ثلاثون عاماً مضت على مؤتمر الأمم المتحدة لبيئة الانسان الذي عقد في استوكهولم في حزيران (يونيو) 1972، وعلى اصدار بيانه واقرار مبادئه وخطة عمله.
وعشرة أعوام انقضت على مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية، الذي عقد في ريو دي جانيرو في حزيران (يونيو) 1992 تحت عنوان " قمة الأرض"، وعلى اصدار خطة عمله المعروفة باسم "أجندة 21".
وفي خلال العشرين سنة بين استوكهولم وريو دي جانيرو، ازداد الوعي العام في العالم بالأخطار الناشئة عن تلوث البيئة والإضرار بها. وساهمت البحوث العلمية مساهمة كبيرة في فهمنا للعمليات المختلفة التي تحكم النظم البيئية وتؤثر فيها. وقد تحقق تقدم كبير في طرق وأدوات التحليل لرصد الملوثات وانتقالها وتفاعلاتها في شتى الأوساط وآثارها على صحة الانسان والبيئة. كذلك استخدمت النماذج الرياضية المختلفة للتعرف على احتمالات حدوث بعض التغيرات في النظم البيئية، مثل احتمالات تآكل طبقة الأوزون واحتمالات حدوث تغيرات مناخية نتيجة انبعاث غازات الاحتباس الحراري.
وبالتوازي مع هذا التقدم العلمي، كان هناك تطور كبير في تكنولوجيات ومعدات الحد من التلوث ومعالجة المخلفات المختلفة. وأدخل التعليم البيئي في جميع مراحل الدراسة. وقامت معظم دول العالم بانشاء أجهزة لحماية البيئة فيها، تحت مسميات ومستويات مختلفة. كما قامت بتعديل تشريعاتها البيئية وسن تشريعات جديدة. وانتشر الاعلام البيئي وعمل المنظمات غير الحكومية بدرجات متفاوتة.
وبالرغم من كل هذا، كان كشف الحساب الذي قدم الى قمة الأرض في 1992 عن أوضاع البيئة والموارد الطبيعية في العالم مزيجاً من إيجابيات قليلة، معظمها تحقق في الدول المتقدمة، وسلبيات كثيرة تفشى معظمها في الدول النامية. باختصار، كان هناك تدهور عام في النظم البيئية على المستوى العالمي في الفترة ما بين استوكهولم وريو دي جانيرو.
ووضعت آمال كثيرة على قمة الأرض، وعلى وعود الدول المتقدمة بمساعدة الدول النامية في التغلب على المشاكل البيئية المتفاقمة، وتنفيذ ما جاء في أجندة 21، أو جزء منه. لكن الوعود شيء والوفاء بها شيء آخر. وهكذا استمر التدهور البيئي على المستوى العالمي، كما أوضح تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة "GEO 3" الصادر في حزيران (يونيو) 2002، والذي خلص الى أن "التنمية المستدامة" التي نادت بها قمة الأرض لا تزال "فكرة نظرية"، وأنه بالرغم من زيادة الوعي بالمشاكل البيئية، فان ذلك لم يقابل بالعمل المناسب للتعامل معها.
وها نحن نقترب من عقد مؤتمر آخر للأمم المتحدة في آب (اغسطس) المقبل في جوهانسبورغ، هذه المرة تحت عنوان "القمة العالمية للتنمية المستدامة". ونحن لا نريد أن نسبق الأحداث، ولكن المؤشرات غير مشجعة.
أين نحن من كل هذا؟
لا شك في أن وعي الجماهير العربية بقضايا البيئة ازداد خلال الثلاثين عاماً الماضية بفضل وسائط الإعلام العالمي والاقليمي والوطني. ولكن ازداد قلقها أيضاً من استمرار التدهور البيئي. ففي استطلاع للرأي في 18 دولة عربية أجرته مجلة "البيئة والتنمية" ونشرت نتائجة فـي نيسان (ابريل) 2000، رأى 85% من المشاركين أن الاوضاع البيئية المحلية والوطنية في بلدانهم هي في حالة تدهور مستمر، واعتبر 95% منهم أن حكوماتهم هي المسؤولة عن ذلك.
فماذا تم؟
عقدت مئات المؤتمرات والندوات وورش العمل الاقليمية وتحت الاقليمية. وشكلت لجان بمختلف المسميات. وأصدرت بيانات وإعلانات وبرامج عمل مختلفة. وطرحت مبادرات. ولكن تبقى الفجوة كبيرة، وتتسع، بين القول والفعل. فكل الأماني التي تضمنتها البيانات والاعلانات، بكلمات منمقة، لم يترجم معظمها الى واقع عملي ملموس لحماية البيئة العربية من التدهور المتزايد. ولندع جانباً السير في طريق تحقيق تنمية مستدامة.
الدليل على ذلك، والأدلة كثيرة، ما جاء في تقرير "مستقبل العمل البيئي في الوطن العربي" الذي أقره مجلس الوزراء العرب المسئوولين عن شؤون البيئة خلال اجتماعه في ابوظبي، في شباط (فبراير) 2001. ففي حين يذكر التقرير أن العمل البيئي في المنطقة العربية تطور تطوراً كبيراً خلال العقدين الماضيين، وأن ذلك شمل النواحي المختلفة من الترتيبات المؤسسية والقوانين البيئية واستراتيجيات وخطط العمل البيئي ونقل التكنولوجيا الملائمة بيئياً وزيادة الوعي البيئي والتعليم والمعلومات والانضمام للاتفاقيات الدولية وتنفيذها، الا أن التقرير لم يشر الى حجم الانجازات الفعلية في حماية البيئة وصون الموارد الطبيعية المحدودة، بل يوضح، مثلاً، أن:
· هناك عدد كبير من المؤسسات البيئية التي أنشئت يفتقر الى العناصر البشرية الفاعلة او الموارد المادية الكافية لتحقيق الأهداف المنشودة، مما يؤدي الى صعوبة تنفيذ السياسات البيئية وضعف القدرة على تنفيذ قوانين البيئة. كما أن دور المؤسسات البيئية الرئيسي هو دور تنسيقي أكثر مما هو تنفيذي.
· صدر في دول المنطقة العديد من قوانين البيئة. غير أن الصورة العامة تشير الى أن القوانين البيئية في العديد من الدول العربية ما زالت مجزأة، ولا تشدد بصورة واضحة على ضرورة تطبيق مبادئ الادارة البيئية السليمة في استخدام الموارد.
