إن ما أنتهى إليه مؤتمر جوهانسبورغ كان دون الآمال والتوقعات. ولن يكون تبرير نتائج هذا المؤتمر سهلاً حين يتم عرضها على الجمعية العمومية للأمم المتحدة، كونها الجهة الداعية والمنظمة. لقد حددت الأمم المتحدة لمؤتمر جوهانسبورغ مهمتين: الأولى مراجعة ما تم تنفيذه من أجندة القرن 21 التي أتفق عليها في مؤتمر قمة الأرض في ريو دي جانيرو عام 1992، والثانية وضع برامج لتنفيذ خطط الأجندة.
قدم الأمين العام كوفي أنان قبل فترة تقريراً عما أنجز منذ قمة ريو، يمثل وجهة نظر الأمانة العامة للأمم المتحدة. وجاء في التقرير أن التقدم الحاصل منذ ريو كان مخيباً للآمال. لكننا لم نسمع رأي الدول في هذا الصدد. وأوافق الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي قال في مطلع خطابه: "بعد عشر سنوات من مؤتمر ريو ليس هناك ما نحتفل به. البيت يحترق ونحن نشيح بوجهنا إلى الجهة الأخرى". أي اننا لم نفعل شيئاً يذكر منذ 1992. وما كان قبل سنوات تحذيراً علمياً، في ما يخص تغيّر المناخ مثلاً، أصبح حقيقة واقعة بما نشهده من فيضانات وسيول في أوروبا وآسيا وما تتعرض له الدول ـ الجزر من أعاصير وعواصف، والجفاف الحاصل في أفريقيا، إضافة إلى ما تعانيه أصلاً من الجوع ومن مرض نقص المناعة المكتسب (الأيدز). ولا ننسَ المتاعب الاقتصادية العالمية التي أشار اليها الرئيس شيراك. فأميركا صاحبة أقوى اقتصاد في العالم تعاني تباطؤاً في النمو وانهيار عدد من الشركات الكبرى نتيجة سوء الإدارة والفساد فيها، والمكسيك عانت من الانهيار الاقتصادي والأرجنتين ما زالت تتخبط فيه، وكان قد سبق هذا الانهيار الذي تعرضت له دول جنوب شرق آسيا. كل هذه الوقائع لم تنعكس في "الخطة التنفيذية" الصادرة عن المؤتمر. هناك فقط إشارة بسيطة في الإعلان السياسي.
أما وضع برامج لتنفيذ اجندة القرن 21 فلم يتحقق منها شيء. وكانت الجمعية العمومية طالبت بوضع جدولة زمنية لتنفيذ خطط الاجندة مع تحديد التمويل وأسلوب التنفيذ. وجاء هذا الطلب بعد الدورة الخاصة التي عقدتها الجمعية في العام 1997 لمتابعة تنفيذ الأجندة 21، أي بعد خمس سنوات على إقرارها، ولم يكن نفذ منها شيء. ورأى المجتمعون أن الوضع آنذاك كان أسوأ منه حين وضعت الأجندة. وفي جوهانسبورغ لم تتم مناقشة أية خطة أو برنامج مرتبط بجدول زمني أو مصادر تمويل محددة أو الجهة المكلفة بالتنفيذ، وذلك في أي من المواضيع الخمسة التي حددها الأمين العام وهي: المياه والطاقة والصحة والزراعة والتنوع البيولوجي.
الجديد في جوهانسبورغ كان طرح مسألة "الشراكة" التي أثمرت، بعد سلسلة مناقشات وحوارات، عن 235 مليون دولار فقط، بينما المطلوب يقدر بالمليارات.
طرحت كذلك مسألة محاربة الفقر، وليس الأمر جديداً. فقد كان ضمن برنامج الألفية الجديدة الذي طرحته الأمم المتحدة قبل سنتين، واتفق على أنه بحلول العام 2015 يجب أن يصبح عدد الناس الذين يعيشون تحت مستوى الدولار أو الدولارين نصف عددهم الآن، كذلك سيتم إيصال مياه الشرب إلى 50 في المئة من المحرومين منها حالياً. وخلال هاتين السنتين لم يضع أحد برنامجاً تنفيذياً لتحقيق هذه الأهداف. ماذا تغير اليوم؟ لم يوافق أحد في القمة الثانية على تمويل محدد لصندوق خاص لمواجهة الفقر، بل اقتصر النص على تمنيات طوعية، وتم تحويل الأمر مرة أخرى إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة، التي كانت حولته الى القمة!
"العولمة" مسألة أخرى طرحت للنقاش، وأبدى الجميع قلقهم من دور الشركات المتعددة الجنسية والعابرة للقارات، لكـن أحداً لم يتفق علـى وضـع ضوابط أو خطـوط إرشادية لضمان عدم سيطرة هذه الشركات على العالم من دون رادع. وترك الأمر كذلك للجمعية العمومية للأمم المتحدة.
