أين موقع العرب وسط تحديات التنمية والعولمة؟ بعد مؤشر الاستدامة البيئية لسنة 2002، الذي أصدره المنتدى الاقتصادي العالمي وأثار موجة عارمة من الانتقادات العربية حول دقة معلوماته، صدر تقريران جديدان عن التنمية البشرية في العالم والتنمية الانسانية العربية
لم يخطئ من قال إن العالم بعد هجمات نيويورك وواشنطن هو غيره قبلها، بل إن ثمة من يعتقد أن المسافة الزمنية بين 11 أيلول (سبتمبر) و12 منه كبيرة جداً، وربما لم تنته بعد. فآثار ذلك اليوم تتجاوز الحملة على الارهاب والحديث عن محاور للشر وأخرى للخير، لتطال جوانب تمس الحياة اليومية لملايين البشر اقتصادياً وسياسياً وتنموياً وعلى مستوى الحريات.
في هذا الصيف، وقبيل الذكرى السنوية الأولى لاستهداف رموز القوة الاقتصادية والعسكرية الأميركية، أصدر برنامج الأمم المتحدة الانمائي تقرير التنمية البشرية لسنة 2002 تحت عنوان لافت: "تعميق الديموقراطية في عالم مفتت". وهو تضمن ملفات، بعضها بعيد عن الدراسات التنموية التقليدية، مثل "بناء الديموقراطية" و"محاربة الارهاب والديموقراطية" و"المؤسسات الدولية والديموقراطية".
وتزامن ذلك مع إصدار البرنامج بالتعاون مع الصندوق العربي للانماء الاقتصادي والاجتماعي" تقرير التنمية الانسانية العربية لسنة 2002". وهو وثيقة تعد للمرة الاولى لتقويم التنمية في المنطقة التي "لا ترقى الى مستوى غناها"، علماً أن برنامج الأمم المتحدة الانمائي ساهم سابقاً في إعداد 25 تقريراً وطنياً وإقليمياً عن التنمية البشرية شملت 17 دولة عربية.
الديموقراطية في عالم مفتت
يشرح واضعو تقرير التنمية البشرية أنه يعالج تأثير القوة والمؤسسات السياسية، الرسمية وغير الرسمية والاقليمية والدولية، على التنمية. فللسياسة وقعها على التنمية البشرية، لأن الناس يتوقون دائماً الى التمتع بحرية تقرير مصيرهم والتعبير عن آرائهم والمساهمة في اتخاذ القرارات التي تمس حياتهم وتنمية محيطهم.
ويلفت التقرير الى أن ارتفاع مستوى الدخل القومي ليس مؤشراً الى تنمية متقدمة. ففي دول مثل سلطنة بروناي وسلطنة عُمان والكويت وقطر والمملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة، لا تتمتع النساء بحق الاقتراع، وهو من البديهيات في مفهوم المساواة بين المواطنين في الديموقراطيات الحديثة. وهذا عائق تنموي أيضاً، خصوصاً ان من وسائل تحديد مستوى التنمية البشرية مقياس "التمكين الجنساني" الذي يقيس مشاركة المرأة في عملية صنع القرارات السياسية، وكلما زاد التفاوت بين الجنسين انخفض مقياس التمكين الجنساني. كما أن التشجيع على المساواة بين الجنسين هو أحد ثمانية أهداف تنموية وضعتها الأمم المتحدة خلال قمة الألفية في أيلول (سبتمبر) 2000 وحددت سنة 2015 موعداً أقصى لتحقيقها، وهي: تخفيض الفقر والجوع الحادين الى النصف، توفير تعليم ابتدائي لجميع الأطفال، المساواة بين الجنسين ورفع قدرات النساء، تخفيض وفيات الأطفال دون الخامسة الى الثلث، تحسين صحة الامومة وتخفيض وفيات الأمهات الى الربع، مكافحة النقص المناعي المكتسب، تطوير شراكة عالمية للتنمية، ضمان الاستدامة البيئية (دمج مبادئ الاستدامة البيئية في سياسات الدول وبرامجها وتقليل خسائر الموارد البيئية، تخفيض عدد الناس الذين لا تتوافر لهم مياه شفة نظيفة الى النصف، رفع مستوى حياة مئة مليون شخص على الأقل يقيمون في أحياء فقيرة).
