الأهلي والهجرة الى إجراء تسويات في توزيع المياه بين المراكز الحضرية المتنامية والجماعات الريفية المتناقصة. كما أن مخزون المياه الجوفية يستخدم بمعدلات لا تضمن استدامته، ويتوقع أن يجف خلال نحو 20 عاماً. وتمضي سفن الصيد الأجنبية، التي يسمح لها بالصيد لقاء رسم ترخيص تدفعه لخزينة الدولة، في استنفاد ثروة البلد السمكية. وتتضاءل ايرادات السياحة بسبب عمليات خطف وتفجير متكررة (منها الحادث الذي استهدف طاقم السفينة الأميركية "كول")، وبفعل اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) على الولايات المتحدة. والنتيجة هي أنه لا يزال يلزم تحقيق الكثير للسير باليمن نحو التنمية المستدامة.
إنفاق عسكري باهظ ومخاوف نووية وألغام أرضية
أدت النزاعات المحلية والدولية الى زيادة النفقات العسكرية، لأن نصف دول المنطقة تقريباً خاضت حروباً في التسعينات، وجميعها تتشارك في الحدود مع بلدان تخوض حروباً. وفي عام 1996، بلغت النفقات العسكرية نحو 7% من الناتج المحلي الاجمالي للمنطقة، كان يمكن أن توجه الى التنمية المستدامة. وألقت الحروب والنفقات العسكرية وتكاليف إعادة الاعمار أعباء مالية ثقيلة على كاهل البلدان جميعها، وأغرقت معظمها في ديون ضخمة.
ولا تملك أي من دول الاسكوا برنامجاً مؤكداً للأسلحة النووية، وقد وقعت جميعها معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. ويبقى وجود برنامج للأسلحة النووية في العراق موضع جدل. ولكن لا يزال هناك قلق كبير، على الصعيد الدولي، إزاء برامج الأسلحة الكيميائية والبيولوجية في العراق وإمكانات تطويره لبرنامج أسلحة نووية. وتقتصر القدرات النووية في دول أخرى على البحوث، وتلك هي الحال في سورية ومصر. إلا أن الخوف يتنامى حيال المخاطر التي يمكن أن يشكلها تسرب نووي مصدره دول تقع على حدود المنطقة، ولا سيما اسرائيل، التي لم توقع معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية والتي تملك ترسانة نووية شبه مؤكدة. كما تثير المرافق النووية المتقادمة، ومنها مثلاً مفاعل ديمونا النووي في اسرائيل، قلقاً متنامياً، لأنها تنطوي على خطر حصول تسرب نووي، وهذا الخطر يزداد مع وقوع هزات أرضية على طول وادي الغور.
وتشكل الألغام الأرضية والعبوات غير المنفجرة حاجزاً ضخماً أمام التنمية المستدامة في المنطقة، كما تثير قلقاً إنسانياً بالغاً. ففي اليمن، زرع ما يقارب 100 ألف لغم أرضي في المناطق الجنوبية والشرقية، فاشتد تقلص مساحة الأراضي الصالحة للزراعة، التي هي ضيقة أصلاً (2,6%)، وأصبح الوصول الى الموارد المائية ومساحات الرعي متعذراً. كما زرع نحو 150 ألف لغم في لبنان خلال النزاع الأهلي بين عام 1975 و1991 والاحتلال الاسرائيلي للجنوب. لكن الموقع الدقيق لمعظم هذه الأسلحة الخفية لا يزال مجهولاً. ويسود وضع مماثل في مرتفعات الجولان. وتقدر مصادر عسكرية في الأردن عدد الألغام الأرضية بأكثر من 300 ألف لغم مزروعة في نحو 15 ألف فدان من الأراضي، يقع معظمها في وادي الأردن ووادي عربة وعلى الحدود الشمالية، حيث أجود الأراضي الزراعية. وقد سببت حوادث الألغام إصابات لأكثر من 400 شخص في الأردن، ومعظمهم من المزارعين.
وقد خصص كل من اليمن والأردن ولبنان موارد لنزع الألغام. فوقع اليمن عام 1999 اتفاقية أوتاوا بشأن حظر استعمال وتكديس وإنتاج ونقل الألغام المضادة للأفراد وتدميرها، وصادق عليها، بعد أن فعل لبنان ذلك عام 1998. وفي الأردن، نظفت الشركة الهندسية الملكية 157 حقل ألغام، فأزالت أكثر من 65 ألف لغم. لكن قدرات نزع الألغام المتيسرة في المنطقة غير كافية لحل المشكلة، على رغم المساعدة التي تؤمنها الأمم المتحدة والبلدان الصديقة.
تكاليف غير مباشرة
الموازنات العسكرية تبعد الموارد عن الانفاق المخصص لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، ولا سيما خلال فترات التقشف والغموض الماليين. ويؤدي انعدام الاستقرار والقلق حيال السلام والأمن الى إضعاف الثقة بالانتعاش الاقتصادي وعرقلة التجارة والاستثمار، ولا سيما الاستثمار الاجنبي. فعلى سبيل المثال، أبطأت اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) النشاط التجاري والاستثمارات المحتملة في المنطقة، بسبب تعاظم المخاطر السياسية المتوقعة. وكان من المخاوف التي تتعلق بالاستقرار الاقليمي ومن الانعكاسات الاقتصادية لأحداث 11 أيلول (سبتمبر) أن ثنت الكثيرين من متخذي القرار والصناعيين والمستوردين عن التفكير في التجارة مع المنطقة. كما عانت التجارة البينية من عمليات الحصار في الضفة الغربية، التي ألحقت ضرراً جسيماً بالصادرات الأردنية.
