منذ العصر النيوليتي قبل 15-20 ألف سنة، ترافق نشاط الانسان مع أخطاء ايكولوجية كبيرة تجلّت في نهاية المطاف بأزمات بيئية. والممارسات البشرية غير المراعية لقوانين الطبيعة تسبب تحولات في الأنظمة الايكولوجية قد تصل إلى حدّ فقدان توازنها الطبيعي وعدم قدرتها على التجدّد.
ان دراسة أسباب تلك الأخطاء ونتائجها تفضي الى قناعة بأنه كان في الإمكان تفاديها لو اعتمد الانسان، في حلّه للمشاكل التي تواجهه، معايير ايكولوجية إلى جانب الأهداف الاقتصادية.
وفي دراسة الكوارث البيئية التي تواجهها ثلاثة بحار مغلقة أمثلة واضحة على تعقيد الظواهر الإيكولوجية وإمكانية وصول الانسان الى نتائج معاكسة تماماً لتوقعاته لدى قيامه بنشاطات غير مدروسة من الناحية الإيكولوجية.
بحر قزوين
يتميّز بحر قزوين المغلق بمجموعة من المشاكل الايكولوجية المرتبطة بنشاط الانسان وبعوامل طبيعية. فهذا البحر الغني بالسمك كان يعطي في الماضي نحو 90% من الصيد العالمي لسمك الحفش الذي يصنع من بيضه الكافيار. وحتى الستينيات من القرن العشرين كان 75% مما يصاد في قزوين من الأسماك القيّمة اقتصادياً. وفي أواسط الثمانينيات، انخفض حجم الصيد بنسبة الثلث، ولم تعد الأنواع القيّمة تشكل سوى 10% من مجمله.
وتشير الوقائع اليوم إلى وجود تهديد فعلي بالانقراض لما تبقى من أسراب سمك الحفش. ويعود ذلك إلى الصيد الجائر، وبخاصة غير المراقب، وتلوث المياه، والتعدي على مسالك هجرة السمك والمواقع التي يبيض فيها، خصوصاً مع بناء السدود على الأنهر التي تصب في البحر. وتؤكد الإحصائيات انخفاض مساحة مواقع بيض الحفش من 3600 هكتاراً إلى 450 هكتاراً. والى ذلك، أصبحت أسماك الحفش عرضة لأمراض لم تكن تصيبها من قبل، تتسبب بتشقق عضلاتها وترهل جسمها وفقدان لحمها وبيضها لطعمهما المميّز.
في مطلع التسعينيات، بلغ وضع بحر قزوين حداً خطراً، اذ راح يفقد بسرعة قدرته على الضبط الذاتي والتنقية الذاتية، وأصبح مهدداً بفقدان تام لقدرته على إنتاج السمك وبالتحوّل إلى حوض ترسيب. وتتسارع العمليات المؤدية إلى هذا الوضع مع تزايد حجم إنتاج النفط على شواطئه وفي أعماقه، وما يتبع ذلك من نقل للنفط المستخرج. وفي السنوات الأخيرة، أصبح وضع البحر مثيراً للانتباه.
كان مستوى المياه في بحر قزوين عرضة للتبدل على المدى العصور. فخلال الحقبة الجليدية الأخيرة (قبل 10-12 ألف سنة) كان عمق مياهه يزيد 70-75 متراً عن عمقها الحالي، وكان متصلا بالبحر الأسود. وفي ما بعد، انخفض مستوى المياه وانفصل قزوين بالتالي عن البحر الأسود، فأصبح بحراً مغلقاً لا صلة له بالمحيط. وتشير قياسات مستوى المياه التي بدأ تسجيلها منذ العام 1820 الى محافظة قزوين على مستواه حتى عام 1930، مع بعض التبدلات الطفيفة هبوطاً وصعوداً. وهكذا نظم الناس حياتهم على ضفافه بشكل يتناسب مع تلك التبدلات، في حدود متر زيادة أو نقصاناً، وهي تبدلات كانت مرتبطة بالتبدلات المناخية: ارتفاع في السنوات الرطبة وهبوط في سنوات الجفاف.
