أفضل وصف لقمة الأرض الثانية في جوهانسبورغ هو "حوار الطرشان". فبعد سنوات عشر على قمة ريو دي جانيرو حول البيئة والتنمية، لم يتوصل العالم الى لغة واحدة للتفاهم. قمة ريو وضعت "جدول الأعمال للقرن الحادي والعشرين"، وتركت للمجتمعين في قمة التنمية المستدامة في جنوب افريقيا، بعد عقد من الزمن، إجراء تقييم لما تم تحقيقه والاتفاق على خطة عمل محددة للسنوات المقبلة. غير أن مداولات جوهانسبورغ دخلت في حلقة مفرغة. فأولوية "الحرب على الارهاب" التي تقودها أميركا وضعت الحرب على الفقر في درجة متأخرة من الأهمية. وتسللت الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات من هذا الباب لتفرض جدول أعمالها على الدول والمنظمات الدولية، وتتملص من أية قيود جدية على نشاطاتها عبر الحدود.
في مسودات الخطة التنفيذية والاعلان السياسي لقمة جوهانسبورغ دعوة الى زيادة المساعدات الانمائية الخارجية لتصل الى نسبة 0,7 في المئة من الناتج المحلي للدول الصناعية. قمة ريو كانت قد دعت أيضاً الى تحقيق هذا الهدف، الذي أقرته الأمم المتحدة قبل عقود. غير أنه حين عقدت قمة الأرض الأولى في ريو سنة 1992، كانت نسبة المساعدات الانمائية الخارجية 0,3 في المئة من الدخل القومي، ففقدت الثلث خلال عشر سنوات لتصل اليوم الى 0,2 في المئة، بدل أن ترتفع الى 0,7 في المئة. وأكد تقرير أصدره الصندوق العالمي للطبيعة في مناسبة القمة، أن أنماط التنمية التي سادت بعد قمة ريو استمرت في الاتجاه التدميري للموارد، بحيث أننا سنحتاج سنة 2050 الى كوكب آخر بمساحة الأرض لتلبية حاجات تسعة بلايين شخص بحلول منتصف القرن. ولا تقل تقديرات برنامج الأمم المتحدة للبيئة تشاؤماً، إذ تتوقع حصول الكارثة سنة 2032.
القمة استمرار لحوار الطرشان. فالدول الغربية تطالب الدول النامية بتطوير أنظمة الحكم وتأمين الشفافية والمشاركة الشعبية ومكافحة الفساد كشرط لحصولها على مساعدات، بينما تعتبر الدول النامية هذا تدخلاً في شؤونها الخاصة وتطالب بالمساعدات بلا شروط. وفي حين قد تحمل مطالبة أوروبا الدول النامية بحماية حقوق الانسان بعض الصدقية، يبدو أن الولايات المتحدة غير مستعدة لزيادة مساعداتها، بحقوق انسان ومكافحة فساد أو من دونهما. أما إلغاء ديون الدول النامية أو تخفيضها، فلا وجود له على طاولة البحث في القمة. وقد كان التوجه الأميركي واضحاً في إحالة قضايا الديون والتجارة والاقتصاد على منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي. فكأن قمة جوهانسبورغ تسلية للفقراء، بينما القرارات الكبرى تتخذ وراء أبواب مغلقة في لقاءات لا يدخلها إلاّ المصطفون.
والمفارقة أن الولايات المتحدة تحاضر في مكافحة الفساد، وسط أكبر الفضائح التي تجتاح كبريات الشركات الأميركية، وتطال الحكام بمن فيهم الرئيس ونائبه. وقد علق الرئيس الكيني دانيال آراب موي بأن تهمة الفساد التي يلصقها الغرب بافريقيا لا تتعدى التسلية بالفتات، بينما الغرب يمارس أكثر أنواع الفساد التكنولوجي تطوراً. ولكن المفارقة أيضاً الحساسية الشديدة التي تبديها الدول النامية تجاه مسألتي الحكم السليم ومكافحة الفساد، متذرعة بمطالبة الغرب بهما لاعطائهما صفة المؤامرة، بينما هي ترفضهما في الغالب حفاظاً على ديمومة مواقع أصحاب السلطة. ومن أطرف ما وزع في زوايا القمة ورقة عن "الحكمية" أو الحكم السليم، أعدها المكتب العربي لاحدى المنظمات الدولية، تجنبت الدخول في جوهر الموضوع لبحث أساليب الادارة المتكاملة لضمان النوعية في أنظمة الحكم، فعرضت لمفاهيم وتعريفات عامة، انطلقت قبل أربعة آلاف سنة في شريعة حمورابي وتبلورت قبل مئتي سنة في الثورة الفرنسية.