ويحدث السلام والأمن أثراً إيجابياً طويل الأجل على السياحة والايرادات بالعملات الأجنبية. ولا تزال حصة المنطقة من السياحة العالمية صغيرة، لا تتعدى 4% من المجموع العالمي، لكن قطاع السياحة كان يحقق نمواً مطرداً قبل اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) وتفاقم الصراع العربي ـ الاسرائيلي. وتحدث خسائر قطاع السياحة انعكاسات خطيرة على الانفاق العام، والعمالة، ومداخيل الحرف التقليدية، والقدرة على تخصيص الموارد الكافية لتنفيذ خطط التنمية المستدامة.
لاجئون ومهجرون ومحرومون
يتركز عدد كبير من العمال المهاجرين واللاجئين والمهجرين حول المراكز الحضرية نتيجة للنزاعات المسلحة التي تشهدها المنطقة. وقد أدى ذلك الى ظهور أحياء عشوائية ومخيمات لا تحصل على ما يكفي من المياه والاصحاح والكهرباء.
وقد أسفرت حرب الخليج الثانية عن رحيل نحو مليوني عامل مهاجر، معظمهم من فلسطين والاردن واليمن، من دول مجلس التعاون الخليجي بسبب المواقف التي اتخذتها حكوماتهم. وتجلت الآثار التضاعفية لذلك في ارتفاع معدلات البطالة، وتزايد الفقر، وتنامي معدلات التضخم، وتفاقم عجز الميزانيات. وتفيد وكالة "الاونروا" بأن عدد اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأوسط يقارب 4 ملايين نسمة، يعيش ثلثهم على أراضي السلطة الفلسطينية. وكثيراً ما يواجه اللاجئون في البلدان المضيفة ظروفاً اقتصادية واجتماعية صعبة، لأن معظمهم لا يتمتعون بالمواطنة في البلد الذي يسكنونه، ويعيشون في أحيان كثيرة في مخيمات مصممة لتكون ملاجئ موقتة. والسكان المهجرون داخل بلدانهم هم مصدر قلق أيضاً، وكثيراً ما يكون النساء والأطفال والمسنون أضعف الفئات في أوقات النزاعات.
ادارة الموارد الاقليمية
الموارد المائية مسألة ذات أهمية بالغة. فأكثر من 80% من مياه الأنهار الثلاثة الكبرى التي تغذي بلدان المنطقة تنبع من خارجها. وهذا الأمر ينطوي على احتمال نشوء نزاعات، لأن السدود التي تبنيها تركيا، الدولة المتشاطئة الواقعة في أعالي دجلة والفرات، تثير قلقاً شديداً لدى سورية والعراق الواقعين عند أسفل النهرين، وهي مصدر توتر مستمر. وتحدث خطط التنمية في اثيوبيا واريتريا انعكاسات مباشرة على تدفقات نهر النيل الى مصر. ولنهر الأردن خمسة بلدان متشاطئة هي لبنان وسورية والأردن وفلسطين واسرائيل. وقد نجم عن استغلال مياه الأردن واليرموك (الثاني رافد للأول) تحول النهر الى جدول شحيح، فأصبحت المياه، بكميتها ونوعيتها، غير صالحة للري وغير كافية للاستعمال البلدي.
ومن طبقات المياه الجوفية الأربع في فلسطين اثنتان مشتركتان واثنتان تقعان داخل "الخط الأخضر" تحت السيطرة الاسرائيلية، وقد أصبحتا المصدرين الرئيسيين لمياه الشرب في اسرائيل، وهما تغذيان المستوطنات الاسرائيلية في الضفة الغربية. وينجم عن تزايد الطلب على المياه إفراط في سحب المياه الجوفية يؤدي الى تزايد الملوحة وتردي النوعية. وقد أصبحت المياه في عملية السلام في الشرق الأوسط قضية من قضايا المفاوضات على الوضع النهائي. وهكذا يكون عدم حل قضايا المياه، وعدم التوصل الى اتفاق بشأن الادارة المستدامة للموارد المائية العذبة المشتركة، سببين محتملين من أسباب النزاع في المنطقة.
كذلك يفضي التوتر وعدم إحراز تقدم في عملية السلام الى عرقلة الادارة المستدامة للمناطق الايكولوجية. وتلحق الصراعات الاقليمية ضرراً جسيماً بالبيئة البحرية والبيئة الساحلية، ينجم خصوصاً عن حدوث انسكابات النفط ورمي النفايات. كما ان تدمير النظم الايكولوجية الرئيسية ينطوي على احتمال نشوب نزاعات وإفراز لاجئين بيئيين، وهذا أمر ستتأثر به موارد رزق الجماعات التي تعتمد اقتصادياً على هذه المناطق.
ومن أبرز أعمال تدمير الموائل في المنطقة اضمحلال أهوار ما بين النهرين في العراق، وهي كارثة بيئية يصعب محو آثارها في منطقة تعاني الاضطراب وتخضع لعقوبات ما بعد الحرب. وبسبب جفاف الأهوار نتيجة للسدود التركية ومشاريع الصرف العراقية، خسر عرب هذه المناطق موئلهم وسبيل معيشتهم، فهجروها، وأصبحوا يشكلون مجموعة كبيرة من اللاجئين لأسباب بيئية. وأدى تدمير هذا الموئل الى انقراض عدد كبير من الأنواع الحية. كما انتزع تجفيف الأهوار وظيفة التكرير التي كانت تقوم بها، ما أدى الى تراكم المخصبات في مصائد الأسماك الواقعة في أسفلها وأثر سلباً على النظم الايكولوجية في مصب النهرين وفي الخليج العربي، وخرب اقتصاد المجتمعات المحلية. وهذه الأراضي الرطبة كانت في ما مضى موضعاً لتكاثر الطيور البحرية ومستراحاً للأنواع المهاجرة.