وبلغة الأرقام، ووفقاً للمستويات الحالية، فإن 33 دولة يشكل سكانها أكثر من ربع سكان العالم ستحقق أقل من نصف الأهداف بحلول 2015. واذا بقيت مكافحة الجوع تسير بالوتيرة المتباطئة الحالية، فان 130 سنة على الأقل ستنقضي قبل زوال هذه المشكلة. ولا يزال 2,8 بليون شخص في العالم يعيشون على أقل من دولارين في اليوم. وتقترح التقديرات المتفائلة نمواً سنوياً بنسبة 3,7 في المئة في دخل الدول النامية. غير انه في السنوات العشر الماضية لم تتمكن الا 24 دولة، بينها الصين والهند، من تحقيق هذا المستوى. واخفقت 127 دولة يقيم فيها 34 في المئة من سكان العالم في الوصول الى هذه النسبة الضرورية لرفع دخل مواطنيها الى أكثر من دولار واحد في اليوم.
ومثلما تتطلب التنمية البشرية أكثر من مجرد رفع الدخل، فان الحكم الصالح المؤهل لتحقيقها لا يقتصر على إقامة مؤسسات عامة، بل يستوجب توفير أجواء العدالة والشفافية والحرية لها. وأشار التقرير الى أهمية تنامي دور المجتمع الأهلي في تقرير وتنفيذ المشاريع الانمائية. وقد ارتفع عدد المنظمات الدولية غير الحكومية من 1083 عام 1914 الى 37 ألفاً عام 2000، بينها 1170 منظمة بيئية. وشهدت البلدان النامية ازدياداً حاداً في عدد الجمعيات الأهلية، وفي العام 1996 كان هناك أكثر من مليون جمعية في الهند و210 آلاف في البرازيل.
واذ يذكّر تقرير التنمية البشرية بأنه يمكن للدول أن تكون "مختلفة ديموقراطياً" نظراً الى تاريخها وحاجات شعبها، يحذر من دور المال الحاضر بقوة في سياسة الدول، الحديثة العهد بالديموقراطية وتلك العريقة بممارستها. وما الأدلة الأخيرة على الصلات المالية المعقدة بين شركة "إنرون" الأميركية العملاقة في مجال الطاقة وسياسيين مرموقين من الحزبين الجمهوري والديموقراطي، تغاضوا عن فساد طاقمها الاداري والتلاعب الفاضح في سجلاتها ما أدى الى انهيارها وشركات كبيرة أخرى بعد 11 أيلول (سبتمبر)، إلا وجه سافر لسلطة المال حتى في بلاد العم سام وتمثال الحرية.
رتب تقرير التنمية البشرية مواقع 173 دولة، استناداً الى "مؤشرات الحكمية"، وأهمها: الديموقراطية (نظام الحكم، الحريات المدنية، الحريات السياسية، حرية الصحافة، المحاسبة)؛ سيادة القانون وفاعلية أداء الحكومة؛ الفساد؛ المشاركة (الانتخابات، حق المرأة في الاقتراع، عدد النساء في البرلمان)؛ المجتمع المدني (الاتحادات العمالية، المنظمات غير الحكومية؛ تصديق الاتفاقيات الدولية حول الحقوق المدنية والسياسية والحريات). كما سجل التقرير درجة تقدم البلدان نحو تحقيق أهداف الألفية الثمانية.
حلت النروج أولاً وسيراليون أخيراً. وجاءت اسرائيل في المرتبة 22، وأقرب دولة عربية اليها هي البحرين في المرتبة 39، ثم الكويت (45) والامارات العربية المتحدة (46) وقطر (51) وليبيا (64) والسعودية (71) ولبنان (75) وتـونس (79) والاردن (99) والجـزائر (106) وسورية (108) ومصـر (115) والمغـرب (123) وجزر القمر (137) والسودان (139) واليمن (144) وجيبوتي (149) وموريتانيا (152).