والمؤسف أن كل ما تفعله الدول النامية هو الرد على مبادرات الدول الصناعية، بينما لا تبادر هي إلى شيء. فهي تضع موضوعاً معيناً لتركز جهودها عليه، بل تنتظر اقتراحات الدول الصناعية لترد عليها. فقد أُدخلت مثلا في متاهة مبدأ غير مفهوم هو "المسؤولية المشتركة ولكن المتباينة" وهل يحق أن يعاد التفاوض حولها. كما انجرّت إلى مناقشة قضايا أخرى مثل صحة الإنجاب، وهل يحق للمرأة الإجهاض. هذه مواضيع مهمة، ولكنها لم تكن هدف اجتماعنا في جوهانسبورغ. هناك مئات المؤتمرات التي تناقش هذه المواضيع، لكننا ذهبنا الى جوهانسبورغ لبحث التنمية المستدامة، وكيف نحققها وقد مرت عشر سنوات ولم يتحقق منها شيء ملموس.
جيد أن نضع أهدافاً مثل الاتفاق على برامج زمنية لمحاربة الفقر. ولكن لم يناقش أحد كيفية تحقيق هذه الأهداف وكم تبلغ كلفتها. ولم يطرح أحد كم ستدفع الدول النامية لرفع معاناة الفقر من الآن ولغاية سنة 2015، أو كيف سيتم إيصال المياه إلى نصف المحرومين منها الآن، وكم تبلغ الكلفة، ومن سيدفعها. هل ستدفع الدول النامية جزءاً منها أو كلها؟ وهل سيكون ذلك بحسب مستوى الدخل؟ كما لم يشر أحد إلى آلية المتابعة، وعلى أية فترات، وهل يتم ذلك من خلال لجنة التنمية المستدامة؟
والمستغرب أن يرد في إعلان جوهانسبورغ الطلب من الجمعية العمومية تأسيس جهاز يتولى متابعة تنفيذ توصيات القمة. وفي الوقت نفسه تتساءل خطة التنفيذ، في الجزء الخاص بالمؤسسات، عن دور لجنة التنمية المستدامة وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي في المتابعة. وهذا يدل على غياب التنسيق بين مشروع الإعلان وخطة التنفيذ.
الخلاصة أننا لم نتقدم قيد أنملة نحو الاتفاق على برنامج زمني محدد لتحقيق أي هدف من الأهداف التي وضعناها واتفق عليها رؤساء الدول. لم نجر أية مناقشة أو بحث في آلية التنفيذ ومن سيقوم بها، أو إيجاد مصادر التمويل ومن سيتحمل التكاليف، أو من سيتابع كل خطوة ويراقب الأخطاء لتصحيح المسار. لذا لا أرى أي فرق بين ما نحن عليه اليوم وبين ما كنا عليه قبل خمس سنوات أو عشر. الآمال والأهداف جميلة جداً ولكن ليس لدينا أية وسيلة لضمان تحقيقها. وكأن ما فعلناه في جوهانسبورغ هو تنفيذ الأمر العسكري "مكانك راوح"، حيث يركض الجندي واقفاً في مكانه.
قد لا يكون هناك تراجع عن أجندة القرن 21، لأن ما ورد فيها أصلاً من البرامج قليل، ولم تحدد لها أية جدولة زمنية لتطبيقها. وللأسف، لم يغير مؤتمر جوهانسبورغ هذا الواقع.
يسألني البعض عما اذا كنت أشعر بخيبة شخصية بعد ثلاثين سنة قضيتها في التفاوض على ابرام اتفاقات دولية تنظم التعاطي مع قضايا البيئة والتنمية المتوازنة. صحيح أنني عملت سنوات طويلة على القضايا البيئية وعلى بلورة مفهوم التنمية المستدامة. ويسعدني مثلاً ما حققته اتفاقية مونتريال التي نجحت في وقف إنتاج واستخدام المواد المستهلكة لطبقة الأوزون. كذلك اتفاقية التنوع البيولوجي وما نفذ منها. ورغم نتائج مؤتمر جوهانسبورغ المخيبة، يبقى السبب الحقيقي لخيبة الأمل المشكلتين الدائمتين التي تعاني منهما الدول النامية، وهما التمويل ووسائل نقل التكنولوجيا، خصوصاً بعد التطور الرهيب في تكنولوجيا المعلومات، التي ستزيد الهوة بيننا وبين الدول المتقدمة بمئات السنين. ومؤتمر جوهانسبورغ لم يناقش أي نوع من الاتفاق على تيسير نقل هذه التكنولوجيا، فيما لا تزال اتفاقية التجارة الحرة وحقوق الملكية هي التي تسود.