يتغذى بحر قزوين بمياه عدد من الأنهر، أهمها نهر الفولغا الذي يسكب 80% من مجمل المياه المسكوبة في هذا البحر. وبسبب افتقاد قزوين الى مخرج للمياه، يشكل التبخر العامل الأساسي في المحافظة على مستواه، حيث يلعب خليج كارا-بوغاز-غول الدور الرئيسي في تلك العملية. فوجود الخليج في مناخ صحراوي وتميزه بضحالة المياه يجعلانه قادراً على ضبط مستوى المياه في البحر: في فترات ارتفاع مستوى المياه تدخل الخليج وتتبخر كمية من المياه تتراوح بين 15 و17 بليون متر مكعبفي السنة. وعندما يكون مستوى المياه منخفضاً تنقص الكمية الداخلة الى الخليج وينخفض التبخر الى حدود 4-5 بلايين متر مكعب في السنة.
بالإضافة الى مهمته في تبخير المياه عند ارتفاع مستواها، يقوم الخليج بتحلية المياه. ففي السنوات التي تشهد تبخراً كبيراً، يترسب في الخليج ما بين 140 و150 مليون طن من الأملاح المكونة بشكل أساسي من سلفات الصوديوم. وبفضل هذه الظاهرة تبقى مياه بحر قزوين قليلة الملوحة (12%، أي أقل ثلاث مرات من ملوحة المحيط). أما في الخليج، حيث تتراكم الأملاح، فتصل الملوحة الى حدود 300%.
لحظت المراقبة المتواصلة لمستوى بحر قزوين بدء انخفاضه الحاد منذ ثلاثينات القرن الماضي، اذ بلغ 1.75 متر عام 1945، ووصل عام 1977 إلى 3 أمتار أقل من المستوى الذي كان عليه في مطلع القرن العشرين. وقد أدى ذلك إلى تقلص مساحة البحر 37000 كيلومتر مربع، أي ما يقارب مساحة بحر أزوف، وتقلص حجم المياه حوالي تريليون (ألف بليون) متر مكعب، وهذا يساوي ما يسكبه نهر الفولغا في أربع سنوات.
في البداية، ربط العلماء الهبوط السريع لمستوى سطح قزوين بالتبدلات المناخية، أي انحسار معدل الهطولات. ولاحقاً، في مطلع الخمسينات، اعتبرت النشاطات البشرية التي طالت مصادر مياه البحر المسؤولة الرئيسية عن تلك الظاهرة. فقد بلغ مجموع ما سحب من نهر الفولغا للحفظ في أحواض كمخزون استراتيجي لمياه الشفة حوالي180 بليون متر مكعب، وبلغ التبخر من سطح تلك الأحواض حوالي 5 بلايين متر مكعب، بالإضافة الى كمية تتراوح بين 10 و15 بليون متر مكعب تسحب سنوياً من نهر الفولغا للحاجات الزراعية. وقد أظهرت الدراسات ان ما تسكبه الأنهر الثلاثة المغذية لبحر قزوين انخفض عام 1980 عما كان عام 1930 وفق النسب التالية: نهر الفولغا 12% ، نهر اورال 24%، و نهر تيريك 60%. وتوقعت تلك الدراسات ان ينخفض مستوى مياه البحر عام 2000 بين 3 و5 أمتار إضافية، الأمر الذي يفقده ثلث ثروته السمكية، ويدمره كنظام ايكولوجي، ويتطلب توظيفات مالية كبيرة لبناء مرافئ جديدة وحل مشاكل التجمعات السكنية القائمة على ضفافه والتي ستصبح بعيدة عنها.