بعد عشرات الاجتماعات التحضيرية، بدأت القمة على خلفية خلافات شملت ربع الخطة التنفيذية المعدة لها، والمؤلفة من 153 بنداً. وتتسع الخلافات الى ما بين 85 و93 في المئة في أمور العولمة والحكم والتمويل والتجارة. وتتضح كثيراً في رفض الدول الصناعية عامة، والولايات المتحدة خاصة، الالتزام بأرقام محددة وجدول زمني. وفي حين تبشر هذه الدول بحرية التبادل التجاري وفتح الأسواق، ما زالت ترفض إلغاء الدعم على بعض منتجاتها، الزراعية خاصة، وتضع رسوماً عالية على استيراد المنتجات الزراعية من الدول النامية، مما يعيق التنافس الحر ويشكل تطبيقاً انتقائياً لمبدأ السوق المفتوحة. وتظهر أرقام البنك الدولي حجم الأضرار التي تسببها الحواجز على صادرات الدول النامية الى أسواق الدول الصناعية. فالدول الصناعية تنفق ما يزيد على 300 بليون دولار سنوياً في دعم الزراعة، أي ما يعادل الناتج القومي الاجمالي لكل الدول الافريقية جنوب الصحراء. وتزيد الرسوم الجمركية على اللحوم والفواكه والخضر من الدول النامية الى الدول الصناعية عن مئة في المئة. وهكذا، فان الحديث عن التنمية المتوازنة وتخفيف وطأة الديون عن الدول النامية، من دون فتح الأسواق لمنتجاتها في الدول الصناعية، يبقى ضرباً من العبث.
ومن المفارقات أن جنوب افريقيا، وهي البلد المضيف، قادت حملة لتقريب وجهات النظر ومحاولة تأمين قدر من النجاح للقمة، في ظل شبه غياب للمبادرات الغربية. والعلامة الفارقة كانت تصريحات أدلى بها وزير الخارجية الدانماركي، الذي تتولى بلاده رئاسة الاتحاد الاوروبي، دعا فيها الى وجوب تضمين الخطة التنفيذية للقمة أهدافاً محددة وجدولاً زمنياً قابلاً للتطبيق حول شؤون الماء والطاقة المتجددة والصحة والزراعة والتنوع البيولوجي، التي حدّدتها وثائق القمة كمواضيع ذات أولوية. أميركا تصر على التراجع عن التزاماتها المبدئية في ريو، إذ تؤكد على وجوب تحميل الدول الفقيرة عبئاً متساوياً في معالجة التدهور البيئي العالمي. وهذا يعني ابقاءها في حال الفقر والتخلف. وفوق هذا، يعارض الأميركان الالتزام بأية أهداف انمائية جديدة يستفيد منها العالم النامي، مع أنهم وعدوا في مؤتمر مونتيري الاقتصادي بزيادة المساعدات. وتحاول أوروبا من جهتها التملص من الالتزام بميزانيات محددة لمواضيع الأولوية الخمسة، وتضعها جميعاً تحت عنوان عام هو محاربة الفقر.
يتساءل المندوبون في أروقة قمة الأرض الثانية: ماذا تغيّر منذ قمة الأرض الأولى، وهل يمكن للعولمة أن تعمل لمصلحة الفقراء؟ يجيب منظّرو العولمة أن السنوات العشر بعد ريو شهدت انتصارات مبينة تثبت قوة اقتصاد السوق. فقد ارتفع الانتاج العالمي بنسبة خمسين في المئة، يقوده عاملا التجارة والاستثمار. غير أن الحقيقة هي أن ثلث التجارة العالمية انتقل بين فروع لشركات متعددة الجنسية، وأنه من بين أكبر مئة كيان اقتصادي في العالم، بما فيها الدول، هناك 51 شركة ضخمة مسيطرة. أما الأسعار الحقيقية للمواد الأساسية التي تنتجها الدول النامية، بما فيها الغذاء والمواد الأولية والبترول، فقد انخفضت بمعدل 50 في المئة خلال السنوات العشرين الماضية. وارتفع الدين الخارجي للدول النامية من 90 بليون دولار سنة 1970 الى 2000 بليون دولار في نهاية القرن العشرين. وما زال 35 ألف طفل يموتون يومياً بأمراض يمكن الوقاية منها. ويعيش بليون شخص اليوم في فقر مدقع على أقل من دولار واحد يومياً، بينما لا يتجاوز دخل ثلاثة بلايين شخص الدولارين في اليوم. إذاً لم يحصل تحسن حقيقي في وضع الفقراء منذ قمة الأرض الأولى، رغم زيادة حجم الانتاج العالمي، وما زال 15 في المئة من سكان العالم يسيطرن على أربعة أخماس ثروات الأرض. وفي اللغة التي يحبها الاقتصاديون، تدهور الدخل الفردي في معظم الدول النامية خلال عقدي العولمة الظالمة الأخيرين. لقد ارتفع دخل الفرد في أميركا اللاتينية بنسبة 75 في المئة بين 1960 و1980، في حين لم يتجاوز نموه 7 في المئة بين 1980 و2000. وفي افريقيا، ارتفع معدل دخل الفرد بنسبة 36 في المئة بين 1960 و1980، بينما تراجع في العقدين الأخيرين بنسبة 15 في المئة. وفي الواقع، فإن الكثير من قوانين منظمة التجارة العالمية، التي وضعتها الدول الصناعية لحماية مصالحها، تتناقض مع المبادئ التي أقرتها قمة ريو ومع نظريات قمة جوهانسبورغ.