من أين هذه الاحصاءات؟
ولكن، لماذا إصدار تقرير ثان برعاية البرنامج يقتصر على التنمية العربية؟ وهل يحمل التوقيت أي مغزى؟ وأين نقاط الالتقاء والخلاف مع التقرير العالمي؟
يقول المدير العام لبرنامج الأمم المتحدة الانمائي مارك مالوك براون في مقدمة التقرير العربي انه "في ضوء أحداث مأسوية في الآونة الأخيرة، يبدو مهماً ان نتساءل عن مدى إتاحة المجال في المنطقة (العربية) لسماع أصوات مواطنيها السياسية ومدى تلبية التطلعات الاقتصادية والاجتماعية لجميع رجال ونساء المنطقة، وهل يواكب الاصلاح الاقتصادي والاجتماعي خطى النمو السكاني والمطالبة بحياة أفضل". ويضيف أن "فريقاً من الأكاديمين العرب، بالاستشارة مع لجنة مميزة من ذوي الخبرة في المنطقة العربية"، أعد التقرير، الذي لا تمثل استنتاجاته البرنامج، بقدر ما هي دراسة وضعها الباحثون "تعبر عن انتمائهم، ولكنها ناقدة لمجتمعاتهم، كشفوا بها جوانب ضعفها وقوتها والتحديات والفرص التي تواجهها بشكل يحق لمفكرين عرب دون سواهم القيام به". وتالياً، "هذه ليست نظرة متفرج من الخارج، ولكنها صورة صادقة في مرآة، وان كانت مثيرة للجدل".
قد تبدو "التنمية الانسانية" لكثيرين مفهوماً مثالياً أو فلسفياً، ويسألون: ماذا يوجد منها على أرض الواقع؟ ومن أين جاءت الأرقام؟ في الفصل الثاني من التقرير العربي، وبعد ما يمكن اعتباره تعريفات نظرية، يقر الباحثون بقلة توافر البيانات الجيدة والدقيقة، مما اضطرهم الى اللجوء الى البيانات الدولية التي تقوم بدورها على تقديرات.
ومع "التطور الملموس في العديد من نواحي التنمية الانسانية"، لا يزال 65 مليون راشد عربي أميين، ثلثاهم من النساء على رغم تضاعف عدد المتعلمات ثلاث مرات منذ العام 1970. وهناك 10 ملايين فتى وفتاة خارج المدارس. ويعيش خمس العرب على أقل من دولارين في اليوم. ولا يستخدم الانترنت إلا 0,6 في المئة من العرب، ونسبة البطالة تصل الى 15 في المئة، وهي الأعلى في الدول النامية، وتستوجب خلق 50 مليون فرصة عمل بحلول 2010. وفي العام 1999، بلغ الدخل الاجمالي للدول العربية مجتمعة 531,2 بليون دولار، أي أقل من دولة أوروبية متوسطة الحجم مثل اسبانيا التي يصل دخلها منفردة الى 595,5 بليون دولار. ولا تحظى النساء بحصة متساوية من هذا الدخل، ولا تزال تسع دول عربية لم توقع أو تصدّق "ميثاق القضاء على جميع أشكال التمييز ضد النساء".
وإذ تبنى الباحثون تعريف الحكم الصالح وأهميته، اللذين تحدث عنهما تقرير التنمية البشرية، وذكرّوا بقول الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان أن هذا النوع من الحكم "هو العامل الأهم الذي يمكّن من محاربة الفقر وتعزيز التنمية"، تطرقوا الى مشكلة نقص الحرية في الدول العربية، المستمر على رغم اعتراف دساتيرها بالحقوق السياسية والمدنية لمواطنيها.
لم يغفل تقرير التنمية الانسانية العربية وجود الاحتلال الاسرائيلي كأحد أكبر العقبات التي تواجه المنطقة العربية جغرافياً وأمنياً وتنموياً. وأشار الى أن آثاره تتجاوز ضحاياه المباشرة من الفلسطينيين الى الدول المجاورة والمحيط العربي عامة حيث يزداد الانفاق العسكري، وهو كذلك "سبب وذريعة لتشويه برامج التنمية وإرباك الأولويات الوطنية وإعاقة التنمية السياسية".
