عام 1986 فرضت اللجنة الدولية لصيد الحيتان حظراً على قتل 13 نوعاً منها، لأهداف تجارية، بعد أن شارف بعضها على الانقراض. وكانت اليابان أكثر المتضررين من هذا الحظر، فتذرعت بالأبحاث العلمية لتتحايل عليه وتصطاد نحو 500 حوت سنوياً. وهي ما زالت تقدم الحجة تلو الأخرى أملاً باعادة الصيد التجاري للحيتان.
والترويج الداخلي لأهمية لحوم الحيتان كطعام تقليدي في اليابان منذ قديم الزمان يأتي ضمن هذه الاستراتيجية. فماذا يقول الياباني العادي في هذا الخصوص؟
كتبت الفتاة يوكو موضوعاً إنشائياً تحكي فيه قصة جدة أمها، التي تجـــاوز عمرها تســـعين سنة، والتي اعتادت، طوال حياتها المديدة أن تتناول لحوم الحيتان كوجبة رئيسية في معظم أيام الأسبوع. قالت ان جدتها مريضة حالياً لأن لحــــوم الحيتان لم تعـد متوفرة، وحين تسألها: "ماذا أُحضـر لك يا جدتي في زيارتي القادمة؟ "ترد الجدة: "لم أذق لحم الحوت منذ زمن بعيد!" ولكن يوكو لا تستطيع تلبية طلب جدتها، لأن ثمة تحظر صيد الحيتان، فاختفت لحومها، أو كادت، من الأسواق. وكتبت الفتاة في نهاية موضوعها: "أنا لا أفهم في أمور الاتفاقيات العالمية، كما أن هذا ليس من شــأني. لكنني أريد أن أوفر الطعام الذي يسعد جدتي ويعينها على الشفاء. إنه لحم الحوت. فمن أين لي به لأقدمه الى جدتي العزيزة ؟"
تأثر وزير التعليم الياباني بما كتبته يوكو، ومنحها جائزة خاصة. وقررت إحدى الهيئات الثقافية اليابانية إصدار كتاب يشتمل على موضوع الإنشاء الذي كتبته، مع مواضيع وحكايات أخرى لفتيات وسيدات يابانيات، وبينهن زوجات صيادين. وترجم الكتاب إلى عدة لغات أجنبية، ليكون وسيلة يعرض اليابانيون من خلالها "قضيتهم" على شعوب العالم.
حكايات الكتاب تؤكد على أن صيد الحيتان لدى اليابانيين ليس مجرد مهنة، بل هو ميراث ممتد عبر الأجيال ويهمهم أن يحافظوا عليه. وقد كتبت فتاة أن اليابان تبدو في الخريطة كأنها طوف كبير ثابت فوق صفحة المحيط الهادئ. وأضافت أن اليابانيين ينظرون إلى المحيط كما ينظر الأميركيون الى البراري التي أوجدت نموذج "راعي البقر" وأمدت المجتمع الأميركي بحيوانات المراعي التي توفر اللحوم. فهل يمكن للأميركيين أن يستغنوا عن اللحوم ؟ وكما يخرج راعي البقر إلى مزرعته في البرية الشاسعة ليجلب بقرة يأكل لحمها، يفعل الصياد الياباني مثله، فيخرج إلى المحيط الواسع ليصطاد حوتاً.
وكتبت سيدة تقول إن اليابانييـن لم يكونوا وحدهم الذين يصيدون الحيتان، فقد شاركهم البريطانيون والألمان والنروجيون والكنديون والاميركيون وغيرهم. وكان هؤلاء يصطادون الكثير من الحيتان من أجل زيوتها، بينما يصطادها اليابانيون ليأخذوا منها الزيت واللحم. فلما تقدمت الصناعات الكيميائية، ظهرت بدائل صناعية للزيوت، فتضاءلت أهمية صيد الحيتان في الدول الغربية، بينما احتفظ اليابانيون بشــغفهـم بلحـومها، فاستمروا في الصيد. وفجأة، استيقظ ضــمير أنصــار حماية البيئة في الغرب، وارتفعت أصواتهم تدعــو الى حظـر صيـد الحيتــان صوناً لها من الانقراض.
ومما كتبته طالبة في مدرسة ثانوية بالعاصمة طوكيو: "إن الحيتان تعيش في المحيطات، متحررة من أي سيطرة. وتعطيها الامتدادات المائية غير المحدودة قدرات هائلة على التجدد والازدهار، فتعوِّض ما تفقده من بنات جنسها في عمليات الصيد أو بالموت الطبيعي. إن ذلك يحدث منذ خلق الله الأرض وما عليها". وتضيف: "إن الصيادين اليابانيين يدركون جيداً أهمية المحافظة على تجمعات الحيتان، لأنها إن تناقصت أو اختفت فلن يجدوا ما يصطادونه، واستمرار حياتهم وأود عائلاتهم رهن باستمرار تجمعات الحيتان في محيطات العالم بحالة جيدة".
وتحكي يوشــيكو، وهي زوجة أحد الصيادين الكبار، أن إعلان حظر الصيد وقع كالصاعقة على ابنتهـا الصغيرة، التي عادت ذات يوم من المدرسة باكية، إذ علمت من معلمتها أن أباها لن يخرج الى الصيد، وأنها ستفقد طبقها المفضل.
وتحت عنوان "ليس بمقدور أحـد أن ينتـزع تقاليـدنا الغذائيـة"، تروي سيدة تدعى ماتسوكو أنها تدير مطعمـاً يقدم أطباقاً مبتـكرة من لحـوم الحيتـان. فجـاءت كارثة حظر الصيـد، لكنها لم تضطر الى الاقفال، لأن الزبائن كانوا يقبلون على مطعمها ليس فقط لتناول لحوم الحيتان، ولكن أيضاً لتأمل تقاليد الطهـي وفنون تقديم الأطباق على المائدة. فلحوم الحيتان ليســت مجرد أكلة، بل هي تقاليد وثقافة يابانية راسخة.
أما السيدة يـوكــو، التي تعمل اختصاصية تغذية في المدارس، فقد لاحظت أن التلاميذ كانوا يبتهجون في اليوم الذي تحتوي فيه الوجبة التي تقدمها لهم المدرسة على لحم الحيتان. ولما أصبح هذا اللحم نادر الوجود، حذفته وزارة التعليم من القائمة المدرسية. فقامت بتأليف كتاب صغير عنوانه "شكراً يا حوت"، وذهبت إلى البرلمان الياباني وتحدثت إلى النوَّاب مطالبةً بعودة لحم الحوت إلى قائمة التغذية المدرسية، معتبرة أن "الطعام ليــس مجرَّد شيء نأكله، بل هو شديد الارتباط بقيم معنوية وموروثات تجعلنـا نقبل عليه ونسعد به".
يقول أحد المسؤولين اليابانيين: "إن الصبية والشباب في طوكـــيو يجرون وراء كل ما هو غربي. لقد انبهروا بالهمبرغر، فماذا كانت النتيجة؟ تراجعت مستويات التحصيل عند تلاميذ المدارس في كثير من المواد. أما المحافظون على التقاليد الغذائية اليابانية، فقدراتهم الذهنية عالية".