· أدخلت في بعض الدول العربية تكنولوجيات لاقلال النفايات وتدويرها وترشيد استخدام الطاقة والاستخدام الأكفأ للمياه. غير أن معظم دول المنطقة لم تستخدم التكنولوجيات الحديثة في الزراعة والري وفي الحد من تلوث الهواء، لعدم توافر الموارد المالية وصعوبة الحصول على هذه التكنولوجيات وضعف التطبيق الاجبارى للمعايير القياسية.
· أصبح هناك اطار أفضل لمشاركة المجتمع المدني في العمل البيئي في معظم دول المنطقة. غير أن دور المنظمات غير الحكومية لا يزال ضعيفاً رغم تعددها وتشعب أنشطتها.
· هناك عدة مؤسسات اقليمية وتحت اقليمية تهتم بالعمل البيئي في المنطقة العربية. غير أن التنسيق والتعاون بين هذه المؤسسات ما زال ضعيفاً، كما أن بعض المؤسسات يعاني من ضعف الموارد البشرية والمادية.
إذأ، ببساطة، نحن نركض واقفين... ونلهث.
أي "تقييم" وأي "تقدم" تتحدثون عنه ؟
التقرير الرسمي الذي أعده مجلس الوزراء العرب المسؤولين عن شؤون البيئة، بالاشتراك مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة واللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) بعنوان "تقرير تقييم التقدم في المنطقة العربية"، والذي سيقدم الى القمة العالمية للتنمية المستدامة في جوهانسبورغ، يتطلب وقفة مصارحة طويلة.
فالتقرير لا يحتوي على أي "تقييم"، ولا على اي مؤشرات للـ "تقدم" في حماية البيئة وصون الموارد الطبيعية في المنطقة العربية.
التقرير عبارة عن تكرار مختصر، ومعيب أحياناً، للوضع الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة العربية، من واقع تقارير نشرت من قبل. ولم يتعرض لا للتنمية المستدامة ولا لآفاقها في المنطقة العربية. كما لم يتناول أي تقييم للأوضاع البيئية الراهنة، أو يستعرض ما نفذ من توصيات في أجندة 21، أو من محاور وبرامج العمل العربي للتنمية المستدامة التي أقرها مجلس الوزراء العرب نفسه في تشرين الأول (اكتوبر) 1992.
أليست المشروعات العربية العملاقة، مثل النهر الأعظم في ليبيا ومشروعات الثورة الخضراء في السعودية ومشروع توشكي في مصر، جديرة بالعرض والتحليل في تقرير عربي رسمي يقدم الى القمة العالمية للتنمية المستدامة؟
أليست ظاهرة "السحابة السوداء" التي ظللت سماء القاهرة في خريف أعوام ثلاثة متتالية، لأول مرة في التاريخ، حدثاً جديراً بالطرح والمناقشة، بعد أن تناولته وسائل الاعلام العالمي كمؤشر لحدة تلوث الهواء في بلد عربي؟
أليست الانجازات العربية في حماية البيئة البرية في الامارات العربية المتحدة وعمان والسعودية وغيرها جديرة بالعرض والتقييم؟
لماذا لا نرى الأمور كما هي؟
هذه أحوالنا البيئية
تبلغ المساحة الإجمالية للمنطقة العربية نحو 14 مليون كيلومتر مربع (1400 مليون هكتار) تمتد من ساحل المحيط الأطلسي في الغرب إلى الخليج العربي في الشرق، وتحتل الجزء الأكبر من الصحراء الأفريقية الآسيوية. وباستثناء المناطق الرطبة والمطيرة في المرتفعات الساحلية في بعض الدول، فإن المنطقة جزء من حزام الأراضي الجافة الذي يمتد عبر أفريقيا شمال خط الاستواء إلى غرب آسيا في شبه الجزيرة العربية وتخومها. ويقدر عدد سكان المنطقة العربية حالياً بنحو 290 مليوناً، ويتوقع أن يصل الى نحو 450 مليوناً سنة 2020 (بمعدل نمو سنوي 3% تقريباً). وإحدى السمات المشتركة للتوزيع السكاني تتمثل في ارتفاع نسبة سكان الحضر في معظم البلدان العربية، خاصة في البلدان المرتفعة الدخل، حيث تبلغ ما يزيد عن 80%. أما في الدول المتوسطة الدخل فتبلغ النسبة 50%، وفي الدول المنخفضة الدخل 30%. ومن المتوقع ارتفاع نسبة سكان الحضر في جميع دول المنطقة بحلول سنة 2020، وستكون معدلات الزيادة في الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل أعلى منها في الدول المرتفعة الدخل.
وبجانب التباين الجغرافي والسكانى بين الدول العربية، هناك أيضاً تباين كبير في الموارد الطبيعية المختلفة، وفي أنماط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي في الدخل ومستوى المعيشة والتنمية البشرية. ومن الطبيعي أن تؤثر كل هذه العوامل في الأوضاع البيئية، التي يختلف حجم مشكلاتها من دولة الى أخرى (وحتى من مكان الى آخر داخل الدولة نفسها).
تدهور التربة والتصحر
تقدر مساحة الأراضي المستغلة حالياً في الزراعة في المنطقة العربية بنحو 56 مليون هكتار (4% من المساحة الكلية تقريباً). أما المراعي الطبيعية فتقدر مساحتها بنحو 590 مليون هكتار (نحو 42% من المساحة الكلية)، في حين لا تبلغ مساحة الغابات والأراضي المشجرة سوى 6.6% من مساحة الأرض. وعلى رغم ندرة الأراضي الصالحة للزراعة، أدت الأنشطة غير الزراعية إلى فقدان مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية الجيدة. ففي مصر، مثلاً، تقدر مساحة الأرض الزراعية التي تفقد للتوسع العمراني والإنشاءات الأخرى بنحو 126 كيلومتراً مربعاً سنوياً. وفي الأردن كانت مساحة عمان تبلغ 20 كيلومتراً مربعاً في 1948، أما الآن فتزيد مساحتها عن 550 كيلومتراً مربعاً، وقد تم هذا التوسع على حساب المناطق الزراعية المحيطة بالمدينة. من ناحية أخرى، أدت السياسات والأنماط الزراعية الحديثة إلى آثار سلبية مختلفة على الأراضي، أبرزها تملُّح الأرض، وزيادة قلويتها، وتشبعها بالماء. وتختلف مساحات الأراضي الزراعية التي أصابها التدهور من بلد عربي إلى آخر. ففي مصر تقدر مساحة الأراضي الزراعية التي أصابها التملُّح بحوالى 35% من إجمالي مساحة الأراضي المزروعة. وفي سورية يعاني نحو 50% من الأراضي المروية في وادى الفرات من مشاكل التملُّح وتشبع التربة بالماء، وفي العراق ترتفع هذه النسبة إلى أكثر من 60% في الجزء الجنوبي من سهل الرافدين. ويؤدي هذا التدهور في التربة الزراعية الى خفض انتاجيتها، ويتفاقم في المناطق الجافة، خاصة مع تكرار موجات الجفاف، ليؤدي في النهاية الى فقدان الأرض لانتاجيتها وتحولها الى ارض صحراوية (ما يعرف بالتصحر). بالاضافة الى ذلك، ازداد تلوث الأرض في دول عربية كثيرة نتيجة لاستخدام كميات كبيرة من الكيماويات الزراعية (الأسمدة والمبيدات) اللازمة لادخال الحزم التكنولوجية الخاصة بتكثيف الزراعة. وقد أدى هذا أيضاً الى تلوث مياه المصارف الزراعية والمياه الجوفية في بعض المناطق.