استناداً الى تلك الدراسات، تمّ التوافق على اتخاذ تدابير توقف أو، على الأقل، تحد من انخفاض مستوى بحر قزوين. أول تلك التدابير كان فصل خليج كارا-بوغاز-غول عن البحر ببناء سد طوله 100 متر. وهذا ما تم تنفيذه في أواخر السبعينات، على أمل أن يساهم في خفض خسارة المياه عن طريق التبخر بحوالي 5-7 بلايين متر مكعب في السنة.
ومن المشاريع التي درست لإنقاذ بحر قزوين حفر قناة بينه وبين البحر الأسود لتزويده بالمياه وفصل المناطق الشمالية الضحلة عنه لتخفيض نسبة التبخر. ولعل أضخم المشاريع وأكثرها واقعية للتنفيذ كان مشروع تحويل مجاري الأنهر الشمالية الروسية لتصب جنوباً في بحر قزوين، ولم يكن الهدف منها المحافظة على المستوى القائم بل إرجاعه إلى ما كان عليه عام 1930.
لحسن الحظ، وقبل الانتهاء من بناء السد الفاصل لخليج كارا-بوغاز-غول، بدأ مستوى البحر بالارتفاع بوتيرة لا تقل عن تلك التي شهدها انخفاضه وتفوق كثيراً ما كان يتوقع من فصل الخليج. فخلال أربع سنوات ارتفع مستواه 80 سنتيمتراً، وبلغ ارتفاعه في نهاية القرن العشرين أكثر من ثلاثة أمتار، في حين أن فصل الخليج كان سيمنع انخفاض المستوى بمعدل 1.2 سنتيمتر في السنة فقط.
بعد عقود من الضياع والتخبط في أخذ التدابير، اتضح أن السبب الحقيقي للتقلبات التي شهدها مستوى بحر قزوين لم يكن النشاطات البشرية، علماً أن سحب المياه من الأنهر أثر جزئياً دون شك، بل كان السبب عوامل طبيعية. فبالإضافة إلى الظواهر المناخية، كحلول فترات أكثر مطراً وافق الباحثون على الفرضية القائلة بأن تبدل مستوى مياه البحر هو نتيجة تبدل ارتفاع النتوءات القائمة في قعره. لكن هذه الفرضية لا تستثني أن تكون التبدلات التي شهدها القعر نتيجة للأنشطة البشرية، وبخاصة ما يرتبط منها بالتفجيرات النووية في عمق الأرض بالقرب من ضفاف البحر بهدف بناء خزانات للغاز.
ان الأزمة الايكولوجية التي عاشها بحر قزوين تسمح باستخلاص العبرة التالية: قبل اتخاذ أي قرارات كبيرة تتعلق بالعمليات الطبيعية، ينبغي القيام بتحليل شامل للظواهر التي يمكن أن يتعدى تأثيرها النشاطات البشرية.
الغايات النبيلة للحد من انخفاض مستوى بحر قزوين لم تبلغ مآربها، وهي زادت من حدّة بعض الظواهر، وتسببت بنشوء ظواهر أخرى في غاية السلبية، كتلك التي نجمت عن تدمير خليج كارا-بوغاز-غول كنظام ايكولوجي. فبالإضافة الى فقدان أكبر "مصنع طبيعي" لانتاج سلفات الصوديوم، وهي مادة كيميائية قيّمة اقتصادياً، أثيرت مشاكل كثيرة متعلقة بالوضع الصحي للمنطقة والعواصف الملحية والتصحر وغيرها من الظواهر السلبية.