أما الالتزام بتطبيق معاهدة تغير المناخ وبروتوكول كيوتو تحديداً، فموضوع غيبته الولايات المتحدة عن القمة، ومشت كندا واوستراليا معها في معارضة أي نص يدعو الى تطبيق المعاهدات الدولية. وفي الاطار نفسه، انزلت الشركات الكبرى الى أروقة القمة وغرفها المغلقة جيوشاً من المستشارين وخبراء العلاقات العامة، لعرقلة أية تدابير لمحاسبة الشركات المتعددة الجنسية على ممارساتها المخلة بيئياً وصحياً، خاصة من خلال فروعها في الدول النامية. فغرفة التجارة العالمية، التي تقود حملة ترويجية لشعارات بيئية غير ملزمة، هي نفسها التي قادت حملة عالمية لعرقلة تطبيق اتفاقات دولية اعتبرتها مضرة بالمصالح التجارية لأعضائها، منها بروتوكول كيوتو حول تغير المناخ ومعاهدة بازل حول النفايات السامة ومعاهدة التنوع البيولوجي.
وتتخوف جمعيات بيئية دولية ومندوبو دول نامية الى القمة من أن تستخدم الشركات الكبرى منبر جوهانسبورغ لتمرير جدول أعمالها الخاص، الذي يتلخص بتوفير الحماية لتجارتها الدولية وإحكام سيطرتها على الاقتصاد العالمي، بدلاً من أن تكون فرصة لانتشال الفقراء من حال البؤس. ويطالب تجمع من هيئات البيئة والتنمية الأهلية بتغيير مسار العولمة لتعمل في مصلحة المجتمعات الفقيرة، وذلك عن طريق السعي إلى قرارات تصدر عن القمة تفرض على الشركات اعتماد تكنولوجيات غير مضرة بالطبيعة والصحة، وترفض جعل الموارد الطبيعية "ماركات مسجلة" لعدد ضئيل من الشركات الكبرى. وفي هذا المجال، تشهد المناقشات معارضة قوية من الشركات والدول الصناعية لحماية حقوق ملكية المجتمعات المحلية للموارد الطبيعية.
أما الحضور العربي الفعلي في قمة جوهانسبورغ، فيكاد ينحصر في مبادرة أبوظبي للمعلومات البيئية، التي تسعى دولة الامارات العربية المتحدة الى حشد التأييد الدولي لها. وتقوم المبادرة على إنشاء قاعدة معلومات واسعة للبيانات البيئية تساعد في تخطيط سياسات التنمية المستدامة. وأهميتها أنها تنطلق من دولة نامية، وتعمل على سد الفجوة في المعلومات بين الدول النامية والصناعية.