من ناحية اخرى، بدأت انتاجية المراعي في عدد من الدول العربية في التدهور بسبب الرعي المفرط، والتوسع في الزراعة على حساب المراعي، وسوء الإدارة. فعلى سبيل المثال، فقدت سهوب العراق جزءاً كبيراً من نباتها الأصلي وأصبحت موئلاً لشجيرات لا تصلح كغذاء للحيوانات. وطرأت تغيرات مشابهة على المناطق الرعوية في شرق وجنوب سورية بسبب الرعي المفرط. وفي الأردن أدت الضغوط المتزايدة على المراعي إلى انخفاض واضح في إنتاجيتها. ولقد ساعدت موجات الجفاف التي اجتاحت اليمن والبلدان العربية في شمال وشرق أفريقيا على التدهور الشديد في حالة وإنتاجية مساحات كبيرة من المراعي.
مدى تدهور التربة والتصحر (بالمليون هكتار)
درجة التدهور والتصحر
|
الأراضي المطرية
|
الأراضي المروية
|
المراعي
|
ضعيف
متوسط
شديد
شديد جداً
|
12 (33%)
21 (59%)
2.7 (8%)
0.3 (0.5%)
|
6 (66.6%)
2.4 (27%)
0.5 (6%)
0.1 (1%)
|
112 (19%)
149 (25%)
329 (56%)
3 (0.5%)
|
الهجرة من الريف
أدى تدهور الأوضاع البيئية والاجتماعية والاقتصادية في المناطق الريفية الى ارتفاع معدلات الهجرة الى المناطق الحضرية، خاصة في الدول المتوسطة الدخل والأقل نمواً. وقد تدنت نوعية الحياة في الريف في معظم البلدان العربية لأسباب مختلفة، أهمها التركيز في برامج التنمية على حل مشاكل وحاجات المناطق الحضرية، وإهمال تخصيص الموارد الكافية لتنمية المناطق الريفية. وأدى التزايد السريع في معدلات الهجرة الريفية إلى ايجاد مشكلات اقتصادية واجتماعية وبيئية متنوعة في المناطق الحضرية، لأن البنية الأساسية واقتصاديات هذه المناطق في بعض البلدان العربية لم تتمكن من استيعاب هذه الزيادة. وفي غالبية الأحوال يستقر معظم من هاجروا من القرية إلى المدينة في المناطق الفقيرة المزدحمة بالسكان والمناطق الهامشية (التي يطلق عليها أحياناً المناطق العشوائية). وهذه المناطق – أو الجيوب – تشترك في عدة صفات، أهمها : الكثافة السكانية العالية والمكدسة في منازل دون المستوى، النقص في مياه الشرب وفي خدمات الصرف الصحي المناسبة، النقص في الطرق الممهدة، نقص عمليات جمع القمامة كلياً أو لدرجة كبيرة، نقص الخدمات العامة وخصوصاً الخدمات الطبية الأساسية والتعليمية والمواصلات، وانتشار البطالة والأمية. وجميعها تعكس تردي الأوضاع البيئية.
من ناحية اخرى، تجاوزت الهجرة من الريف الحدود الوطنية. فهناك هجرة من دولة عربية إلى أخرى، وهجرة من دول عربية إلى دول أجنبية (خاصة من المغرب العربي إلى أوروبا). وبالرغم من أن الدوافع الرئيسية للهجرة العربية خارج الحدود الوطنية هي أساساً دوافع اقتصادية، إلا أن من المؤكد أن العوامل البيئية، بما في ذلك تدهور إنتاجية الأراضي الزراعية وتردي الأوضاع في المناطق الريفية، تشكل أيضاً دافعاً قوياً لهذه الهجرة.
ومع أن الهجرة خارج الحدود الوطنية أدت إلى تحسين نوعية الحياة بالنسبة الى عدد كبير من الأشخاص، واعتبرت مصدراً هاماً للعملات الأجنبية، إلا أنها اوجدت مشاكل اجتماعية واقتصادية. فمثلاً، أدت هجرة العمالة الزراعية من المناطق الريفية في مصر إلى نقص مؤثر في هذه العمالة، ترتب عليه ارتفاع أجورها ارتفاعاً كبيراً. من جهة أخرى، تستقر اعداد كبيرة من العمالة العائدة خارج مواطنها الأصلية، في المناطق الحضرية، وهذا يؤدى إلى ايجاد تنافس حول الأعداد المحدودة من فرص العمل، مما يترتب عليه مشكلات اجتماعية واقتصادية مختلفة. وحتى إذا استقرت العمالة العائدة في موطنها الأصلي، فانها نادراً ما تزاول عملها الأصلي، أي فلاحة الأرض. فهناك أعداد كبيرة من المهاجرين العائدين آثروا استثمار مدخراتهم في أعمال اخرى غير فلاحة الأرض، مما ساعد على تحويل القرى من قرى منتجة الى قرى مستهلكة، تحاكي المدينة في أنماط الاستهلاك. وقد ادى هذا الى زيادة تعقيد عمليات التنمية والتعامل مع المشكلات البيئية المختلفة.
ندرة المياه وتلوثها
تعكس الظروف القاحلة السائدة في العالم العربي بصماتها على هياكل التصريف الطبيعي في أنحائه. فإذا ما استثنينا الأنهار الكبرى العابرة لأراضيه والتي تستمد مياهها في الأصل من مناطق غزيرة الأمطار خارج حدوده، فإن معظم أقطاره تفتقر بشكل عام إلى شبكات هيدروغرافية كبيرة ومستديمة الجريان. وهناك تباين واضح في حجم الموارد المائية المتاحة بين الأقطار العربية المختلفة التي يمكن تقسيمها إلى ثلاث مجموعات: أقطار فيها موارد مائية كافية للمستقبل القريب (العراق، السودان، موريتانيا، سورية، الجزائر، الصومال)، وأقطار قاربت حد الشح المائي (مصر، المغرب، عمان، لبنان)، وأقطار فيها شح مائي (تونس، ليبيا، الأردن، اليمن، السعودية، دول الخليج).