ان النتيجة المنطقية لتلك الظواهر كانت الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبت وإزالة السد الذي بني لفصل خليج كارا-بوغاز-غول. ومع ذلك تبقى بعض الأسئلة مطروحة: هل من الممكن إعادة إحياء جميع حلقات النظام الايكولوجي التي فقدت أو أصابها الخلل، مع دورها المميز في عملية تشغيل النظام؟ وكم يتطلب ذلك من وقت؟ وكم ستكون الكلفة الاقتصادية والايكولوجية؟
بالرغم من استعادة بحر قزوين لمستواه، لا يزال وضعه خطراً مع ما يكتنفه من تلوث نتيجة استخراج النفط من أعماقه وسكب مياه المجاري فيه وممارسة الصيد الجائر على أسماكه ذات النوعية الممتازة. وبعد عشر سنوات من التباحث بين الدول المحيطة به، عقد في 24 نيسان (ابريل) الماضي لقاء قمة تشاورية بين رؤساء الدول الخمس، روسيا وأذربيجان وايران وكازاخستان وتركمانستان، في عشق أباد عاصمة تركمانستان. وقد اتفق الرؤساء الخمسة على تشكيل لجان تقوم بتحديد الوضع القانوني للبحر، وخاصة ما يتعلق باستخراج النفط منه وصيد السمك فيه.
بحر آرال
آرال هو بحر مغلق قليل الملوحة، لا يخرج منه أي مجرى مائي. يحتل المركز الثاني بعد قزوين بين البحار المغلقة. يغذيه بشكل أساسي نهرا صيرداريا وأموداريا اللذان يحملان إليه المياه من المناطق الجبلية في كازاخستان وأوزبكستان المحيطتين به.
طوال قرون حافظ بحر آرال على مستواه المائي، إذ ان وجوده في منطقة دافئة نسبياً جعل الماء المتبخر منه مساوياً لكمية المياه التي تسكب فيه، علماً أن السكان استعملوا جزءاً من مياه نهري صيرداريا وأموداريا في ري الأراضي الزراعية منذ أمد بعيد. ويبلغ متوسط عمق مياه البحر 16 متراً، وأعمق نقطة فيه 68 متراً. أما مساحته فتصل الى حوالى 63400 كيلومتر مربع.
في مطلع ستينات القرن العشرين، بدأ مستوى آرال بالانخفاض بشكل واضح، نتيجة سحب المياه من النهرين اللذين يغذيانه لري حوالى 3 ملايين هكتار من الأراضي المزروعة بالقطن والأرز وغيرهما. والى ذلك، جرى تحويل كمية كبيرة من المياه إلى قناة كاراكوم التي بنيت في تلك الفترة، وكذلك إلى الحوض الذي بني في واديي ساريكاميش وأرناساي لملئه بالمياه. فاختل نظام النهرين لدرجة انهما كانا يجفان في فترات الجفاف ولا يحملان الى البحر أي مياه. ونتيجة ذلك انخفض مستوى البحر في أواسط الثمانينات 8 أمتار، وبلغ ذلك الانخفاض في التسعينات 14-15 متراً، الأمر الذي أدى إلى انخفاض حجم مياه البحر أكثر من 50%.
لم تشكل كارثة آرال مفاجأة، فقد تنبأ عدد من علماء المناخ والجغرافيا والمياه بموته نتيجة سحب المياه من الأنهر التي تغذيه. وفي القرن التاسع عشر، حين كان علم الايكولوجيا غير معروف بعد، اقترح أحد العلماء المهتمين بالتنمية الزراعية استغلال مياه نهري أموداريا وصيرداريا "بشكل جذري ومنتج" الى أبعد الحدود، وعدم سكب الا ما يفيض عن حاجات الزراعة في البحر، لأن وجود البحر "بحدوده الحالية" (عام 1882) هو دليل "تخلف".
أدّى تنفيذ اقتراحات ذلك العالم في ستينات القرن العشرين الى تنمية الزراعة، لكنه تسبب بكارثة بيئية لم تطل البحر فقط، بل تعدته الى مساحات واسعة تحيط به. وقضى انخفاض مستوى المياه على البحر كنظام ايكولوجي: انقسم الى حوضين، وازدادت ملوحة مياههما ثلاث مرات، وفقدا أكثر من 25% من أنواع الكائنات الحية التي كانت تعيش هناك في ما مضى، وبخاصة الثروة السمكية. أما المساحات الواسعة من قعر البحر التي أصبحت مكشوفة للرياح فغدت مصدراً للغبار الملحي، الذي راح ينشر ما يحمله على مسافات تبعد الى 400-500 كيلومتر عن الشاطئ.