تساؤلات
البيئة "احتلت" 6 صفحات من التقرير العربي الواقع في 162 صفحة. وظلت، ولا عجب، في الانشائيات والعموميات: سرد للقضايا البيئية الرئيسية، من شح المياه وتدهور الأراضي الزراعية وتلوث الهواء والشواطئ، و"استراتيجيات" مقترحة للتصدي لهذه التحديات. ومن الأرقام الهزيلة في هذا الباب أن هناك 15 بلداً عربياً من بين 22 بلداً صنفها البنك الدولي تحت خط الفقر المائي، وأن متوسط موارد المياه المتجددة في بلدان الشرق الأوسط وشمال افريقيا المصنفة ضمن هذه الفئة ستنخفض من 1000 متر مكعب للفرد سنوياً عام 1997 ال 740 متراً مكعباً عام 2015. وكان متوسط الأراضي المزروعة لكل فرد في البلدان العربية 0,24 هكتار عام 1998. وفي العام 1950 كان يعيش في المناطق الحضرية ربع السكان العرب، فارتفعت النسبة الى 50 في المئة في نهاية القرن العشرين. وبلغ مجموع انبعاثات ثاني اوكسيد الكربون في المنطقة العربية 268 مليون طن (من معادل الكربون) عام 1999.
العمومية طغت على التقرير. وانطلاقاً من الفروق الكبيرة بين الدول العربية نتساءل: اذا كان هناك 65 مليون أمي عربي، فكيف يتوزعون في 22 دولة؟ وهل وضع لبنان يشبه وضع مصر أو البحرين أو الصومال؟ واذا كان 0,6 في المئة من العرب يستخدمون الانترنت، فما هي نسبتهم في سورية أو السعودية أو الأردن أو جزر القمر؟ وهل دخل لبنان أو الأردن كدخل السعودية أو الامارات؟ وهل ثمة مواطنون في دول الخليج يعيشون على أقل من دولارين في اليوم؟ وما حصة العراق أو تونس أو السودان أو الكويت أو سلطنة عمان من الـ50 مليون فرصة عمل المطلوبة بحلول 2010؟ وهل للبرلمان في لبنان الدور نفسه في سورية أو مصر أو الجزائر أو المغرب أو الكويت؟ وهل يكفي للحديث عن التنمية الانسانية العربية اعتماد المتوسط الحسابي للدول العربية؟ ألا يؤدي ذلك الى أرقام قاسية وغير عادلة بالنسبة الى بعض الدول المتقدمة نسبياً، لمجرد جمعها مع دول أخرى ذات إمكانات اقتصادية وعلمية وسياسية وتنموية متواضعة؟
واذا كان النفط يشكل 70 في المئة من الصادرات العربية، فهل ننسى أن ثمة دولاً عربية غير نفطية كلبنان، وأخرى حديثة العهد بهذه الثروة كالسودان؟ وهل نبالغ في الطموح والتفاؤل اذا اقترحنا تدريب جامعيين وإعداد اختصاصيين للعمل الميداني والاستقصاء وجمع الأرقام والبيانات لتخرج الدول العربية تدريجياً من "محنتها"؟
وهل عرقلات الصراع العربي الاسرائيلي مبرر لتجاهل التقصير في التنمية الصناعية والبحث العلمي مثلاً؟ أم أن هناك عجزاً صناعياً عاماً، كما ذكر جورج قرم، الخبير الاقتصادي ووزير المال اللبناني السابق، في تعليقه على التقرير، معتبراً أن "العالم العربي غير منتج تقريباً، والصادرات الصناعية العربية تثير السخرية. فاذا استثنينا البتروكيميائيات والفوسفات وبعض مشتقاتها، لا يبقى شيء باستثناء بعض النسيج المحدود الكمية. أما البحث العلمي العربي فهو تحت الصفر، مقارنة بالهند وتايوان وكوريا وماليزيا وغيرها".
يقول المؤلف الرئيسي للتقرير نادر فرجاني انه يجري الاعداد لعدد ثان من "التنمية الانسانية في البلاد العربية" بالتركيز على موضوع "الابداع، تنمية رأس المال الفكري"، وهو أحد النواقص الثلاثة التي حددها التقرير، الى الحرية وتمكين المرأة. علّ هذا العمل يتحول نهجاً مستمراً، سنوياً، يشجع على مبادرات عربية شجاعة للاستقصاء العلمي واستخراج البيانات والأرقام الدقيقة التي يمكن التصنيف على أساسها والانطلاق منها الى التحسين.