ولقد قدر أن متوسط نصيب الفرد من المياه المتجددة المتاحة كان نحو 1312 متراً مكعباً عام 1995، سوف ينخفض الى نحو 720 متراً مكعباً في 2020، وهو رقم أقل من حد الشح المائي الذي يقدر بـ 1000 متر مكعب للفرد في السنة. وفي الدول العربية التي لا تكفي فيها موارد المياه الطبيعية، تستعمل مصادر المياه غير التقليدية (تحلية مياه البحر، تدوير مياه الصرف) لتلبية جزء من حاجاتها. ويستخدم من كمية المياه المسحوبة من المصادر المختلفة في المنطقة العربية نحو 89% في الزراعة و6% في القطاع المنزلي والتجاري و5% في الصناعة.
وتعتبر قضية المياه في المنطقة العربية من القضايا المتشعبة والمعقدة. وغالباً ما يركز الاعلام على هذه القضية من الجوانب الاستراتيجية والسياسية المحلية والاقليمية، ولكنه لا يركز بالقدر نفسه على مدى كفاءة ادارة الموارد المائية المتاحة حالياً. فقد أوضحت الدراسات أن هناك فقداً في المياه المستخدمة في الري يصل الى 70% في بعض البلدان العربية، نتيجة استخدام الطرق التقليدية للري، والتسرب من قنوات المياه، وسوء ادارة المياه. كما ان هناك فقداً كبيراً في مياه الشرب، خاصة في المناطق الحضرية، يصل الى 40%، نتيجة التسرب من توصيلات المياه والاهمال وسوء الاستخدام.
وأدى السحب الزائد من مصادر المياه الجوفية إلى تدني مناسيب المياه في الخزانات الجوفية، مما اوجد مشاكل فنية واقتصادية لرفع المياه الى السطح. ففي السعودية، مثلاً، ارتفع الطلب على المياه من 2.4 بليون متر مكعب عام 1980 الى نحو 16 بليوناً عام 1995 نتيجة التوسع الكبير في زراعة القمح والخضر والفواكه، المدعومة من الحكومة، والتي تعتمد على المياه الجوفية. وقد قامت الحكومة مؤخراً بمراجعة سياساتها، وفرضت قيوداً على زراعة القمح والمحاصيل الأخرى، لحماية خزانات المياه الجوفية من الاستنزاف بعد ظهور مشاكل في عدد من المناطق. من ناحية اخرى، أدى السحب الزائد من خزانات المياه الجوفية القريبة من المناطق الساحلية الى تداخل المياه المالحة في هذه الخزانات، مما زاد من ملوحة المياه المسحوبة. فعلى سبيل المثال، ارتفعت ملوحة المياه الجوفية في سهل الجفارة في ليبيا والسهول الساحلية في رأس الخيمة والفجيرة في الإمارات العربية المتحدة ومواقع مختلفة في سواحل قطر والبحرين ومصر.
وعلى الرغم من ندرة المياه، تتعرض الانهار والمسطحات المائية في العديد من البلدان العربية للتلوث من مصادر مختلفة، أهمها الصرف الصناعي والصحي، كما هي الحال في العراق وسورية ومصر والسودان والمغرب. كذلك أصبح تلوث المياه الجوفية بالكيماويات الزراعية وغيرها ظاهرة آخذة في الانتشار في أماكن كثيرة من المنطقة العربية.
البيئة البحرية الساحلية
البيئة البحرية الساحلية من السمات البارزة في المنطقة العربية. فالسواحل العربية تمتد من المحيط الأطلسي إلى البحر المتوسط والبحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب والخليج العربي. ويقدر طول السواحل في المنطقة العربية بنحو 18.000 كيلومتر (تتراوح بين 26 كيلومتراً فقط في الأردن الى 3025 كيلومتراً في الصومال). وتتيح المناطق الساحلية وما يتصل بها من الرف القارئ المجال امام العديد من الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والترويحية المختلفة. وفي بعض الدول تعتبر المناطق الساحلية المركز الرئيسي لتجمع السكان.
وتتعرض المناطق الساحلية لإساءة الاستعمال. فهي تستقبل التصريفات المباشرة من الأنهار والمصارف والمجاري المختلفة، كما تستقبل مختلف الملوثات من السفن، بالاضافة الى عمليات الحفر والردم المتزايدة لبناء المنتجعات السياحية أو مد المستوطنات البشرية أو شبكات البنية الأساسية.
وتشترك الدول العربية في ثلاثة بحار اقليمية: البحر المتوسط، البحر الأحمر وخليج عدن، والخليج. ويعتبر المتوسط من أكثر بحار العالم الإقليمية تلوثاً، ومناطقه الساحلية الشمالية "الاوروبية"، أشد تلوثاً من تلك في الجنوب لكثافة التصنيع فيها. ومن الدول العربية، يتم في مصر صرف ما يزيد عن 16 بليون متر مكعب في السنة من الماء المحمل بالمخلفات الزراعية والصناعية والصرف الصحي إلى بحيرات شمال الدلتا المتصلة بالبحر المتوسط، مما أدى إلى تدهور بيئي شديد فيها وفي سواحل البحر القريبة منها. كذلك أدى صرف المخلفات السائلة في خليج أبوقير بجوار الإسكندرية إلى تدهور واضح في نوعية مياهه وفي الأحياء البحرية بصورة عامة. وفي سورية تتلوث السواحل بالنفط والمخلفات الصناعية في مناطق اللاذقية وبانياس وطرطوس. وفي تونس تلقي صناعة الفوسفات سنوياً بحوالى 3 ملايين طن من مادة الفوسفوجبس المتكونة في عمليات تصنيع حامض الفوسفوريك إلى البحر المتوسط في خليج قابس. وفي الجزائر تلقي الصناعات بمخلفاتها التي تحتوي على بعض العناصر الثقيلة والمركبات السامة في خليج أوران ومناطق عنابة والجزائر وغيرها. وفي المغرب يتم صرف المخلفات الصناعية في المحيط الأطلسي بين القنيطرة والدار البيضاء.
عام 1975، وقعت اتفاقية برشلونة لحماية بيئة البحر المتوسط. وفي 1976 تم توقيع بروتوكولين وانشاء مركز إقليمي لمكافحة التلوث بالنفط في مالطة في نطاق خطة عمل البحر المتوسط. وفي 1979، وضعت "الخطة الزرقاء" التي تستهدف الإدارة البيئية الطويلة الأجل للبحر المتوسط. وفي 1980 تم اعتماد بروتوكول حماية البحر المتوسط من التلوث من مصادر برية. وبالرغم من كل هذه الاتفاقيات، ما زال صرف المخلفات مستمراً في هذا البحر بطريقة مباشرة وغير مباشرة من جميع الدول المطلة عليه.