وتسبب هبوط مستوى المياه في البحر والأنهر الى انخفاض منسوب المياه الجوفية في المنطقة، وبالتالي الى فناء أكثر الأنظمة الايكولوجية إنتاجية وهي الغابات، وتدنّي إنتاجية المراعي الطبيعية، وتدهور التنوع البيولوجي، وجفاف الآبار الارتوازية المستعملة للشرب. ونتيجة جفاف التربة ويباس الأشجار، راحت الرمال التي كانت الجذور تمسكها تزحف لتطال ما بقي من الأراضي الزراعية والقرى والطرقات.
كارثة أخرى لا تقل خطورة حصلت نتيجة ريّ الأراضي المستصلحة في منطقة آرال والتي بلغت مساحتها حوالى 3 ملايين هكتار. فقد حملت مياه الري الى المياه الجوفية الأسمدة الكيميائية ومبيدات الآفات التي استعملت بإفراط، اضافة الى نتاج عواصف الغبار الملحي، لتلوثها وتجعلها غير صالحة للشرب وتحضير الطعام. وتسبب الإسراف بالري في رفع مستوى المياه الجوفية حتى سطح التربة، فأدّى التبخر الى ارتفاع ملوحة التربة وفقدانها لخصوبتها وتصحرها.
من ناحية أخرى، ساهم بناء قناة كاراكوم، البالغ طولها 150 كيلومتراً والتي زودت بحوالي 25% من مياه نهر أموداريا لري الأراضي البعيدة عن مجرى النهر، بتسريع كارثة بحر آرال والتسبب بمشاكل بيئية إضافية. فقعر القناة المرصوف بالحجارة دون ان يغطّى بالإسمنت سمح، ويسمح، بتسرب كميات كبيرة من المياه في التربة تقدر بحوالى 3 بلايين متر مكعب في السنة. وهذه المياه المتسربة رفعت مستوى المياه الجوفية وزادت من رطوبة التربة وتسببت، كما في حالة الري، بتملّح التربة وظهور بحيرات مالحة، فضلاً عن غرق أساسات الأبنية وتصدّعها.
تلك كانت نتائج الاستعمال "الجذري والمنتج" للموارد المائية، الذي حوّل بحر آرال والمنطقة المحيطة به الى "منطقة كارثة بيئية" دمرت فيها الأنظمة الايكولوجية الطبيعية وأصيبت جميع عناصر البيئة، من هواء وماء وتربة، والمواد المستعملة في الغذاء بالتلوث الشديد. ونتيجة لذلك، ارتفعت نسبة المرض بين السكان، وبخاصة اليرقان وفقر الدم واختلالات الجهاز الهضمي، كما انخفض معدل الاعمار وازدادت الوفيات في سن الطفولة.
لا تشير الدلائل الحالية على وجود سبل فعلية لاعادة إحياء بحر آرال والمنطقة المتاخمة له. فالآمال التي عقدت على تغذيته بمياه الأنهر السيبيرية تبدو بعيدة المنال، نظراً للكلفة العالية، ومخافة أن تكون لذلك المشروع الذي لم يدرس تأثيره البيئي نتائج سلبية أكثر من الفائدة المرجوة منه.
باختصار، يمكن القول ان كارثة بحر آرال تكمن في التقييم غير الدقيق، لا بل تجاهل الأولويات الايكولوجية، طمعاً بأهداف اقتصادية وهمية.
بحر أزوف
خلافاً لبحري قزوين وآرال المغلقين كلياً، يتصل بحر أزوف بالبحر الأسود عبر مضيق كيرتش ويشكل خليجاً مميزاً له. ويتصف خليج كيرتش بضيقه وبضحالة مياهه، فلا يسمح الا بمرور كمية قليلة من المياه. وانطلاقاً من هذا الواقع، تختلف خصائص البحرين الهيدروكيميائية وغيرها.