أما الحضور العربي في جوهانسبورغ فقد كان أقل من المتوقع، مثله مثل بقية الدول النامية، وهنا أعني المشاركة بالفكر والمبادرة وليس بالأشخاص فقط. فلا المجموعة العربية ولا بقية الدول النامية في مجموعة الـ77 استطاعت أن تكون فعالة كما يجب. ولم تقدم نفسها كمجموعة واحدة بل كدول منفردة. وأسأل لماذا لا تشكل هذه الدول مجموعة عمل من القدرات الشابة الكثيرة لديها، خاصة الجيل الذي تمرس في المؤتمرات والمفاوضات الدولية، كي تصوغ ورقة موحدة تتقدم بها الى المؤتمر. هناك العديد من المنظمات التي تنضوي الدول العربية تحت لوائها، مثل الجامعة العربية ومجلس التعاون لدول الخليج العربية ومنظمة الوحدة الأفريقية وغيرها. ولكن لا شيء يجمع هذه الدول رغم تجمعها في المنظمات، بخلاف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تجمع الدول الصناعية، وتخدم من مقرها في باريس جميع الدول التابعة لها وتتمتع بسكرتارية متخصصة تعمل على دراسة المشاكل وتقديم الحلول وتدعو الأطراف إلى مناقشتها والأخذ بها.
لم أتوقف على مدى عشرين عاماً عن مناشدة المسؤولين في الدول العربية والنامية تعيين مجموعة أشخاص من كل قارة لتشكيل فريق عمل (Think Tank) من 30 أو 40 من الشباب أصحاب التمرس والخبرة في التعاطي الدولي والمؤتمرات. فيعملون على تحديد المواضيع التي تهم البلدان النامية وتعيين نقاط الالتقاء والاختلاف، لتقديم المقترحات والخيارات بشأنها. عندها تأتي الدول النامية الى المؤتمرات والمحافل الدولية مزودة بورقة عمل موحدة واضحة، فتتفاوض استناداً إلى قائمة احتياجات وأولويات مقابل ما تفرضه عليها الدول الصناعية. آن الأوان لقيام منظمة فاعلة في مواجهة الدول الصناعية.
ليس مفيداً أن نستعيض عن المبادرات الجادة بعناوين براقة. لقد وزعت في المؤتمر ورقة بعنوان "المبادرة العربية حول البيئة والتنمية"، ولست أدري لماذا دُعيت بـ "المبادرة" وهي لا تتعدى مجموعة مبادئ وأفكار أقرتها الدول العربية، أو الوزراء المعنيون فيها. و"المبادرة" في رأيي يجب أن تتضمن برنامجاً قابلاً للتنفيذ مع آلية وجدولة زمنية ومصادر تمويل وذكر للجهات المتعاونة على التنفيذ. وهذا لم يتوفر في الورقة العربية، إذ لا يكفي أن نورد أفكاراً ومبادئ ونعلن أننا سنلتزم بها ونعد بأننا نضع الخطط التنفيذية لها لاحقاً.
حتى الأفكار المطروحة في الورقة العربية أغفلت مسألة مهمة، تكلمت عنها السيدة ميرفت التلاوي الأمين العام للأسكوا، وهي مشكلة السلام وأثر ذلك في التنمية، حيث تنهمك الدول وتستنزف موازناتها في الإعداد للحرب أو توخي النجاة منها، وذلك على حساب موازنات برامج التنمية. وقد أقترح أحد رؤساء الدول في كلمته تخفيض الإنفاق العسكري بنسبة واحد في المئة توضع في صندوق مخصص لتنفيذ مشاريع التنمية المستدامة. هذا الاقتراح كان يمكن أن يشكل مبادرة ولكنه بقي اقتراحاً.
ليس مقبولاً أن نصف اجتماعاتنا كل عشر سنوات بأنها "نقطة انطلاق".
الدكتور مصطفى كمال طلبه، رئيس المركز الدولي للبيئة والتنمية والمدير التنفيذي السابق لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، شارك في قمة جوهانسبورغ كضيف شرف. خلال عقدين من الزمن في قيادة برنامج الأمم المتحدة للبيئة، كان الدكتور طلبه المحرِّك الرئيسي للاتفاقات البيئية الدولية التي نعرفها اليوم، وكان أول من أطلق نظرية "التنمية المستدامة" على المستوى الدولي. شارك من موقعه القيادي في مؤتمر ريو حول البيئة والتنمية عام 1992، وترأس خلال السنوات العشر الأخيرة كثيراً من اللجان الاستشارية الدولية التي درست التطورات في تنفيذ مقررات ريو.
عقب قمة جوهانسبورغ، التي حضر كل جلساتها، كتب الدكتور طلبه هذا التحليل لـ"البيئة والتنمية".