أما في الخليج العربي، فتتعرض البيئة البحرية لأشكال متنوعة من التلوث المباشر وغير المباشر، أهمها: النفط المتسرب أثناء عمليات التنقيب والإنتاج، والنفط والرواسب الناتجة من تشغيل السفن والناقلات، والمخلفات الناتجة من تنظيف خزانات الناقلات، ومياه التوازن الملوثة بالنفط أو بالمواد الأخرى التي يتم التخلص منها في الخليج قبل إعادة الشحن، ونفايات السفن والناقلات وأرصفة إنتاج النفط، ومخلفات المصانع الساحلية التي تلقى في مياه الخليج مباشرة أو تصرف عن طريق المجاري التي تصب في مياه الخليج، خاصة من الصناعات البتروكيميائية ومصافي النفط والصناعات الأخرى، وكذلك اعمال الحفر والردم. ولحماية بيئة الخليج العربي، اعتمدت الدول المطلة على الخليج عام 1978 خطة عمل عرفت باسم "خطة عمل الكويت". وبدأ العمل عام 1980 بالاتفاقية الإقليمية لحماية بيئة الخليج والبروتوكول الخاص بالتعاون الإقليمي لمكافحة التلوث بالنفط والمواد الضارة الأخرى في حالات الطوارئ. وقد بدأ العمل بالمنظمة الإقليمية لحماية البيئة البحرية في الخليج عام 1982. وفي 1988 تم توقيع بروتوكول لمكافحة التلوث من النشاطات البحرية. ولكن حالت الظروف الحربية والسياسية في المنطقة، بالإضافة إلى عدم وفرة الاعتمادات المالية، دون تنفيذ خطة العمل الإقليمية لحماية بيئة الخليج بدرجة تذكر.
وتعتبر بيئة البحر الأحمر من البيئات الحساسة. ففيها مساحات كبيرة من الشعاب المرجانية ومناطق مستنقعات المانغروف السوداء. والبحر الأحمر من الطرق البحرية المزدحمة، إذ تمر فيه نحو 20.000 سفينة وناقلة كل عام. وبخلاف البترول والصناعات البتروكيميائية واستخراج الفوسفات، لا توجد صناعات كثيرة حول حوض البحر الأحمر (هناك بعض المشروعات التي تدرس حالياً لاقامة مناطق صناعية على خليج السويس). ويعد التلوث بالزيت أهم أنواع التلوث في البحر الأحمر وخليج عدن، خاصة في منطقة خليج السويس الذي تلوثت شواطئه ببقع الزيت وكرات القار. ولحماية بيئة البحر الأحمر وخليج عدن، قامت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الأليكسو) بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة بحثّ الدول المعنية على اعتماد برنامج لحماية بيئة البحر الأحمر في "إعلان جدة" عام 1976. وفي 1981 وافقت الدول على خطة عمل لصون البيئة البحرية والمناطق الساحلية في البحر الأحمر وخليج عدن. وفي 1982 وافقت ست من دول المنطقة على الاتفاقية الإقليمية لحماية بيئة البحر الأحمر وخليج عدن وعلى بروتوكول مكافحة التلوث بالزيت. وأنشئت سكرتارية لبرنامج البحر الأحمر في جدة تتولى تنسيق تنفيذ برامج حماية البيئة البحرية فيه، ولكن التقدم في هذا الصدد محدود ومتواضع جداً.
التلوث الصناعي
تختلف نوعية وكميات الملوثات التي تصدر من الصناعة بحسب نوع الصناعة وحجم المصنع وعمره، والمواد الخام والطاقة المستعملة، والتكنولوجيات المستخدمة في العمليات الانتاجية، وتوافر الوسائل المختلفة للحد من التلوث وكفاءة تشغيلها. وبطبيعة الحال، تشكل المناطق الصناعية القديمة مراكز للتلوث الشديد، سواء في صورة انبعاثات في الهواء أو مخلفات سائلة أو صلبة يجب التخلص منها. ففي منطقتي حلوان وشبرا الخيمة في مصر، ترتفع معدلات تلوث الهواء لأن معظم الصناعات في هاتين المنطقتين قديمة ليس فيها وسائل للحد من ملوثات الهواء. ففي منطقة حلوان يصل المعدل السنوي لتركيز الجسيمات العالقة في الهواء الى نحو 850 ميكروغرام في المتر المكعب من الهواء، نتيجة للانبعاثات من مصانع الاسمنت المتركزة هناك. وفي منطقة شبرا الخيمة ترتفع تركيزات ثاني اوكسيد الكبريت في الهواء الى 200 ميكروغرام في المتر المكعب من الهواء. كذلك وجدت تركيزات مرتفعة للرصاص في الهواء نتيجة لانتشار مسابك الرصاص في المنطقة. وفي المناطق القريبة من الصناعات البترولية مثل معامل التكرير في الاسكندرية والسويس، وجدت مستويات مرتفعة من المركبات العضوية المختلفة. كذلك كانت مستويات ملوثات الهواء مرتفعة في منطقة الشعيبة الصناعية في الكويت رغم بعض الاجراءات التي اتخذت للحد من هذا التلوث.
أما في المناطق الصناعية الحديثة، مثل منطقتي الجبيل وينبع في السعودية، فتتخذ اجراءات مختلفة للحد من تلوث الهواء، بالاضافة الى برامج متقدمة لرصد التلوث ومراقبته. وتوضح بيانات رصد الهواء أن انبعاثات الملوثات الرئيسية ( ثاني اوكسيد الكبريت، كبريتيد الهيدروجين، أكاسيد النيتروجين، اول اوكسيد الكربون) لم تتجاوز المعايير الارشادية المعمول بها. اما تركيزات الجسيمات العالقة فوجد انها تختلف من موسم الى آخر طبقاً للظروف الجوية وارتفاعها وهذا أمر متوقع في المنطقة الصحراوية.
أرقام ومؤشرات عن البيئة في غرب آسيا
· 40% من الأراضى الزراعية متدهورة لزيادة الملوحة فيها.
· المياه الجوفية تتعرض للاستنزاف الشديد.
· انخفضت مساحات الغابات في لبنان نحو 60% في الفترة 1972-1994.
· مايزيد عن 70 نوعاً من الثدييات والطيور والزواحف والأسماك مهددة بالانقراض.
· انخفض الانتاج السمكي بنحو 50% خلال الثلاثين عاماً الماضية.
· تركيزات ملوثات الهواء الشائعة في المدن الرئيسية والمناطق الصناعية أعلى من معايير منظمة الصحة العالمية.