بحر أزوف صغير المساحة (37600 كيلومتر مربع) قليل العمق (أعمق نقطة فيه 14 متراً). ويتميز بتسخّن مياهه وغناها بالمواد العضوية والمعدنية التي يحملها إليه نهرا دون وكوبان، وبانتاجيته العالية للأسماك ذات النوعية الممتازة (حوالي 80 كيلوغراماً في الهكتار).
بدأ الإخلال بالنظام الهيدرولوجي للبحر وظهور مشاكله الايكولوجية في خمسينات القرن العشرين، نتيجة سحب أكثر من ثلث مياه الأنهر التي تغذيه لاستعمالها في ري الأراضي. ويشبه مصير نهر كوبان مصير نهري صيرداريا وأموداريا في منطقة بحر آرال، اذ لا تبلغ مياهه البحر في فترات الجفاف. أما نهر دون فقد بني عليه سد كبير المساحة قليل الارتفاع، حبس كميات كبيرة من المياه وخفّض حجم ما يصل منها الى البحر (بالإضافة الى المواد المغذية المعدنية والعضوية) وتسبب بانخفاض كميات المياه المسكوبة في البحر وبارتفاع ملوحته.
في الماضي، عندما كان النظام الهيدروليكي لبحر أزوف قائماً في ظروف طبيعية، كان يخرج منه الى البحر الأسود حوالى 66.6 كيلومتراً مكعباً من المياه سنوياً، وكان التيار المعاكس يدخل إليه فقط 41 كيلومتراً مكعباً. لهذا السبب كانت ملوحة مياهه (11%) أقل من ملوحة مياه البحر الأسود (18%).و في أواسط الثمانينات، بعد أن انخفض حجم المياه التي يسكبها نهرا كوبان ودون في بحر أزوف بمعدل الثلث، ازدادت كمية المياه التي يدخلها البحر الأسود إليه، وارتفعت بالتالي ملوحته فأصبحت 13% في وسطه و16% في المنطقة القريبة من مضيق كيرتش. ومع نهاية القرن العشرين أصبحت ملوحة البحرين متساوية تقريباً.
لقد تخطّت سرعة تبدل النظام الهيدروليكي وملوحة بحر أزوف قدرة كثير من الكائنات المائية الحيّة على التأقلم مع الوضع الجديد. ونتيجة لذلك انخفضت إنتاجية السمك بشكل حاد، من 90 ألف طن في السنة خلال الخمسينات الى 20 ألف طن في السنة في الثمانينات، والى مستوى أقل في السنوات اللاحقة. ولوحظ بشكل خاص اختفاء سمك الحفش من بحر أزوف كلياً، كما انخفض احتياط العوالق المجهرية من 400 مليغرام في المتر المكعب الى 160-250 مليغراماً. وتكاثرت قناديل البحر بشكل لافت، وأصبح خطر فقدان البحر لقدرته على التنقية الذاتية كبيراً جداً. ويتخوف بعض العلماء من تحوله الى مستنقع آسن كخليج سيفاش (المنطقة الغربية من بحر أزوف التي يفصلها عنه لسان بطول 120 كيلومتراً) ما لم تتخذ التدابير الكفيلة بتحسين وضعه الايكولوجي.
تخوفاً من تفاقم الأزمة الايكولوجية التي يعاني منها بحر أزوف، تمّ اقتراح عدة مشاريع لتصحيح وضعه. ويرمي أحد الاقتراحات الى بناء سد يفصله عن البحر الأسود في منطقة مضيق كيرتش بهدف الحد من تزايد ملوحته. لكن هذا لن يضع حلاً لمشكلة تغذيته التي أصبحت في حدها الأدنى بعد استعمال مياه نهري دون وكوبان في الزراعة. ولحسن الحظ، لم ينفذ أي من المشاريع المقترحة، لأنها جميعاً لا تعالج المشاكل المطروحة بصورة شاملة.