ويبدو أن الدول العربية لم تنتقل بعد من مفهوم رعاية البيئة الى مفهوم التنمية المستدامة، وهي موضوع القمة، الذي يفترض دمج الادارة البيئية كجزء أساسي في سياسات إنمائية متكاملة. وهذا يستدعي تنسيقاً دقيقاً بين الوزارات المعنية بالبيئة والتخطيط والاقتصاد، غاب عن معظم الوفود العربية. أما "الاعلان العربي حول التنمية المستدامة"، الذي وزعته جامعة الدول العربية وسمعنا أن القمة الأخيرة في بيروت أقرته، فلم يجد طريقه الى المداولات. فمع أنه يشتمل على مبادئ عامة جيدة، إلا أن الوزراء المعنيين لم يشاركوا في اعداده ولم يطلعوا عليه. وعلى الرغم من أن مقدمة الاعلان تشير الى أنه صدر عن "الوزراء العرب المسؤولين عن شؤون التنمية والتخطيط والبيئة المجتمعين في القاهرة..."، ففي الواقع لم يحضر هذا الاجتماع في تشرين الأول (اكتوبر) الماضي إلا بضعة وزراء بيئة، وغاب عنه وزراء التخطيط والاقتصاد والمال. ويبدو أن الاجتماع التنسيقي الذي دعا اليه أمين عام جامعة الدول العربية قبل أيام من القمة جاء متأخراً، ولم ينعكس موقفاً عربياً واضحاً في جوهانسبورغ. إلا أن إجتماع اللحظة الأخيرة هذا قرر اعتماد نص غامض عن التنمية المستدامة في المنطقة العربية لتقديمه كإحدى مبادرات "النوع الثاني"، لكنها جاءت استلحاقية وبصفة عمومية.
وكان تقرير "تقييم التقدم في المنطقة العربية"، الذي وزعته جامعة الدول العربية أيضاً، تكراراً لتقارير سابقة، حوى سرداً لمعلومات عامة، ولم يتضمن تقييماً فعلياً. فهو لم يتطرق بالتحليل والتقييم الى مشاريع وأحداث كانت ذات أثر كبير في مسيرة التنمية في العالم العربي خلال العقد الاخير، مثل النهر العظيم في ليبيا ومشروع توشكي الزراعي في مصر وبرامج الأمن الغذائي في بعض دول الخليج. ولم يبحث ظاهرة السحابة السوداء في مصر، كنموذج لتلوث الهواء في المنطقة، أو ظاهرة نفوق الاسماك في الكويت. كما لم يتطرق الى انجازات فعلية مشرّفة، مثل التجارب الناجحة في الحفاظ على الحياة الفطرية في الامارات والسعودية.
ويظهر الغياب العربي جلياً في "مبادرات الشراكة من النوع الثاني" التي قدمتها هيئات بيئية أهلية وحكومية حول العالم. هذه المبادرات مفتوحة للتمويل، خارج اطار المعاهدات الدولية، لمشاريع وبرامج تخدم أهداف التنمية المستدامة. وهي تغطي جملة مواضيع، منها الطاقة المتجددة وأنماط الاستهلاك والمياه العذبة والمحيطات وتلوث الهواء والغابات والصحة والتربية والبحث العلمي والتصحر والانذار المبكر من الكوارث. مئات الهيئات والوزارات ومراكز البحث العلمي، من الدول الصناعية والنامية، قدمت مشاريع للتمويل والشراكة، لم يكن بينها مشروع عربي واحد، حتى في مجالات ذات أهمية قصوى للمنطقة، مثل التصحر والمياه والكوارث. كم كان مناسباً أن تقدم هيئة عربية مشروعاً للانذار المبكر من كوارث ناقلات النفط، في منطقة تعبر شواطئها ناقلات نفط يفوق عددها قوارب النزهة، وبين المشاريع في هذا الاطار واحد من اليابان. وكم كان غريباً ألا تتقدم أية هيئة عربية بمشروع لأبحاث تحلية مياه البحر والزراعات الملحية، وعلى اللائحة برامج تقدمت بها هولندا وتنزانيا وألمانيا وسويسرا. أما مكافحة التصحر، فلم تتقدم لها برامج من الدول العربية، بل من إيطاليا وفرنسا.
ألم يكن أجدى أن تساعد المنظمات الدولية الدول العربية في تقديم برامج كهذه، بدل "المؤتمرات التحضيرية" التي عقدت خلال سنة، واستضافت كل مندوب، ولم تحل شيئاً؟ أما بعض الأوراق العربية العامة التي تم تداولها خلال السنة الماضية على أنها ستقدم الى قمة الأرض، فلا نجد لها أثراً في مسودات الوثيقتين الأساسيتين، أي "الخطة التنفيذية" و"الاعلان السياسي". وقد نجد نسخاً من الأوراق العربية على طاولات في أروقة القمة تنتظر من يتنبه الى وجودها ويهتم بقرائتها.
كل مجموعة من الدول تحاول الحصول على قطعة من كعكة المساعدات الانمائية المتناقصة، وتأمين مصالحها في أية اتفاقات دولية. وفي حين أن مجرد انعقاد القمة الدولية هو في ذاته اطار للوفاق، فان مؤشرات قمة جوهانسبورغ تدعو الى التخوّف من أن تشكل تراجعاً عن مبادئ قمة ريو وتضع المسامير في نعشها.