· صناعة الاسمنت مسؤولة عن أكثر من 70% من التلوث الصناعى في لبنان.
· الخسائر الاقتصادية للآثار الصحية لتلوث الهواء في سورية تقدر بنحو 188 مليون دولار سنوياً.
· الضباب الحمضى (الشابورة) يتكون صباحاً في بعض المناطق الصناعية في الخليج نتيجة تشبع بخار الماء بانبعاثات أكاسيد الكبريت.
· التلوث العابر للحدود الوطنية ظاهرة آخذة في الازدياد في دول الخليج.
· انبعاثات ثاني اوكسيد الكربون ارتفعت من 4.7 طن/فرد/سنة في 1972 الى 7.4 في 1998.
· مساحة المانغروف على سواحل الخليج تناقصت بنحو 50% خلال الثلاثين عاما الماضية.
المصدر : "GEO 3" برنامج الأمم المتحدة للبيئة (2002) وعصام الحناوي
|
من ناحية اخرى، تصدر الصناعة بلايين الأمتار المكعبة من المخلفات السائلة يومياً، تختلف في حجمها وتركيبها من صناعة الى اخرى. وقد أدى صرف هذه المخلفات الصناعية، من دون معالجة، الى الحاق الأضرار بالبحيرات والأنهار والمناطق الساحلية التي تصرف فيها. كذلك أدى صرفها على الأرض او في الآبار الى تلوث خزانات المياه الجوفية في بعض المناطق. ففي الأردن، في منطقة عمان مثلاً، تصرف بعض الصناعات مخلفاتها في حوض سيل الزرقاء الذي يصب في سد الملك طلال، الذي يعتبر المصدر الرئيسي لمياه الري في منطقة وادي الأردن. وتحتوي هذه المخلفات الصناعية على عدد من الملوثات الخطرة مثل المعادن الثقيلة. وفي سورية تصرف المخلفات السائلة من عدة مصانع في انهار الفرات والعاصي وبردى. ويعتبر نهر العاصي في سورية من الأنهار الأكثر تلوثاً فيها، حيث يتم صرف ما يقرب من 45.000 متر مكعب من مخلفات صناعة البتروكيميائيات والكيميائيات فيه كل يوم. وفي المغرب تصرف مخلفات المصانع السائلة في نهر سيبو، حيث بلغت أحمال التلوث بالعناصر الثقيلة اكثر من 10.000 طن سنوياً تحتوي على عدد من المركبات السامة مثل الكرومات من صناعة دباغة الجلود.
وتختلف تقديرات المخلفات الصلبة والخطرة الناتجة من الصناعات المختلفة في الدول العربية. وفي عمليات انتاج النفط وتخزينه ونقله تنتج مخلفات شبه صلبة (الحمأة الزيتية) بكميات كبيرة. وقد قدرت كميات هذه الحمأة في منطقة الخليج بحوالى 970.000 طن سنوياً، يتم التخلص منها باستخدام بعضها في عمليات تنشيط التربة (Land Farming)، أو حرقها في حفر ينتج عنها تلوث شديد للهواء بأكاسيد الكبريت والدخان والهيدروكربونات. أما بالنسبة الى الصناعات التحويلية فتتراوح المخلفات الصلبة المتولدة عنها من تلك التي يمكن الافادة منها بتصنيع بعض محتوياتها (مثل مخلفات الصناعات الغذائية) الى تلك التي يجب التخلص منها بطرق آمنة (مثل المخلفات الخطرة المتولدة من الصناعات الكيماوية). ولا توجد تقديرات مفصلة عن المخلفات الخطرة في معظم الدول العربية، ولكنها تتراوح من 600 طن سنوياً في الأردن الى أكثر من 250.000 طن سنوياً في السعودية ومصر.
مشكلات المناطق الحضرية
المدن في المنطقة العربية توفر اقتصاديات متعددة تسمح بازدهار وتنوع الصناعة والتجارة وخلق فرص العمل، وبتوفير الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية المختلفة. ولكن الزيادة غير المخططة وغير المنظمة في حجم المدن أوجدت مشكلات اقتصادية واجتماعية وبيئية متنوعة، تراكمت وتعاظمت في بعضها، مثل القاهرة، حتى أصبحت مدناً "خارج السيطرة". لقد سبق أن أشرنا الى نوعية الحياة وحالة البيئة في المناطق الهامشية او العشوائية في المدن، واضافة الى ذلك، التغطية بمياه الشرب تتفاوت بين المدن المختلفة، فهي 100% تقريباً في مدن الدول المرتفعة الدخل، لكنها تتراوح بين 80 و90% في مدن الدول المتوسطة الدخل، وأقل من ذلك في مدن الدول المنخفضة الدخل. أما الصرف الصحي، فلا تتعدى نسبة تغطيته في مدن الدول المتوسطة الدخل 40%. وتعاني المدن العربية من تلوث الهواء والضوضاء بدرجات متفاوتة طبقاً لحجمها وحجم حركة النقل فيها. وتعتبر القاهرة أكثر المدن العربية تلوثاً. من جهة اخرى، تعاني المناطق الحضرية في الدول العربية من مشكلات ادارة المخلفات البلدية الصلبة (مخلفات المنازل والمحال التجارية والورش والمنشآت المختلفة). ويقدر متوسط كمية هذه المخلفات المتولدة في المدن العربية بنحو 175.000 طن يومياً، أو 64 مليون طن سنوياً، من المتوقع أن تصل الى 165 مليون طن بحلول سنة 2020.
ماذا الآن؟
كانت تلك نظرة سريعة على أهم القضايا البيئية في المنطقة العربية. وهي قضايا تُركت فتراكمت وتفاقمت مشاكلها في بعض البلدان. ولقد وصلت المنطقة العربية الى مرحلة حرجة تتطلب اعادة نظر في السياسات والبرامج البيئية على المستوى الاقليمي وتحت الاقليمي والوطني.
تقدر الخسارة السنوية للتدهور البيئي في المنطقة العربية بنحو 15 بليون دولار (او نحو 3% من الناتج المحلي الاجمالي). وهناك بعض الدراسات التي تقدر الخسارة بضعفي هذا الرقم. أما تكاليف اصلاح أحوال البيئة وحمايتها فتقدر بنحو 5 بلايين دولار سنوياً، أي ان كل دولار يستثمر في حماية البيئة له عائد يقدر بما لا يقل عن 3 دولارات.
إن الادارة السليمة لأمور البيئة تتطلب :
· ان يكون هناك هدف او اهداف مرغوب فيها ومطلوب تحقيقها، وتكون هذه الرغبة وهذا الطلب موضع اجماع او اغلبية وطنية مقتنعة بهما وعلى استعداد للمشاركة في العمل من اجلهما.
· ان يكون هذا الهدف واضحاً محدداً، لأنه ليس هناك أخطر من الرؤى الغائمة التي لا ترى لنفسها مقصداً تركز بصرها عليه باستمرار.
· ان تكون لهذا الهدف امكانية فعلية تسمح بتحقيقه. فلا فائدة من أهداف توضع اذا كانت الوسائل والأدوات الضرورية لنوالها ليست موجودة وليست محتملة.
ان من يبغي الاصلاح يجد أمامه خيارين رئيسيين: خيار المهادنة الذي يحاول التهوين من حجم المشاكل البيئية والاستعانة عليها بالمهدئات والمسكنات، وخيار المواجهة الذي يدرس الأوضاع بصورة متعمقة ثم يحاول اقتلاع جذور المشاكل ووضع اسس جديدة للاستمرار.
الخيار الأول هو خيار سهل في الزمن القصير. وهو، تبعاً لذلك، أكثر جاذبية للحكومات والسياسين. لكنه يترك المشاكل بغير حلول حقيقية، بل يساهم في مضاعفتها وزيادة تعقيدها في المستقبل. أما الخيار الثاني فهو الأصعب، ولكنه السبيل الحقيقي للاصلاح. وكثيراً ما يؤدي اتباع الخيار الأول الى تفاقم الوضع بالتدريج حتى لا يبقى هناك خيار في الواقع سوى المواجهة غير المخطط لها والتي تكون تكاليفها الاقتصادية والاجتماعية، عندئذ، أفدح بكثير مما لو كانت قد اتبعت بشجاعة طريقاً للاصلاح في وقت مبكر.
السيناريوهات "الذكيـــة"
توقعات البيئة العالمية GEO1 وGEO2 وgeo3، التي أصدرها برنامج الأمم المتحدة للبيئة في الاعوام 1997 و1999 و2002، على التوالي، تكرار لسرد القضايا البيئية العالمية والاقليمية ذاتها. فلم يحاول اي من هذه التقارير أن يقدم لنا تقييماً للتقدم أو التأخر في التعامل مع قضايا البيئة المختلفة، او التغيرات التي حدثت، خاصة على المستوى الاقليمي.
ومن المثير للدهشة أن تقدم لنا التقارير الثلاثة كوكتيلاً من السيناريوهات العشوائية التي يصعب على القارئ تتبعها من تقرير الى آخر. فأحد التقارير يقدم لنا سيناريوهات لسنة 2015 واخرى لسنة 2050 وتقرير ثان يقدم سيناريوهات لسنة 2030. وأخيراً، يقدم لنا "GEO3" اربعة من السيناريوهات "الذكية" يرسم معها توقعات حالة البيئة العالمية والاقليمية بحلول 2032.
السيناريو الأول: "سيناريو السوق أولا" تغلب فيه قوى السوق على أية اعتبارات اخرى (ولمَ لا ونحن الآن نتحدث عن عولمة لا نعرف هويتها، وعن تجارة عالمية حرة هي في الواقع ليست حرة، وعن حركة رؤوس أموال غامضة، واستثمار لا يسعى الا الى تحقيق الربح السريع).
السيناريو الثاني: "سيناريو السياسة أولا" يفترض فيه أن الحكومات- كل الحكومات – وضعت سياسات لإتخاذ اجراءات فعالة لتحقيق أهداف اجتماعية وبيئية محددة (لم يوضح لنا التقرير أية حكومة فعلت هذا).
السيناريو الثالث: "سيناريو الأمن أولا" يعترف بوجود فوارق اجتماعية واقتصادية وبيئية كبيرة في العالم ونزاعات مختلفة (اي انه أقرب ما يكون الى عالمنا المعاصر، ومن غير المعروف لماذا سمي بسيناريو "الأمن"، ربما تمشياً مع موضة ما بعد 11 أيلول / سبتمبر).
السيناريو الرابع: "سيناريو الاستدامة أولا" يفترض فيه أن دول العالم سوف تتبع نظاماً عالمياً جديداً تحدث فيه تغيرات جذرية في سياساتها ومؤسساتها لمواجهة تحديات استدامة التنمية (اي سيناريو نظري بحت).
هذه السيناريوهات "الذكية" هي أشبه بسيناريوهات المسلسلات التلفزيونية التي لا تخلو من اللمسات الدرامية والكوميدية، أكثر من كونها سيناريوهات علمية واقعية، مبنية على استشراف اتجاهات ومعايير كمية محددة ليستفيد من نتائجها المهتمون بشؤون البيئة والتنمية، وصانعو القرارات.
ماذا قالت هذه السيناريوهات "الذكية" عن أوضاع البيئة في منطقة غرب آسيا سنة 2032؟
· سوف تزداد مساحة الأرض المستخدمة للمباني والمنشآت من 1.8% من المساحة الكلية للأرض حالياً الى 3-4%.
· مساحة الأرض التي تتدهور بسبب الآثار الجانبية للري سوف تزداد من 6% حالياً الى 7-9%.
· نسبة الأرض الزراعية المتدهورة سوف تزداد بنحو 7% عما هي الآن.
· سوف تزداد نسبة السكان الذين يعيشون في شح مائي من 80% الى 100%.
· سوف تزداد الانبعاثات من حرق الوقود (النيتروجين سوف يزداد من مليون طن حالياً الى نحو 1.5 ـ 2.5 مليون طن).
واذا ما تركنا الأخطاء المتعددة جانباً (مثل اضافة تركيا وايران وأفغانستان الى دول غرب آسيا في بعض الرسومات، مما يؤدي الى استشراف خاطئ للمنطقة)، توضح لنا السيناريوهات "الذكية" ان الأوضاع البيئية في غرب آسيا ستستمر في التدهور لا محالة...
معنى هذا، إذاً، هو اننا في حاجة الى سيناريوهات علمية واقعية بديلة أكثر"ذكاء" من سيناريوهات برنامج الأمم المتحدة للبيئة الواردة في "GEO3".
|
رويداً، رويداً، يا منتدى دافوس
المنتدى الاقتصادي العالمي (المعروف باسم منتدى دافوس) اكتسب شهرته العالمية من تناوله بالتحليل القضايا الاقتصادية العالمية واصداره لتقرير "التنافسية" الذي يضع ترتيباً للدول حسب قدراتها في التنافس الاقتصادي. ومؤخراً أضاف المنتدى الى نشاطه التقليدي بعض القضايا الأخرى مثل الفجوة الرقمية والبيئة.
ففي العام 2001 اصدر المنتدى، بالاشتراك مع جامعتي يال وكولومبيا الأميركيتين، تقريراً عن "دليل الاستدامة البيئية"، تم فيه ترتيب 122 دولة طبقاً لدليل تم تقديره من 22 مؤشراً، يتكون كل منها من 2 ـ 6 متغيرات (اجمالي 67 متغيراً). وقد أثار الدليل وقتئذ جدلاً وعدداً من الاعتراضات العلمية، واعترف القائمون على اعداد التقرير بعدم توفر بيانات كثيرة للمتغيرات المختلفة المستخدمة، واعتمادهم على "تقدير" تلك البيانات. وأوضحوا أن التقرير هو "عمل في مرحلة تقدم"، يجري ادخال تعديلات عليه.
وفي شباط (فبراير) 2002 أصدر منتدى دافوس تقريره الثاني عن دليل الاستدامة البيئية، تضمن هذه المرة 142 دولة تم ترتيبها طبقاً للدليل الذي تم تقديره من 20 مؤشراً، كل منها يتكون من 2 ـ 8 متغيرات(اي اجمالي 68 متغيراً). وبعد اصدار التقرير اكتشفت فيه أخطاء حسابية استدعت تصويبه واعادة اصداره في آذار (مارس) 2002. وطبقاً للاصدار الأخير، احتلت الدول الخمس الآتية مركز الصدارة بالنسبة للاستدامة البيئية: فنلندا، النروج، السويد، كندا، سويسرا. أما الدول الخمس التي احتلت المكان الأخير فهي: السعودية، العراق، كوريا الشمالية، الامارات العربية المتحدة، الكويت.
بغض النظر عن صعود أو هبوط هذه الدولة، أو تلك، على سلم الاستدامة البيئية لمنتدى دافوس، هناك عدة أسباب علمية تدعونا لننظر الى دليل الاستدامة البيئية بحذر شديد، أهمها:
·الدليل تم تقديره من 20 مؤشراً تعتمد على 68 متغيراً لا تتوافر عن معظمها بيانات. فمثلاً، في حساب مؤشر نوعية الهواء اعترف التقرير بأن 81 دولة من 142 لم تتوافر عنها بيانات. وفي مؤشر نوعية المياه ذكر أن 73 دولة لم تتوفر عنها بيانات.
·اعتمد التقرير على " تقدير" المتغيرات التي لم تتوافر عنها بيانات. ومعنى هذا ان الأخطاء في عدد كبير من المتغيرات اصبحت أخطاء تراكمية (تختلف طبقاً لاختلاف التقديرات)، مما يضيف هامشاً كبيراً من الخطأ في حساب المؤشرات المختلفة، وبالتالي في دليل الاستدامة البيئية الذي استخدم في ترتيب الدول.
· معظم البيانات المستخدمة غير حديثة وتعود الى سنوات مختلفة من التسعينات.
·معظم المؤشرات مبنية على متغيرات غير مناسبة، وأحياناً خاطئة. فمثلاً، كان يجب تقدير مؤشر العلم والتكنولوجيا من المتغيرات الشائعة التي تستخدمها المنظمات الدولية مثل اليونسكو.
·من غير العلمي استخدام البيانات عن تلوث الهواء في مدينة ما ـ حتى لو كانت كاملة وحديثة ـ لحساب مؤشر يمثل تلوث الهواء في الدولة ككل. فمثلاً، لا يمكن استخدام البيانات عن تلوث الهواء في بيروت مؤشراً لتلوث الهواء في جميع أنحاء لبنان. وهذا ما فعله التقرير.
·التقرير قارن بين دول متباينة تبايناً كبيراً، من حيث عدد السكان والظروف الاقتصادية والاجتماعية (وهي الظروف الرئيسية التي تؤثر تأثيراً كبيراً في الأوضاع البيئة). وهو بذلك أشبه بمن يقارن بين الليمون والبرتقال والكانتلوب والبطيخ! وكان يجب أن تقتصر المقارنة والترتيب على مجموعات الدول المتشابهة، مثل المجموعة الأوروبية او مجموعة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية او مجموعة الدول الأفريقية جنوب الصحراء.
لهذه الأسباب، وغيرها، لم يوفق التقرير في تقديم دليل للاستدامة البيئية يمكن الاسترشاد به للتعرف على مدى التقدم في استدامة العمل البيئي.
|
تقرير آخر وخطأ أفدح
لم يكتفِ منتدى دافوس باصدار تقريره عن دليل الاستدامة البيئية، بل أصدر تقريراً آخر بعنوان "دليل الأداء البيئي"، مستخدماً أربعة مؤشرات هي نوعية الهواء، نوعية المياه، التغيرات المناخية، وحماية الأرض (التربة)، تضمنت 13 متغيراً. هذه المرة اقتصر في ترتيب الدول على 23 دولة، معظمها من الدول الأوروبية التي تتوافر بياناتها، ولم يتضمن الترتيب اي دول عربية أو دول نامية اخرى. ولكن، اعتمد التقرير ـ مرة اخرى ـ على بيانات تعود الى التسعينات وعلى استخدام مؤشرات غير سليمة من الناحية العلمية.
وجانب التقرير الصواب عندما دلف الى مناقشة موضوع التغيرات المناخية مستخدماً مؤشراً مبنياً على متغيرين هما كمية انبعاثات ثاني اوكسيد الكربون للفرد، وكمية ثاني اوكسيد الكربون/النتاج المحلي الاجمالي، وقام بترتيب 137 دولة طبقاً لذلك. فجاءت الدول الخمس الآتية الأفضل في العالم: تشاد، اثيوبيا، كامبوديا، بوروندي، مالي. اما الدول الخمس الأسوأ فهي، طبقاً للتقرير: سنغافورة، ترينداد وتوباغو، السعودية، البحرين، الامارات العربية المتحدة.
وهذا الترتيب هو، بطبيعة الحال، غير منطقي وغير مقبول من الناحية العلمية. فكيف يمكن مقارنة دولة من الدول الأقل نمواً في العالم، حيث استخدام الطاقة التجارية يكاد يكون صفراً، بدول أكثر تقدماً وبالتالي أكثر استخداماً للطاقة؟ لابد ان يجيء ترتيب تشاد واثيوبيا وغيرهما أفضل من ترتيب الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا.
لقد جانب الصواب المهرولون الذين أعدوا تقارير دافوس. ونقول لهم: رويداً، رويداً، أعيدوا حساباتكم بأسلوب علمي يعتدّ به.
|
الدكتور عصام الحناوي خبير بيئي عالمي ومدير سابق لدائرة التوقعات البيئية في برنامج الأمم المتحدة للبيئة. وهو كتب هذا العرض التحليلي لـ"البيئة والتنمية".